546ـ خطبة الجمعة: أثر رمضان على الأمة

546ـ خطبة الجمعة: أثر رمضان على الأمة

546ـ خطبة الجمعة: أثر رمضان على الأمة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلَّمَا هَلَّ هِلَالُ رَمَضَانَ غَمَرَتْنَا الفَرْحَةُ بِهَذَا الشَّهْرِ، وَظَهَرَتِ الغِبْطَةُ وَالحَفَاوَةُ بِهَذَا الزَّائِرِ الكَرِيمِ، وَبِحَمْدِ اللهِ تعالى في كُلِّ عَامٍ تُحْيِي الأُمَّةُ هَذِهِ الشَّعِيرَةَ العَظِيمَةَ، وَهَذَا الرُّكْنَ العَظِيمَ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، وَتُكْبِرُهُ أَيَّمَا إِكْبَارٍ.

في هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ تَتَجَلَّى رَحْمَةُ اللهِ تعالى عَلَى عِبَادِهِ، فَتَنْشَرِحُ صُدُورُهُمْ للصِّيَامِ وَالقِيَامِ وَإِحْيَاءِ اللَّيَالِي وَتِلَاوَةِ القُرْآنِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ تعالى وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ، تَنْشَرِحُ صُدُورُهُمْ استِجَابَةً لِدَعْوَةِ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ القَائِلِ: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدَىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾. فَإِذَا بِالمُؤْمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ يَقُولُ بِلِسَانِ الحَالِ وَالمَقَالِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ؛ طَمَعَاً لِنَيْلِ البِشَارَةِ العَظِيمَةِ التي أَخْبَرَ عَنْهَا الصَّادِقُ المَصْدُوقُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: رَبِّ إِنِّي مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ؛ فَيُشَفَّعَانِ» رواه الحاكم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

أَثَرُ رَمَضَانَ عَلَى الأُمَّةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذَا الشَّهْرُ العَظِيمُ المُبَارَكُ شَهْرُ رَمَضَانَ لَهُ أَثَرٌ كَبِيرٌ عَلَى الأُمَّةِ، حَيْثُ يُحَرِّكُ فِيهَا الجَوَانِبَ الإِيمَانِيَّةَ، وَيُحَرِّكُ القُلُوبَ نَحْوَ عَلَّامِ الغُيُوبِ، وَإِذَا تَحَرَّكَتِ القُلُوبُ نَحْوَ عَلَّامِ الغُيُوبِ ظَهَرَتْ آثَارُ ذَلِكَ عَلَى الجَوَارِحِ؛ مِنْ هَذِهِ الآثَارِ:

أولاً: التَّوَجُّهُ للقُرْآنِ العَظِيمِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: في شَهْرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ تَتَوَجَّهُ القُلُوبُ إلى القُرْآنِ العَظِيمِ، فَتَرَى الذينَ لَا يَكَادُونَ أَنْ يَلْمِسُوا القُرْآنَ العَظِيمَ خِلَالَ العَامِ كُلِّهِ، فَإِذَا بِهِمْ تَرِقُّ قُلُوبُهُمْ، وَيُقْبِلُونَ عَلَى كِتَابِ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، تَرَاهُمْ في المَسَاجِدِ وَالبُيُوتِ يَتْلُونَ كِتَابَ رَبِّهِمْ، لَعَلَّ اللهَ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يَزِيدَ في إِيمَانِهِمْ، لَعَلَّ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَهُمْ لِيُحِلُّو حَلَالَ القُرْآنِ وَيُحَرِّمُوا حَرَامَهُ، لَعَلَّ اللهَ تعالى أَنْ يُشَفِّعَ فِيهِمُ القُرْآنَ وَالصِّيَامَ.

ثانياً: التَّوَجُّهُ لِصَلَاةِ الجَمَاعَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ آثَارِ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى الأُمَّةِ أَنَّكَ تَرَاهَا قَدْ تَوَجَّهَتْ إلى بُيُوتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَجْلِ المُحَافَظَةِ عَلَى صَلَاةِ الجُمُعَةِ وَالجَمَاعَاتِ، إِحْيَاءً لِشَعِيرَةِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ، فَيَتْرُكُونَ صَلَاةَ الفَذِّ المُنْفَرِدِ، وَيَحْرِصُونَ عَلَى الجَمَاعَةِ، وَخَاصَّةً صَلَاةَ الفَجْرِ بَعْدَ أَنْ نَسُوا أَدَاءَهَا طَوَالَ أَيَّامِ السَّنَةِ.

تَرَى الأُمَّةَ حَافَظَتْ عَلَى صَلَاةِ النَّوَافِلِ، وَأَكْثَرَتْ مِنْهَا طَمَعَاً بِالحَدِيثِ القُدْسِيِّ: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

تَرَاهَا أَقْبَلَتْ عَلَى إِحْيَاءِ لَيَالِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَصَلَاةِ التَّهَجُّدِ وَالقِيَامِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ إِحْيَاءُ بَعْضِهِمْ عَلَى المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ بِكُلِّ صُوَرِهَا وَأَشْكَالِهَا.

ثالثاً: التَّوَجُّهُ للفُقَرَاءِ وَأَصْحَابِ الحَاجَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ آثَارِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ عَلَى الأُمَّةِ أَنَّكَ تَرَى أَغْنِيَاءَهَا يَتَوَجَّهُونَ إلى الفُقَرَاءِ لِيُزِيحُوا عَنْهُمْ هُمُومَهُمْ وَغُمُومَهُمْ بِإِعْطَائِهِمْ مِنْ فَضْلِ اللهِ تعالى عَلَيْهِمْ، فَتَكْثُرُ الصَّدَقَاتُ، وَالتَّبَرُّعَاتُ، وَالعَطَايَا، فَضلَاً عَنِ الزَّكَوَاتِ وَصَدَقَةِ الفِطْرِ.

وَبِهَذَا الإِقْبَالِ تُغْسَلُ القُلُوبُ مِنَ الأَحْقَادِ وَالضَّغَائِنِ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِ الأَغْنِيَاءِ يَقُولُ: سَامِحُونَا سَامِحُونَا قَدْ قَصَّرْنَا في حَقِّكُمْ، وَبِذَلِكَ تَتَجَلَّى قِيَمُ التَّكَامُلِ وَالتَّرَاحُمِ وَالصِّلَةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ في أَبْهَى صُوَرِهَا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ خِلَالِ مَا ذَكَرْتُ نَفْهَمُ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْعِبَادُ مَا فِي رَمَضَانَ لَتَمَنَّتْ أُمَّتِي أَنْ تَكُونَ السَّنَةُ كُلُّهَا رَمَضَانَ» رواه أبو يعلى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

في رَمَضَانَ تَتَوَحَّدُ الأُمَّةُ وَتَتَآلَفُ مِنْ خِلَالِ عِبَادَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، في رَمَضَانَ تَعْلُو قِيمَةُ الجَمَاعَةِ، في رَمَضَانَ يَتَجَدَدُ إِحْيَاءُ الشَّعَائِرِ الإِسْلَامِيَّةِ، في رَمَضَانَ يَتَكَافَلُ النَّاسُ عِنْدَمَا يَجْتَمِعُونَ، وَيُحِسُّ بَعْضُهُمْ بِبَعضٍ.

مَا أَعْظَمَكَ يَا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَمَا أَعْظَمَ بَرَكَاتِكَ، وَمَا أَحْلَى صِيَامَ أَيَّامِكَ، وَقِيَامَ لَيَالِيكَ.

هَيَّا يَا عِبَادَ اللهِ، لِنُرِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مِنَّا خَيْرَاً في هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَنَحْنُ نَسْمَعُ النِّدَاءَ الإِلَهِيَّ: «يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ» رواه الترمذي والحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا للصِّيَامِ وَالقِيَامِ عَلَى النَّحْوِ الذي يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 29/ شعبان /1438هـ، الموافق: 26/ أيار / 2017م

 2017-05-26
 1794
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 38 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 38
12-04-2024 661 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 661
09-04-2024 560 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 560
04-04-2024 680 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 680
28-03-2024 570 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 570
21-03-2024 1001 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1001

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412813854
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :