564ـ خطبة الجمعة: الخلف في الوعد

564ـ خطبة الجمعة: الخلف في الوعد

 

564ـ خطبة الجمعة: الخلف في الوعد

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: صِدْقُ الوَعْدِ خَصْلَةٌ كَرِيمَةٌ، وَصِفَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ صِفَاتِ وَخِصَالِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهِيَ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الإِيمَانِ، وَخُلُقٌ عَظِيمٌ مِنْ أَخْلَاقِ الإِسْلَامِ، عَزَّ وُجُودُهُا وَنَدَرَ، وَخَاصَّةً في هَذِهِ الأَيَّامِ، حَيْثُ نَسْمَعُ الوُعُودَ الَمعْسُولَةَ، وَالعُهُودَ المَسْمُوعَةَ، وَلَكِنْ أَيْنَ الوَفَاءُ بِالعَهْدِ؟ وَأَيْنَ الصِّدْقُ في الوَعْدِ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ أَثْنَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى سَيِّدِنَا إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصِدْقِ الوَعْدِ، لِعِظَمِ شَأْنِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَهَذَا الخُلُقِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولَاً نَبِيَّاً﴾.

«لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيَّ»:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَدِيدَ التَّحَرِّي للوَفَاءِ بِالوَعْدِ، فَمَا عُرِفَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ  أَخْلَفَ مَوعِدَاً وَعَدَهُ، وَلَا أَنَّهُ نَقَضَ عَهْداً عَاهَدَهُ؛بِهَذَا الخُلُقِ السَّامِي العَالِي مَالَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ قَبْلَ بِعْثَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى أَسْمَاهُ الـمُشْرِكُونَ: الصَّادِقَ الأَمِينَ.

لَمْ يَكُنْ هَذَا الخُلُقُ لَقَبَاً صُورِيَّاً مَبْنِيَّاً عَلَى نِفَاقٍ، بَلْ كَانَ وَاقِعَاً عَمَلِيَّاً، حَيْثُ كَانَ الصِّدْقُ وَالأَمَانَةُ حَقِيقَةً لَا وَهْمَاً في حَيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

جَاءَ في سُنَنِ أَبِي داود عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي الْحَمْسَاءِ قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعٍ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ، فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ، فَنَسِيتُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَجِئْتُ فَإِذَا هُوَ فِي مَكَانِهِ.

فَقَالَ: «يَا فَتَى، لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيَّ، أَنَا هَاهُنَا مُنْذُ ثَلَاثٍ أَنْتَظِرُكَ».

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ عَلَّمَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَوْلَاً وَعَمَلَاً الوَفَاءَ بِالوَعْدِ، وَعَدَمَ إِخْلَافِ العَهْدِ.

الخُلْفُ في الوَعْدِ مِنْ صِفَاتِ المُنَافِقِينَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ العَالَمَ اليَوْمَ بِأَسْرِهِ بِجَمِيعِ شَرَائِحِهِ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى صِفَةِ صِدْقِ الوَعْدِ، لِأَنَّ الخُلْفَ في الوَعْدِ مِنْ صِفَاتِ المُنَافِقِينَ كَمَا تَعْلَمُونَ جَمِيعَاً.

مَنْ مِنَّا لَمْ يَحْفَظْ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»؟ رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

مَنْ مِنَّا لَمْ يَحْفَظْ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقَاً خَالِصَاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»؟ رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

يَا عِبَادَ اللهِ: عِلْمٌ بِلَا عَمَلٍ جُنُونٌ، وَعَمَلٌ بِلَا عِلْمٍ لَا يَكُونُ؛ لِمَاذَا نَحْنُ مُتَنَاقِضُونَ بَيْنَ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ؟

الكُلُّ يَعْلَمُ بِأَنَّ الوَفَاءَ بِالوَعْدِ خُلُقٌ حَسَنٌ، وَالخُلْفَ فِيهِ خُلُقٌ سَيِّئٌ؛ الكُلُّ يَضِيقُ صَدْرُهُ إِذَا وُعِدَ فَأَخْلَفَ الآخَرُ في وَعْدِهِ، وَلَا يَضِيقُ صَدْرُهُ إِذَا وَعَدَ هُوَ وَأَخْلَفَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: عَارٌ عَلَيْنَا أَنْ نُوصَفَ بِخُلْفِ الوَعْدِ، أَوْ أَنْ يَقُولَ لَنَا أَحَدُهُمْ أُرِيدُ مِنْكَ وَعْدَاً انْجِلِيزِيَّاً لَا عَرَبِيَّاً.

مَعَ أَنَّهُ وَاللهِ الكُلُّ يَعْلَمُ بِأَنَّ وُعُودَ الغَرْبِ وَالشَّرْقِ وُعُودٌ مُزَيَّفَةٌ بَاطِلَةٌ، وَعَدٌ بِلَيْلٍ يُخْلَفُ بِنَهَارٍ، وَوَعْدٌ بِنَهَارٍ يُخْلَفُ بِلَيْلٍ، تَصْرِيحٌ يُنَاقِضُ تَصْرِيحَاً، وَالكُلُّ يُخْلِفُ مَعَ الكُلِّ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى.

رَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

لَا كَلَّفَ اللهُ نَفْسَاً فَوْقَ طَاقَتِهَا   ***   وَلَا تَجُـودُ يَـدٌ إِلَّا بِـمَـا  تَجِــــدُ

فَـلَا تَـعِـدْ عِـدَةً إِلَّا وَفَّيْتَ بِهَا   ***   وَاحْذَرْ خِلَافَ مَقَالٍ للذي تَعِدُ

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

إِذَا قُـلْـتَ في شَـيْءٍ: نَـعَمْ فَأَتِمَّهُ   ***   فَإِنَّ نَعَمْ دَيْنٌ عَلَى الحُرِّ وَاجِبُ

وَإِلَّا فَقُلْ: لَا؛ تَسْتَرِحْ وَتُرِحْ بِهَا   ***   لِئَلَّا يَقُولَ النَّاسُ: إِنَّكَ كَاذِبُ

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

لَئِنْ جَمَعْتَ الآفَاتِ فَالبُخْلُ شَرُّهَا   ***   وَشَرٌّ مِنَ البُخْلِ المَوَاعِيدُ وَالمَطْلُ

وَلَا خَيْرَ في وَعْـدٍ إِذَا كَـانَ كَاذِبَـاً   ***   وَلَا خَيْرَ في قَوْلٍ إِذَا لَمْ يَـكُنْ فِعْلُ

إِيَّايَ وَإِيَّاكُم أَنْ نَعِدَ بِشَيْءٍ وَلَا نَفِيَ بِهِ،إِيَّايَ وَإِيَّاكُم مِنَ الخُلْفِ في وَعْدٍ إِلَّا لِعَجْزٍ أَو ضَرُورَةٍ، لِأَنَّ الخُلْفَ في الوَعْدِ مِنْ أَمَارَاتِ النِّفَاقِ، وَخَبَائِثِ الأَخْلَاقِ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا صَادِقِي الوَعْدِ وَالعَهْدِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 24/ ذو الحجة/1438هـ، الموافق: 15/ أيلول / 2017م

 2017-09-15
 6705
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

12-04-2024 222 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 222
09-04-2024 480 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 480
04-04-2024 647 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 647
28-03-2024 533 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 533
21-03-2024 939 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 939
14-03-2024 1609 مشاهدة
904ـ خطبة الجمعة: حافظوا على الطاعات والعبادات

فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ عَامِلٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهُ هَدَفٌ يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا. وَقِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ تَأْتِي ... المزيد

 14-03-2024
 
 1609

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3159
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412424926
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :