360ـ خطبة الجمعة: من أجل كشف الغمة (5) الكف عن الظلم

360ـ خطبة الجمعة: من أجل كشف الغمة (5) الكف عن الظلم

 

 360ـ خطبة الجمعة: من أجل كشف الغمة (5)

الكف عن الظلم

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عِبادَ الله، إنَّ الغُمَّةَ التي أطبَقَت عَلَينا ، والهَمَّ والغَمَّ والكَربَ العَظيمَ الذي سَيطَرَ على القُلوبِ إلا من رَحِمَ اللهُ تعالى هوَ بِكَسبِ أيدينا، قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير﴾. وقال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾. فمن أنفُسِنا أُصِبنا، وصَدَقَ اللهُ القائِلُ: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون﴾.

الظُّلمُ من أكبَرِ المُوبِقاتِ:

يا عِبادَ الله، مِمَّا كَسَبَت أيدي النَّاسِ فيما خَلا من أعوامٍ وما زالَ هوَ الظُّلمُ، الذي هوَ ظُلُماتٌ في الدُّنيا والآخِرَةِ، هوَ الظُّلمُ الذي حَرَّمَهُ اللهُ تعالى على نَفسِهِ قَبلَ أن يُحَرِّمَهُ على العِبادِ، هوَ الظُّلمُ المُنافي للحَقِّ والعَدْلِ.

رَبُّنا عزَّ وجلَّ الذي لا يُسألُ عمَّا يَفعَلُ حَرَّمَ الظُّلمَ على نَفسِهِ، وألزَمَ ذاتَهُ العَلِيَّةَ بالحَقِّ والعَدْلِ، فقال تعالى في الحَديثِ القُدسِيِّ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلَا تَظَالَمُوا». وقال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيد﴾.

رَبُّنا عزَّ وجلَّ حَرَّمَ الظُّلمَ على نَفسِهِ وحَرَّمَهُ على عِبادِهِ، ومعَ هذا اجتَرأَ البَعضُ فَأَحَلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ تعالى عَلَيهِم فَظَلَموا؛ جُرأَةٌ عَظيمَةٌ والله لا تَصدُرُ إلا من قَلبٍ غافِلٍ عن الله تعالى، ناسٍ وُقوفَهُ بَينَ يَدَيِ الله تعالى، يَومَ يَقومُ النَّاسُ لِرَبِّ العالَمينَ.

يا عِبادَ الله، لمَّا كانَ الظُّلمُ مُنافِيَاً للعَدْلِ والحَقِّ، ومُنافِيَاً للميزانِ الذي قامَت به السَّماواتُ والأرضُ، كانَ من أكبَرِ المُوبِقاتِ ومن أكبَرِ الكَبائِرِ.

عَواقِبُ الظُّلمِ وَخيمَةٌ:

يا عِبادَ الله، إنَّ الظُّلمَ سَبَبٌ عَظيمٌ من أسبابِ نُزولِ البَلاءِ والغُمَّةِ والكَربِ العَظيمِ، بل هوَ سَبَبٌ عَظيمٌ من أسبابِ هَلاكِ الأُمَّةِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

هل من مُعتَبِرٍ؟

يا عِبادَ الله، هل عَلِمَ الظَّالِمونَ والطَّاغونَ أنَّ كُلَّ من في السَّماواتِ والأرضِ يَلعَنُهُم؟ بل تَلعَنُهُم جَميعُ المَخلوقاتِ، حتَّى الحِيتانُ في البِحارِ، والطُّيورُ في أوكارِها، والنَّملُ فَوقَ ظُهورِ الأحجارِ.

أولاً: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد؟﴾:

يا عِبادَ الله، هل عَمِيَت أبصارُ الطُّغاةِ المُجرِمينَ الظَّالِمينَ، وهل طُمِسَت بَصائِرُهُم عن رُؤيَةِ ما فَعَلَ اللهُ تعالى بالأُمَمِ السَّالِفَةِ؟ قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَاد * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاد * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَاد * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَاد * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاد * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَاد * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَاب * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد﴾.

ثانياً: ﴿فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ﴾:

يا عِبادَ الله، هل صُمَّت آذانُ الطُّغاةِ المُجرِمينَ الظَّالِمينَ الذينَ عاثوا في الأرضِ فَساداً عن مَعرِفَةِ مَصيرِ الطُّغاةِ الوَخيمِ، ومُنقَلَبِ العُتاةِ الذَّميمِ، الذي أخبَرَ عنهُ مَولانا عزَّ وجلَّ في كِتابِهِ العَظيمِ فقال: ﴿فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون﴾.

ثالثاً: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُون؟﴾:

يا عِبادَ الله، هل سَألَ هؤلاءِ الطُّغاةُ المُجرِمونَ الظَّالِمونَ البَاغونَ أينَ آثارُ أسلافِهِمُ الذينَ سَبَقوهُم إلى الآخِرَةِ؟ هل رَجَعَ هؤلاءِ إلى كِتابِ رَبِّهِم ـ وهوَ رَبُّهُم رَغمَ أُنوفِهِم إنْ شاؤوا وإنْ أبَوا ـ الذي سَطَّرَ في القُرآنِ العَظيمِ العِبَرَ لمن أرادَ أن يَعتَبِرَ؟ هل قَرَأَ هؤلاءِ قَولَ الله تعالى: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُون * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيم * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِين * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِين * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِين﴾؟

رابعاً: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ﴾؟

يا عِبادَ الله، هل عَلِمَ العَبيدُ جَميعاً أنَّهُ لَيسَ بَينَهُم وبَينَ الله تعالى الحَميدِ المَجيدِ الفَعَّالِ لما يُريدُ حَسَبٌ ولا نَسَبٌ، إلا ما كانَ من صَالِحِ العَمَلِ والسَّبَبِ؟ ألم يَسمَعوا قَولَ الله تعالى: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِين﴾؟

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يا عبادَ الله، عَودٌ على بِدءٍ، ما حَلَّ بنا إنَّما هوَ من كَسبِ أيدينا، فهل سَمِعَتِ الأُمَّةُ بِقَضِّها وقَضِيضِها، من حاكِمِها ومَحكومِها، بأنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ.

يا عِبادَ الله، إذا أرَدْنا كَشفَ الغُمَّةِ عن هذا البَلَدِ، وإذا أرَدْنا أن يَكشِفَ اللهُ تعالى عنَّا هذا الكَربَ العَظيمَ فَعَلَينا جَميعاً تَرْكُ الظُّلمِ، عَلَينا جَميعاً بِدونِ استِثناءٍ أن لا نَسلُكَ سَبيلَ الظَّلَمَةِ الفُجَّارِ، لأنَّ لَذَّاتِهِم ذَهَبَت وبَقِيَ عَلَيهِمُ العَارُ، هذا في حَياتِهِمُ الدُّنيا.

أمَّا إذا قامَتِ القِيامَةُ وبَرَزوا لله الواحِدِ القَهَّارِ، صارَت سَرابِيلُهُم من قَطِرانٍ، وتَغشى وُجوهَهُمُ النَّارَ.

يا عِبادَ الله، عَزاؤُنا إنْ كُنَّا مَظلومينَ قَولُهُ تعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَار﴾.

أسألُ اللهَ تعالى أن يَرُدَّنا إلى دِينِهِ رَدَّاً جَميلاً. آمين.

أقولُ هَذا القَولَ، وأَستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 10/صفر /1435هـ، الموافق: 13/كانون الأول / 2013م

 2013-12-13
 19374
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 135 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 135
12-04-2024 760 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 760
09-04-2024 592 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 592
04-04-2024 703 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 703
28-03-2024 606 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 606
21-03-2024 1062 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1062

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413116659
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :