أهلا بكم في موقع الشيخ أحمد شريف النعسان

1445 - هل يقع يمين الحرام طلاقاً؟

14-10-2008 214211 مشاهدة
 السؤال :
إذا تعارض العرف مع النص فبأيهما نأخذ؟ ومثال ذلك عندنا في العرف إذا قال الرجل علي الحرام يفهم من ذلك أنه يقصد زوجته والنص غير ذلك الآية: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} والحديث عن ابن عباس قال: إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها، وقال: {لقد لكم في رسول الله أسوة حسنة}. متفق عليه، وغيره من الآيات والأحاديث فما هو الجواب الصحيح لهذا؟ وما هي أقوال الفقهاء في هذه المسألة؟ وهل نأخذ بهذا النص الصحيح الصريح أم نأخذ بالعرف؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 1445
 2008-10-14

الجواب: الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أولاً: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} القول الصحيح في سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم العسل، كما جاء في صحيح البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَاحْتَبَسَ عِنْدَهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي: أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ فَسَقَتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مِنْهُ شَرْبَةً، فَقُلْتُ: أَمَا وَالله لَنَحْتَالَنَّ لَهُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ وَقُلْتُ: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ، فَقُولِي لَهُ: يَا رَسُولَ الله أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: لا، فَقُولِي لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِي لَهُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، وَسَأَقُولُ ذَلِكِ لَهُ، وَقُولِيهِ أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: وَالَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أُبَادِئَهُ بِالَّذِي قُلْتِ لِي وَإِنَّهُ لَعَلَى الْبَابِ فَرَقًا مِنْكِ، فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: لا، قَالَتْ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ قَالَ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ. قَالَتْ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ فَقَالَتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله أَلا أَسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَالَ: لا حَاجَةَ لِي بِهِ، قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: سُبْحَانَ الله، وَالله لَقَدْ حَرَمْنَاهُ، قَالَتْ: قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي).

العكَّة: هي وعاء من جلد مستدير، يوضع فيه السمن والعسل. مغافير: شيء ينضحه شجر العرفط، حلو كالناطف، واحدُه مُغفور، وله ريح كريهةٌ منكرة، جرست: أكلت. العُرْفُط: شجَرُ الطَّلْح، وله صَمْغٌ كريهُ الرَّائحة، فإذا أكَلتْه النَّحلُ حصَل في عسلها من ريحهِ. كما في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير.

وروى مسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلاً، قَالَتْ: فَتَوَاطَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا مَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ: فَنَزَلَ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ إِلَى قَوْلِهِ إِنْ تَتُوبَا} لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} لِقَوْلِهِ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً).

وما أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ عِنْدَ سَوْدَةَ مِنَ الْعَسَلِ، فَيَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحًا، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحًا، فَقَالَ: إِنِّي أُرَاهُ مِنْ شَرَابٍ شَرِبْتُهُ عِنْدَ سَوْدَةَ، وَالله لا أَشْرَبُهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ}).

ويقول القاضي أبو بكر ابن العربي: إنما الصحيح أن التحريم كان في العسل. وأما ما روي عنه أنه حرَّم على نفسه مارية القبطية، كما ذكر الدارقطني عن عمر، فهو وإن قرب من حيث المعنى، لكنه لم يدوَّن في صحيح، ولا نقله عدل. اهـ.

هذا فيما يتعلَّق بالآية الكريمة، أما بالنسبة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال: إذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} رواه مسلم، ومثله ما جاء في صحيح البخاري، نعم هو كما قال سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما، لأنه ما كان متعارفاً عليه بأنه من ألفاظ الطلاق، ولأن تحريم الإنسان على نفسه شيئاً أحلَّه الله تعالى يقوم مقام الحلف بالله تعالى، كما جاء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَالله غَفُورٌ رَّحِيم * قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}.

أما اليوم في بلاد الشام فقد تعارف الناس على أن لفظ الحرام كلمة طلاق، مع أن الأصل فيه أنه من ألفاظ الكناية، يقول ابن عابدين رحمه الله تعالى:

والعرف في الشرع له اعتبار *** لذا عليه الحكم قد يدار

ولفظ الحرام صار عرفاً عاماً في بلاد الشام بمعنى الطلاق، والعرف حجة في التشريع، وذلك لقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}، ولقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)، وللقاعدة الفقهية: (العادة مُحَكَّمة) مادة 36 مجلة، وللقاعدة: (لا ينكر تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان) مادة 39 مجلة، وللقاعدة: (استعمال الناس حجّة يجب العمل بها) مادة 37 مجلة، وللقاعدة: (التعيين بالعرف كالتعيين بالنص) مادة 45 مجلة.

والعرف يصلح أن يكون مخصِّصاً للدليل الشرعي، كما جاء في رسائل ابن عابدين، والأشباه والنظائر للسيوطي، والموافقات للشاطبي.

وبناء على ذلك:

فقد جاء في حاشية ابن عابدين:

والحاصل أنه لما تُعورف به الطلاق ـ أي لفظ الحرام ـ صار معناه تحريم الزوجة، وتحريمها لا يكون إلا بالبائن، هذا غاية ما ظهر لي في هذا المقام. اهـ.

ويقول رحمه الله: وقد مرَّ أن الوقوع بقوله عليَّ الطلاق إنما هو للعرف لأنه في حكم التعليق، وكذا عليَّ الحرام، وإلا فالأصل عدم الوقوع أصلاً كما في طلاقك عليَّ كما تقدَّم تقريره، فحيث كان الوقوع بهذين اللفظين للعرف ينبغي أن يقع بهما المتعارف بلا فرق بينهما، وإن كان الحرام في الأصل كناية يقع بها البائن لأنه لما غلب استعماله في الطلاق لم يبق كناية، ولذا لم يتوقَّف على النيَّة أو دَلالة الحال. اهـ.

وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير في الفقه المالكي:

وأما لو قال: علي الحرام بالتعريف، وحنِث، فإنه يلزمه الثلاث في المدخول بها ولا يُنَوَّى فيها. اهـ.

وجاء في حاشيتي قليوبي وعميرة في الفقه الشافعي:

ولو اشتهر لفظٌ للطلاق كالحُلاَّل بالضم، أو حلال الله عليَّ حرام، أو أنت عليَّ حرام، فصريح في الأصح عند من اشتهر عندهم لغلبة الاستعمال، وحصول التفاهم به عندهم. اهـ. وكذا جاء في مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج.

وأخيراً أنقل لك كلام البقوري في ترتيب الفروق في هذه المسألة يقول:

وقد علَّق الفقيه المحقِّق قاسم بن الشاطر على ذلك بقوله: ما قاله القرافي ظاهر صحيح والله تعالى أعلم، ثم قال ابن الشاطر بعد ذلك:

المستعمل لهذه الألفاظ إن كان استعماله إياها وفيها عرفٌ وقتي لزم حملها عليه، وإلا فعلى الشرعي، وإلا فعلى العرفي، وإلا فعلى اللغوي.

فإن أفتى الفقيه بالوقتي بهذا الترتيب عند وجود العرف الوقتي فهو مصيب، وإن أفتى عند وجود العرف الوقتي باعتبار العرف الشرعي، أو العرف اللغوي العرفي، أو اللغوي الأصلي، وألغى العرف الوقتي فهو مخطئ. اهـ. كلام ابن الشاطر.

وقال القرافي: ومن الأغوار التي لم ينبه عليها الإمام أبو عبد الله المازري: أن المفتي إذا جاءه رجل يستفتيه عن لفظة من هذه الألفاظ، وعُرف بلد المفتي في هذه الألفاظ غير عرف بلد المستفتي، لا يفتيه بحكم بلده، بل يسأله: هل هو من أهل بلد المفتي؟ فيفتيه بحكم ذلك البلد، أو هو من بلد آخر فيسأله حينئذ عن المشتهر في ذلك البلد فيفتيه به، ويحرم عليه أن يفتيه بحكم بلده.

وقال أيضاً: فهذه قاعدة لا بدَّ من ملاحظتها، وبالإحاطة بها يظهر لك غلط كثير من الفقهاء المفتين، فإنهم يُجرون المسطورات في كتب الأئمة على أهل الأعصار في سائر الأمصار، وذلك خلاف الإجماع، وهم عُصاة آثمون عند الله تعالى غير معذورين بالجهل، لدخولهم في الفتيا وليسوا أهلاً لها، ولا عالمين بمدارك الفتاوى وشروطها، واختلاف أحوالها. اهـ. من كتاب الفروق للقرافي.

أقول: وهذه هي المصيبة الكبرى في مسألة الفتيا من خلال أجهزة الإعلام المسموعة أو المرئية، حيث لا يسأل المفتي المستفتي من أيّ البلاد هو؟ وما هو العرف السائد عندهم؟ هذا، والله تعالى أعلم.

 

المجيب : الشيخ أحمد شريف النعسان
214211 مشاهدة