533ـ خطبة الجمعة: يا أيها المغرور، تذكر يوم القيامة
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا عِبَادَ اللهِ: رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَخْلُقْنَا عَبَثَاً ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثَاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾. وَإِنَّمَا خَلَقَنَا لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. وَنَحْنُ مَسْؤُولُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَنْ جَمِيعِ أَعْمَالِنَا ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
فَمَنْ عَرَفَ أَنَّهُ مَسْؤُولٌ بَيْنَ يَدَيْ مَوْلَاهُ جَلَّ وَعَلَا، فَلْيُعِدَّ للسُّؤَالِ جَوَابَاً، وَلِلْجَوَابِ صَوَابَاً، وَلْيُنْقِذْ نَفْسَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ تعالى، وَذَلِكَ بِمُتَابَعَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرَاً﴾.
عَلَى قَدْرِ الإِجَابَةِ الصَّحِيحَةِ يَكُونُ الفَوْزُ:
يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ أَوْجَبِ الوَاجِبَاتِ، وَمِنْ أَعْظَمِ المَسْؤُولِيَّاتِ في حَيَاتِنَا الدُّنْيَا، أَنْ نَسْتَغِلَّ فُرْصَةَ هَذِهِ الحَيَاةِ، وَأَنْ نَسْتَعِدَّ للسُّؤَالِ يَوْمَ القِيَامَةِ، عِنْدَمَا يَقِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا بَيْنَ يَدَيْ مَوْلَاهُ القَائِلِ: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
عَلَى قَدْرِ الإِجَابَةِ الصَّحِيحَةِ يَكُونُ الفَوْزُ وَالسَّعَادَةُ وَالنَّجَاحُ وَالفَلَاحُ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ في ذَلِكَ اليَوْمِ الذي تَنْكَشِفُ فِيهِ الحَقَائِقُ، وَتَزُولُ الحُجُبُ، وَعِنْدَهَا يَقُولُ أَهْلُ الغَفْلَةِ: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾.
يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ أَقْسَمَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّنَا سَوْفَ نُسْأَلُ، فَقَالَ: ﴿فَوَرَبِّكَ﴾. يَا رَسُولَ اللهِ، يَا سَيِّدَ الخَلْقِ، يَا حَبِيبَ الحَقِّ ﴿لَنَسْأَلَنَّهُمْ﴾. لَامُ التَّوْكِيدِ، وَنُونُ التَّوكِيدِ الثَّقِيلَةِ ﴿أَجْمَعِينَ﴾. بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ.
سَوْفَ يُسْأَلُ أَهْلُ الطَّاعَةِ، وَأَهْلُ المَعْصِيَةِ؛ أَهْلُ الإِيمَانِ، وَأَهْلِ الشِّرْكِ؛ سَوْفَ يُسْأَلُ الحَاكِمُ وَالمَحْكُومُ، سَوْفَ يُسْأَلُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، سَوْفَ يُسْأَلُ الأَقْوِيَاءُ وَالضُّعَفَاءُ، سَوْفَ يُسْأَلُ الجَمِيعُ؛ سَوْفَ يُسْأَلُ الجَمِيعُ يَوْمَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ، سَوْفَ يُسْأَلُ مَنْ آمَنَ بِيَوْمِ البَعْثِ، وَمَنْ كَفَرَ بِهِ ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾.
يَا أَيُّهَا المَغْرُورُ، تَذَكَّرْ يَوْمَ القِيَامَةِ:
يَا عِبَادَ اللهِ: قُولُوا لِهَذَا العَبْدِ المَغْرُورِ الذي عَاثَ في الأَرْضِ فَسَادَاً، وَلَمْ يَسْتَجِبْ لِقَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
قُولُوا لِمَنْ ظَلَمَ وَجَارَ، قُولُوا لِمَنْ كَانَ لِآيَاتِ اللهِ تعالى عَنِيدَاً، قُولُوا لِمَنْ نُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قَلْبِهِ، قُولُوا لِمَنْ لَمْ تَهُزَّهُ الأَحْدَاثُ التي جَرَتْ وَتَجْرِي في بِلَادِ الشَّامِ، وَهُوَ مُـصِرٌّ على مَا هُوَ عَلَيْهِ، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَسَلْبِ الأَمْوَالِ، وَتَرْوِيعِ الآمِنِينَ، وَتَهْدِيمِ البُيُوتِ، وَإِتْلَافِ الأَمْوَالِ العَامَّةِ، قُولُوا لِمَنْ كَانَ وَمَا زَالَ مُحَرِّضَاً على القِتَالِ وَدَاعِمَاً لَهُ: تَذَكَّرْ قَوْلَهُ تعالى: ﴿يَوْمَاً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبَاً﴾. تَذَكَّرْ قَوْلَهُ تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾. تَذَكَّرْ قَوْلَهُ تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
تَذَكَّرْ قَوْلَهُ تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾. وَصَحِّحْ مَسَارَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، صَحِّحْ مَسَارَكَ قَبْلَ أَنْ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْ مَوْلَاكَ القَائِلِ: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ﴾. يَعْنِي: في عَرَصَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، حَيْثُ الاسْتِسْلَامُ، وَعَدَمُ وُجُودِ النَّصِيرِ ﴿مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾. لَيْسَ هُنَاكَ أَنْصَارٌ، وَلَيْسَ هُنَاكَ فِدْيَاتٌ، بَلْ هُنَاكَ تُصَبُّ اللَّعَنَاتُ وَالحَسَرَاتُ ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعَاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابَاً ضِعْفَاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنَاً كَبِيرَاً﴾. صَحِّحْ مَسَارَكَ قَبْلَ أَنْ تَنْدَمَ وَلَا يَنْفَعُكَ النَّدَمُ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَجْعَلْ نُصْبَ أَعْيُنِنَا قَوْلَهُ تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. سَوْفَ نُسْأَلُ عَنْ أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا، فَلْنُعِدَّ جَوَابَاً لِهَذَا السُّؤَالِ أَمَامَ عَلَّامِ الغُيُوبِ، أَمَامَ الذي يَعْلَمُ الـسِّرَّ وَأَخْفَى، أَمَامَ القَهَّارِ الذي قَالَ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرَاً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدَاً﴾. أَعِدَّ جَوَابَاً، وَلْيَكُنْ صَوَابَاً.
يَا عِبَادَ اللهِ: تَرْجِمُوا عَنْ إِيمَانِكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، كَيْفَ يَتَوَافَقُ الإِيمَانُ مَعَ ازَهْاقِ الأَرْوَاحِ؟ كَيْفَ يَتَوَافَقُ الإِيمَانُ مَعَ سَلْبِ الأَموَالِ وَأَكْلِهَا بِالبَاطِلِ؟ كَيْفَ يَتَوَافَقُ الإِيمَانُ مَعَ تَحْرِيضِ المُؤْمِنِينَ لِقِتَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضَاً؟ كَيْفَ يَتَوَافَقُ الإِيمَانُ مَعَ زَرْعِ نَارِ العَدَاوَاتِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ؟
الإِيمَانُ لَيْسَ بَالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي، وَلَكِنَّهُ مَا وَقَرَ في القَلْبِ وَصَدَّقَتْهُ الأَعْمَالُ؛ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُخْلِصَاً دَخَلَ الْجَنَّةَ».
قِيلَ: وَمَا إِخْلَاصُهَا؟
قَالَ: «أَنْ تَحْجُزَهُ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» رواه الطَّبَرَانِيُّ في الأَوْسَطِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَيَا مَنْ حَبَّبْتَ إلى قُلُوبِنَا الإِيمَانَ، اشْرَحْ صُدُورَنَا للإِسْلَامِ. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 27/ جمادى الأولى /1438هـ، الموافق: 24/شباط / 2017م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد
فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ عَامِلٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهُ هَدَفٌ يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا. وَقِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ تَأْتِي ... المزيد
هَا نَحْنُ نَسْتَقْبِلُ شَهْرَ الصَّوْمِ، وَأَنْعِمْ بِالصَّوْمِ عِبَادَةً، بِهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتُ، وَتَكْفِيرُ الخَطِيئَاتِ، وَكَسْرُ الشَّهَوَاتِ، وَتَكْثِيرُ الصَّدَقَاتِ، وَوَفْرَةِ الطَّاعَاتِ، وَشُكْرُ عَالِمِ الخَفِيَّاتِ، وَالانْزِجَارُ ... المزيد
إِنَّ المُؤْمِنَ لَيَتَقَلَّبُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَمُدُّ اللهُ تعالى لَهُ في أَجَلِهِ، وَكُلَّ يَوْمٍ يَبْقَاهُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ غَنِيمَةٌ لَهُ لِيَتَزَوَّدَ مِنْهُ لِآخِرَتِهِ، وَيَحْرُثَ فِيهِ مَا اسْتَطَاعَ، ... المزيد
لِنَكنْ جَمِيعًا عَلَى يَقِينٍ أَنَّنَا سَنَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾. أَلَا وَإِنَّ الخَيْرَ كُلَّ الخَيْرِ في الجَنَّةِ، وَإِنَّ الشَّرَّ كُلَّ ... المزيد
مَنْ فَقَدَ الحَيَاءَ فَقَدَ كُلَّ شَيْءٍ، وَصَارَ مُجَرَّدًا مِنْ كُلِّ خُلُقٍ نَبِيلٍ فَاضِلٍ، فَاقِدُ الحَيَاءِ مَمْقُوتٌ خَائِنٌ لَا رَحْمَةَ عِنْدَهُ، بَلْ في غَالِبِ الأَمْرِ الأَعَمِّ تَجِدُهُ مَلْعُونًا عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الخَلْقِ، ... المزيد