48ـ كلمة شهر صفر 1432هـ: ما ذنب البخاري؟ وما حيلة العلماء؟

48ـ كلمة شهر صفر 1432هـ: ما ذنب البخاري؟ وما حيلة العلماء؟

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا أيها الإخوة الكرام:

لما وقعت الحرب بين مصر والحبشة، في زمن الخديوي إسماعيل، وتوالت الهزائم على مصر لوقوع الخلاف بين قوادها وجيشها في تلك الحرب، ضاق صدر الخديوي لذلك، فركب الخديوي يوماً مع شريف باشا، وهو محرج الصدر، فأراد أن يُفرِّج عن نفسه، فقال لشريف باشا : ماذا تصنع حينما تلمُّ بك ملمَّة تريد أن تدفعها؟

فقال شريف باشا: يا أفندينا، إن الله عوَّدني إذا حاق بي شيء من هذا أن ألجأ إلى صحيح البخاري يقرؤه لي علماء أطهار الأنفاس، فيفرِّج الله عني.

فكلَّم الخديوي شيخ الجامع الأزهر، وكان الشيخ العروسي في ذلك، فجمع له جمعاً من صلحاء العلماء أخذوا يقرؤون في البخاري أمام القبلة القديمة في الأزهر، فيما ظلت أخبار الهزائم تتوالى.

فذهب الخديوي ومعه شريف باشا إلى العلماء وقال لهم غاضباً محنقاً :إما أن هذا الذي تقرؤونه ليس صحيح البخاري، أو أنكم لستم العلماء الذين نعهدهم من رجال السلف الصالح، فإن الله لم يدفع بكم ولا بتلاوتكم شيئاً.

فوجم العلماء، لذلك التهجُّم الغاضب، إلا أن شيخاً من آخر الصف ابتدره قائلاً:

مِنْكَ يا إسماعيل، فإنا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ، ثُمَّ يَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ) رواه الإمام أحمد والطبراني واللفظ له. فزاد وجوم المشايخ، وانصرف الخديوي وشريف باشا ولم يَنْبِسا بكلمة.

وأخذ المشايخ يلومون الشيخ الذي قال ذلك للخديوي، ويؤنِّبونه، فبينما هم كذلك إذا شريف باشا قد عاد، وسألهم قائلاً: أين الشيخ الذي قال للخديوي ما قال؟

فقال الشيخ: أنا، فأخذه وقام ذاهباً إلى القصر، والعلماءُ يودِّعون الشيخ وداعَ من لا يرجو لقاء.

ودخل الشيخ مع شريف باشا إلى الخديوي، وهو جالس في البهو وأمامه كرسي، فطلب من الشيخ أن يجلس أمامه، ثم قال له: أعد يا أستاذ ما قلته في الأزهر، فأعاد الشيخ كلمته كما هي، وشرح الحديث النبوي الشريف للخديوي أتمَّ شرح.

فقال له الخديوي: وماذا صنعنا حتى ينزل بنا هذا البلاء؟

فقال له الشيخ: يا أفندينا، أليس الزنا مباحاً؟ ألستم تحكمون بغير ما أنزل الله؟ أليس؟ أليس؟ وعدَّد له كثيراً من المنكرات، ثم قال له: فكيف تنتظرون النصر من السماء؟

قال الخديوي: وماذا نفعل، وقد اضطررنا إلى ذلك؟

فقال الشيخ للخديوي: إذاً فما ذنب البخاري، وما حيلة العلماء؟

ففكَّر الخديوي مليّاً، وأطرق طويلاً، ثم رفع رأسه ساهماً وقال للشيخ: صدقت، صدقت.

أيها الإخوة الأحبة: جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ).

وإنَّ ترك النصيحة تقصير في دين الله عز وجل، وهذه الأمة ما مُدحت وما كانت خيرَ أمَّة إلا عندما كانت ملتزمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون}. هذا من جانب.

ومن جانب آخر ما لُعِنت بنو إسرائيل إلا عندما تركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُون * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُون}.

أيها الإخوة الكرام: سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم حمَّلنا الأمانة بقوله: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ) رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وحذَّرنا ربُّنا عز وجل من مخالفة أمره صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم}. ويقول تبارك وتعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}.

فيا من هو حريص على نفسه وماله، حريص على عرضه، حريص على وطنه، حريص على أمته، مُرْ بالمعروف وَانْهَ عن المنكر؛ وإلا ـ لا قدَّر الله تعالى ـ فالفتنة ستنال الجميع.

ومصداق ذلك قوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ؛ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِى نَصِيبِنَا خَرْقاً، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا؛ فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعاً) رواه الإمام البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.

أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بأسلوب حسن لطيف. آمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. سبحان ربك رب العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

**        **     **

 

 2011-01-07
 27854
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 

التعليقات [ 1 ]

ابو محمود
 2011-01-15

جزى الله عنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما هو أهله, وجزى الله عنا وراثه من المرشدين والمريبن والعلماء خيراً كثيراً لما أنتم عليه من حسن اللطف بالنصيحة.

 

مواضيع اخرى ضمن  كلمة الشهر

09-04-2024 88 مشاهدة
212ـ كيف تستقبل العيد أنت؟

هَا هُوَ يَوْمُ العِيدِ قَدْ جَاءَ بَعْدَ طَاعَةٍ عَظِيمَةٍ، بَعْدَ رُكْنٍ عَظِيمٍ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، كَيْفَ لَا يَأْتِي يَوْمُ عِيدٍ بَعْدَ انْتِهَاءِ شَهْرٍ عَظِيمٍ مُبَارَكٍ أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ، الذي هُوَ سِرُّ سَعَادَتِنَا؟ ... المزيد

 09-04-2024
 
 88
13-03-2024 255 مشاهدة
211ـ القرآن أنيسنا

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ شَهْرُ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد

 13-03-2024
 
 255
09-02-2024 502 مشاهدة
210ـ انظر عملك في شهر شعبان

أَخْرَجَ الإِمَامُ النَّسَائِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ. قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ ... المزيد

 09-02-2024
 
 502
13-01-2024 302 مشاهدة
209ـ اغتنام ليل الشتاء

الدُّنْيَا دَارُ عَمَلٍ، وَفُرْصَةُ تَزَوُّدٍ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ، قَالَ تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.  الأَيَّامُ تَتَعَاقَبُ وَتَتَوَالَى، وَهَا نَحْنُ في الشِّتَاءِ، فَلْنَسْمَعْ وَصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ ... المزيد

 13-01-2024
 
 302
14-12-2023 442 مشاهدة
208ـ ماذا جرى لهذه الأمة؟

مَاذَا جَرَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ؟ هَلْ تَفْقِدُ ذَاكِرَتَهَا وَتَجْلِسُ مَعَ عَدُوِّهَا تَبْحَثُ عَنْ سَلَامٍ وَعُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ؟ يَذْبَحُهَا عَدُوُّهَا بِالأَمْسِ، فَتَمُدُّ لَهُ ذِرَاعَ المُصَافَحَةِ اليَوْمَ. يَصْفَعُهَا بِالأَمْسِ، ... المزيد

 14-12-2023
 
 442
16-11-2023 545 مشاهدة
207ـ لا تزال الأمة تبتلى

مَاذَا يَقُولُ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ، وَمَاذَا يَفْعَلُ وَالمَجَازِرُ الدَّمَوِيَّةُ تُرْتَكَبُ عَلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَفي غَزَّةَ خَاصَّةً شَمَلَتِ الشُّيُوخَ وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَالَ الضُّعَفَاءَ وَالآمِنِينَ، وَالعَالَمُ كُلُّهُ ... المزيد

 16-11-2023
 
 545

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412984193
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :