562ـ خطبة الجمعة: حقيقة الأخوة

562ـ خطبة الجمعة: حقيقة الأخوة

 

562ـ خطبة الجمعة: حقيقة الأخوة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: الأُخُوَّةُ في اللهِ تعالى وَاجِبَةٌ لِكُلِّ مَنِ انْتَسَبَ إلى هَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَكَانَ صَادِقَاً في هَذَا الانْتِسَابِ، لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾.

الرَّوَابِطُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ رَوَابِطُ قَوِيَّةٌ، لِأَنَّ رَبَّهُمْ وَاحِدٌ، وَنَبيَّهُمْ وَاحِدٌ، وَكِتَابَهُمْ وَاحِدٌ، يُصَلُّونَ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَصُومُونَ شَهْرَاً وَاحِدَاً، وَقَدْ شَبَّهَهُمْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» رواه الإمام مسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

تَشْبِيهٌ رَائِعٌ، حَيْثُ جَعَلَ المُؤْمِنِينَ كَالجَسَدِ الوَاحِدِ، وَالجَسَدُ الوَاحِدُ خَلَايَاهُ كُلُّهَا مُتَرَابِطَةٌ مُتَمَاسِكَةٌ فِيمَا بَيْنَهَا مِنْ قِمَّةِ رَأْسِ الإِنْسَانِ إلى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ، فَإِذَا شِيكَ الإِنْسَانُ بِشَوْكَةٍ في قَدَمِهِ شَعَرَ بِهَا رَأْسُهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: المُؤْمِنُونَ تَجْمَعُهُمْ أُخُوَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ إِذَا الْتَزَمُوا دِينَ اللهِ تعالى، أَمَّا إِذَا ادَّعَوُا الإِيمَانَ، ثُمَّ أَكَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضَاً، وَطَعَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضَاً، وَجَرَحَ بَعْضُهُمْ بَعْضَاً، وَسَفَكَ بَعْضُهُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ، فَأَيُّ ادِّعَاءٍ هَذَا؟

«الدِّينُ النَّصِيحَةُ»:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ خِلَالِ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ».

قُلْنَا: لِمَنْ؟

قَالَ: «للهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» رواه الإمام مسلم عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَقُولُ: يَا عِبَادَ اللهِ: المُؤْمِنُ لَيْسَ بِمُغْتَابٍ، وَلَيْسَ بِنَمَّامٍ، وَلَيْسَ بِآكِلٍ للحَرَامِ، وَلَيْسَ بِالطَعَّانِ وَلَا الفَحَّاشِ، وَلَيْسَ بِسَافِكٍ للدِّمَاءِ البَرِيئَةِ، وَلَيْسَ بِقَاطِعٍ للأَرْحَامِ، وَلَيْسَ بِفَتَّان.

الإِنْسَانُ المُؤْمِنُ هُوَ مَنْ يَذْكُرُ الآخَرِينَ بِخَيْرٍ، هُوَ الصَّالِحُ المُصْلِحُ، هُوَ البَعِيدُ عَنِ الشُّبُهَاتِ فَضلَاً عَنِ الحَرَامِ، هُوَ الذي يَقُولُ للنَّاسِ حُسْنَاً، هُوَ الآمِرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنِ المُنْكَرِ، مَعَ السَّتْرِ وَالذَّبِّ عَنِ إِخَوَانِهِ المُؤْمِنِينَ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الأُخُوَّةَ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ في هَذِهِ الأَيَّامِ تُذْبَحُ ذَبْحَ النِّعَاجِ، وَتُهْدَرُ دِمَاؤُهَا بِدُونِ شَفَقَةٍ وَلَا رَحْمَةٍ، وَرُبَّمَا أَنْ يُلَاقِيَ المُسْلِمُونَ مِنْ بَعْضِهِمْ أَشَدَّ مِمَّا يُلَاقِيهِ الكُفَّارُ مِنَ المُسْلِمِينَ، أَو أَشَدَّ مِمَّا يُلَاقِيهِ المُسْلِمُونَ مِنَ الكُفَّارِ.

يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُرَاجِعَ أَنْفُسَنَا، وَأَنْ نُحْسِنَ التَّعَامُلَ فِيمَا بَيْنَنَا، وَأَنْ نُعْطِيَ الصُّورَةَ الحَسَنَةَ عَنْ إِسْلَامِنَا، لِأَنَّ أَعْدَاءَ الأُمَّةِ اليَوْمَ لَا يَنْظُرُونَ إلى القُرْآنِ الكَرِيمِ أَنَّهُ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تعالى، وَلَا يَنْظُرُونَ في حَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَسِيرَتِهِ، بَلْ يَنْظُرُونَ إلى المُسْلِمِينَ ثُمَّ يَقُولُونَ زُورَاً وَبُهْتَانَاً وَكَذِبَاً هَذَا هُوَ الإِسْلَامُ.

فَالحَذَرَ الحَذَرَ مِنْ إِعْطَاءِ الصُّورَةِ القَبِيحَةِ عَنْ دِينِنَا، وَلْيَذْكُرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ عَلَى ثَغْرَةٍ مِنْ ثُغَرِ الْإِسْلَامِ، اللهَ اللهَ لَا يُؤْتَى الْإِسْلَامُ مِنْ قِبَلِكَ» رواه المروزي عَنْ يَزِيدَ بْنِ مَرْثَدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

حَقِيقَةُ الأُخُوَّةِ في اللهِ تعالى:

يَا عِبَادَ اللهِ: الأُخُوَّةُ في اللهِ تعالى اليَوْمَ صَارَتْ نَادِرَةً في زَمَانِنَا هَذَا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

أَيْنَ نَحْنُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»؟ رواه الشيخان عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَيْنَ نَحْنُ مِنْ تَحْذِيرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلِ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارَاً، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»؟ رواه الشيخان عَنْ جَرِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

هَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ؟ أَمْ أَنَّهُ يُخَطِّطُ لِدَمَارِهِ وَهَلَاكِهِ وَإِتْلَافِهِ؟

لَقَدْ صَارَتِ الأُخُوَّةُ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ جَوْفَاءَ فَارِغَةً، نَتَشَدَّقُ بِهَا تَشَدُّقَاً، وَلَو وُضِعْنَا عَلَى المِحَكِّ الحَقِيقِيِّ لَوَجَدْنَاهَا أُخُوَّةً جَوْفَاءَ لَا أَثَرَ لَهَا، في الوَاقِعِ ظُلْمٌ وَعُدْوَانٌ وَأَثَرَةٌ، عِوَضَاً مِنَ الإِيثَارِ الذي تَحَلَّى بِهِ أَسْلَافُنَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الأُخُوَّةُ في اللهِ تعالى وَشِيجَةٌ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَصِلَةٌ بَيْنَ عِبَادِ اللهِ تعالى المُتَّقِينَ، تَجْمَعُ القُلُوبَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ تعالى، وَتُؤَلِّفُ بَيْنَ الأَفْئِدَةِ في سَبِيلِ مَرْضَاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهِيَ أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ، فَمَا آمَنَ عَبْدٌ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَحَبَّ أَحْبَابَ اللهِ تعالى، وَاتَّجَهَ قَلْبُهُ لِمَحَبَّةِ إِخْوَانِهِ في اللهِ تعالى.

وَلِذَلِكَ بَيَّنَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَةَ هَذِهِ الأُخُوَّةِ الصَّادِقَةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِصِدْقِ الأُخُوَّةِ في اللهِ تعالى. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 10/ ذو الحجة/1438هـ، الموافق: 1/ أيلول / 2017م

 2017-08-31
 5421
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 35 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 35
12-04-2024 659 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 659
09-04-2024 560 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 560
04-04-2024 679 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 679
28-03-2024 569 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 569
21-03-2024 1001 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1001

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412795201
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :