أهلا بكم في موقع الشيخ أحمد شريف النعسان

312 - الحكمة من المصائب والشرور

02-05-2007 14020 مشاهدة
 السؤال :
ما هي الحكمة من أن يقضي الله تعالى في عباده بالمصائب والشرور، علماً بأن الله رحيم بعباده؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 312
 2007-05-02

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ تعالى رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ حَكِيمٌ في قَضَائِهِ، وَلَا شَكَّ بِأَنَّ اللهَ يَعْلَمُ، وَالعَبْدُ لَا يَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمَهُ اللهُ إِيَّاهُ، وَلَا شَكَّ بِأَنَّ اللهَ تعالى مَا أَطْلَعَنَا عَلَى غَيْبِهِ: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾.

وَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ لَو كَشَفَ لَنَا عَنْ غَيْبِهِ فِيمَا قَضَى وَقَدَّرَ مِنْ مَصَائِبَ لَمَا اخْتَرْنَا إِلَّا مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ.

وَلَكِنْ وَبِشَكْلٍ عَامٍّ هُنَاكَ حِكْمَةٌ بَاهِرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَضَاءِ اللهِ تعالى في إِيجَادِ المَصَائِبِ وَالشُّرُورِ في حَقِّ الإِنْسَانِ، مِنْهَا:

1ـ أَنْ يُوقِظَ اللهُ تعالى المَفْتُونِينَ بِعُلُومِهِمُ الكَوْنِيَّةِ، وَالمَأْخُوذِينَ بِمَا يَتَصَوَّرُونَهُ مِنَ الطَّبِيعَةِ وَقَوَانِينِهَا، وَنَسُوا اللهَ تعالى أَنَّهُ الفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَأَنَّ الطَّبِيعَةَ لَا قُوَّةَ لَهَا، بَلِ الفَعَّالُ هُوَ اللهُ الذي أَخْضَعَ الطَّبِيعَةَ وَسَخَّرَهَا لِمَصْلَحَةِ الإِنْسَانِ، وَقَدْ كَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ هَذَا الإِيقَاظُ مِنْ خِلَالِ مَصَائِبَ وَشُرُورٍ تُجْمَحُ بِهَا الطَّبِيعَةُ، وَتَخْرُجُ بِهَا في مُعَامَلَتِهَا للإِنْسَانِ عَنِ المَأْلُوفِ مِنْ خُضُوعِهَا لَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ في هَذَا الإِيقَاظِ رَحْمَةً بَالِغَةً مِنَ اللهِ بِالإِنْسَانِ، وَإِنْ كَانَتْ كَلَّفَتْهُ بَعْضَ المَصَائِبِ وَالهَزَّاتِ.

2ـ أَمَرَ اللهُ تعالى العَبْدَ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا أَنْ يُظْهِرَ وَاقِعَ عُبُودِيَّتِهِ للهِ بِالاخْتِيَارِ، كَمَا هُوَ مَصْبُوغٌ بِهَا بِالاضْطِرَارِ، وَالحَيَاةُ الدُّنْيَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَكَبَاتٌ وَشُرُورٌ وَمَصائِبُ كَيْفَ تَظْهَرُ عُبُودِيَّةُ العَبْدِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ بَلْ كَيْفَ يُعْرَفُ المُخْلِصُ مِنَ المُنَافِقِ، وَالصَّادِقُ مِنَ الكَاذِبِ؟ لِذَلِكَ قَالَ تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾.

3ـ شَاءَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَ الدُّنْيَا مَمَرَّاً إلى مَقَرٍّ، وَهِيَ الحَيَاةُ الأُخْرَوِيَّةُ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.

وَشَاءَ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يَجْعَلَ دَارَ الدُّنْيَا دَارَ فَنَاءٍ، وَالآخِرَةَ دَارَ بَقَاءٍ، فَهَلْ مِنَ الحِكْمَةِ أَنْ يَجَعَلَ دَارَ الفَنَاءِ مَلِيئَةً بِالنِّعَمِ وَالمُتَعِ وَالمَلَاذِّ الصَّافِيَةِ عَنِ الآلَامِ وَالشَّوَائِبِ، دُونَ وُجُودِ أَيَّ مُعَكِّرٍ يُذَكِّرُ العَبْدَ بِحَقِيقَةِ الدُّنْيَا؟

لَو كَانَتِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا فِيهَا كُلُّ النِّعَمِ وَلَيْسَ فِيهَا مُنَغِّصٌ وَجَاءَ المَوْتُ، وَنَحْنُ عَلِمْنَا أَنَّهَا دَارَ فَنَاءٍ وَمَمَرٍّ، كَيْفَ يَكُونُ حَالُ العَبْدِ عِنْدَمَا يُفَارِقُ هَذِهِ الدَّارَ المَلِيئَةَ بِالنِّعَمِ وَلَا مُنَغِّصَ فِيهَا؟ وَلَكِنَّ اللهَ الحَكِيمَ الرَّحِيمَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ.

لِذَلِكَ شَاءَ اللهُ أَنْ يَجْعَلَ مُنَغِّصَاتٍ في نِعَمِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِذَا تَجَاوَزَ العَبْدُ مَرْحَلَةَ الشَّبَابِ وَالكُهُولَةِ، وَدَخَلَ في مَدَارِجِ الشَّيْخُوخَةِ، أَدْرَكَهُ اللهُ مِنْ أَلْطَافِهِ مَا يُحِيلُ عُنْفُوَانَ قُوَّتِهِ إلى ضَعْفٍ مُتَدَرِّجٍ، وَيَجْعَلُ جِسْمَهُ عُرْضَةً لِآلَامٍ وَأَمْرَاضٍ لِتَتَقَلَّصَ طُمُوحَاتُهُ وَآمَالُهُ وَأَحْلَامُهُ المُتَعَلِّقَةُ بِالدُّنْيَا، وَيُعْرِضُ عَنْهَا كَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ طَعَامٍ فَاحَتْ مِنْهُ رَائِحَةُ العُفُونَةِ وَالفَسَادِ، بَعْدَ أَنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ فَأَكَلَ مِنْهُ حَتَّى تَبَرَّمَ بِهِ.

وَبِالمُقَابِلِ فَإِنَّ آمَالَهُ وَأَحْلَامَهُ تَتَّجِهُ بِهِ إلى مَا هُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ مِنَ الحَيَاةِ البَرْزَخِيَّةِ (وَاطَرَبَاهُ غَدَاً أَلْقَى الأَحِبَّةَ، مُحَمَّدَاً وَصَحْبَهُ) ثُمَّ إلى الآخِرَةِ التي فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.

هَذَا العَبْدُ إِذَا جَاءَهُ مَلَكُ المَوْتِ أَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا التي كَانَتْ مَلِيئَةً بِالمُنَغِّصَاتِ وَفِيهَا المَصَائِبُ وَالشُّرُورُ غَيْرَ مُتَأَسِّفٍ عَلَيْهَا، وَاتَّجَهَ إلى دَارِ البَقَاءِ التي فِيهَا النَّعِيمُ الصَّافِي الدَّائِمُ.

أَلَيْسَ مِنْ لُطْفِ اللهِ أَنْ يَجْعَلَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا هَكَذَا حَتَّى يُقْبِلَ العَبْدُ عَلَى اللهِ تعالى إلى دَارِ البَقَاءِ؟

نَسْأَلُ اللهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ وَحُسْنَ الخِتَامِ لَنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ. آمين آمين آمين. هذا، والله تعالى أعلم.

 

المجيب : الشيخ أحمد شريف النعسان
14020 مشاهدة