82ـ كلمات في مناسبات: درس فجر يوم عيد الأضحى المبارك 1437هـ

82ـ كلمات في مناسبات: درس فجر يوم عيد الأضحى المبارك 1437هـ

.

82ـ كلمات في مناسبات: درس فجر يوم عيد الأضحى المبارك 1437هـ

من الأعمال الصالحة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا اليَوْمُ العَظِيمُ المُبَارَكُ هُوَ آخِرُ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ، التي دَعَانَا فِيهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا، فَأَيْنَ الذينَ يُتَاجِرُونَ مَعَ اللهِ تعالى؟ أَيْنَ الذينَ يَرْبَحُونَ أَعْظَمَ الأَرْبَاحِ مِنْ خِلَالِ العَمَلِ الصَّالِحِ وَالنِّيَّةِ الخَالِصَةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَا مَنْ وُفِّقْتُمْ للعَمَلِ الصَّالِحِ في الأَيَّامِ التِّسْعِ، وَأَنْتُمْ تَنْوُونَ إِتْمَامَ العَمَلِ الصَّالِحِ في هَذَا اليَوْمِ العَاشِرِ، أُذَكِّرُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلَاً صَالِحَاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً﴾.

يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: رُبَّ عَمَلٍ صَغِيرٍ تُكَثِّرُهُ النِّيَّة، وَرُبَّ عَمَلٍ كَثِيرٍ تُصَغِّرُهُ النِّيَّة.

الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ يَوْمَ عِيدِ الأَضْحَى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ التي دَعَانَا إِلَيْهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هِيَ سِرُّ وَسَبَبُ صَلَاحِ المُجْتَمَعَاتِ، فَكُلَّمَا كَثُرَتِ الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ في المُجْتَمَعِ كُلَّمَا صَلُحَ المُجْتَمَعُ؛ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ في خِتَامِ الأَيَّامِ العَشْرِ مِنْ ذِي الحِجَّةِ:

أولاً: التَّضْحِيَةُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا اليَوْمُ يَوْمُ عِيدِ الأَضْحَى، يَوْمٌ عَظَّمَ اللهُ تعالى أَمْرَهُ، وَرَفَعَ قَدْرَهُ، وَسَمَّاهُ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ، في هَذَا اليَوْمِ يَتَقَرَّبُ المُسْلِمُونَ إلى رَبِّهِمْ بِذَبْحِ هَدَايَاهُمْ وَضَحَايَاهُمْ، اتِّبَاعَاً لِسُنَّةِ الحَبِيبِ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ نَحَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ ثَلَاثَاً وَسِتِّينَ بَدَنَةً، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الدارمي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ.

وروى الشيخان عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ؛ وَرَأَيْتُهُ يَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ، وَرَأَيْتُهُ وَاضِعَاً قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا؛ وَسَمَّى وَكَبَّرَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ وَرَدَ الفَضْلُ العَظِيمُ، وَالثَّوَابُ الجَزِيلُ، لِمَنْ أَحْيَا شَعِيرَةَ الأَضَاحِي، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ، إِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسَاً» رواه الحاكم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْهَدَ الإِنْسَانُ ذَبْحَ أُضْحِيَّتِهِ، لِمَا روى الحاكم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَوْمِي إِلَى أُضْحِيَّتِكَ فَاشْهَدِيهَا، فَإِنَّ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا يُغْفَرُ لَكِ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبُكَ».

قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ خَاصَّةً، أَوْ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟

قَالَ: «بَلْ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً».

ثانياً: صِلَةُ الأَرْحَامِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ التي يُحِبُّهَا اللهُ تعالى، وَخَاصَّةً في هَذَا اليَوْمِ صِلَةُ الأَرْحَامِ، فَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ وَأَحَبِّهَا إلى اللهِ تعالى، صِلَةُ الأَرْحَامِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمُوجِبَةٌ مِنَ اللهِ تعالى الكَرَامَةَ وَالمِنَّةَ، مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللهُ تعالى، وَمَنْ قَطَعَ رَحِمَهُ قَطَعَهُ اللهُ تعالى.

روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ لَهُ: مَهْ.

قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ.

قَالَ: أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ.

قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ.

قَالَ: فَذَاكِ».

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾.

وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَشَقَقْتُ لَهَا مِنِ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ» رواه الحاكم عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

صِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَعَلِّمُوا أَبْنَاءَكُمْ صِلَةَ الأَرْحَامِ، عَوِّدُوهُمْ على صِلَةِ الأَعْمَامِ وَالعَمَّاتِ، وَالأَخْوَالِ وَالخَالَاتِ، رَبُّوا أَبْنَاءَكُمْ على ذَلِكَ، فَمَنْ رَبَّى وَلَدَهُ على صِلَةِ الأَرْحَامِ كَتَبَ اللهُ تعالى لَهُ أَجْرَهُ، فَلَا رَفَعَ قَدَمَاً يَصِلُهَا، وَلَا تَكَلَّمَ كَلِمَةً يَبُرُّهَا، إلا أُجِرْتُمْ عَلَيْهَا.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُونُوا على حَذَرٍ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، فَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَأَجَلِّهَا، لِقَولِهِ تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾.

وروى البيهقي عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ عَشِيَّةَ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَعَدَ النَّاسُ حَوْلَهُ، قَالَ: أُحَرِّجُ عَلَى كُلِّ قَاطِعِ رَحِمٍ إِلَّا قَامَ مِنْ عِنْدِنَا.

قَالَ: فَقَامَ شَابٌّ فَأَتَى عَمَّةً لَهُ قَدْ حَرَّمَهَا مُنْذُ سِنِينَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا.

فَقَالَتِ: ابْنَ أَخِي، مَا جَاءَ بِكَ؟

قَالَ: لَا، إِلَّا أَنِّي قَعَدْتُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أُحَرِّجُ عَلَى كُلِّ قَاطِعِ رَحِمٍ إِلَّا قَامَ مِنْ عِنْدِنَا، حَتَّى كَانَتِ الثَّالِثَةُ.

قَالَتْ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَاسْأَلْهُ لِمَ قَالَ ذَلِكَ؟

فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَمَا قَالَتْ لَهُ عَمَّتُهُ.

فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ كُلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ».

وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ للفَتَى: اجْلِسْ، فَقَدْ أَحْسَنْتَ، إِلَّا أَنَّهَا لَا تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ قَاطِعُ رَحِمٍ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ جَاوَرَ قَاطِعَ الرَّحِمِ، فَكَيْفَ بِقَاطِعِ الرَّحِمِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى؟ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾.

يُقَالُ: إِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا قَطَعَ رَحِمَهُ يُصِيبُهُ الصَّمَمُ وَعَمَى البَصِيرَةِ، بِمَعْنَى: لَا يَنْتَفِعُ بِمَوْعِظَةٍ يَسْمَعُهَا بِأُذُنِهِ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ وَلَا يَعْتَبِرُ بِآيَةٍ يَرَاهَا بِعَيْنِهِ، فَيُخْتَمُ عَلَيْهِ تَمَامَاً ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: احْذَرُوا قَطِيعَةَ الرَّحِمِ وَلَو أَسَاءَتْ، وَاحْذَرُوا مِنَ الأَمْرِ بِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ بِحَالِكُمْ أَو قَالِكُمْ، لِأَنَّ الرَّحِمَ إِذَا قُطِعَتْ بِأَمْرٍ مِنْكُمْ حَالَاً أَو قَالَاً، حَمَلْتُمْ وِزْرَهَا، يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالَاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَتَّقِ اللهَ تعالى في الرَّحِمِ، وَلْنَأْخُذْ بِأَيْدِي أَبْنَائِنَا لِزِيَارَةِ الأَرْحَامِ، وَخَاصَّةً الرَّحِمِ التي أَسَاءَتْ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلَاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ.

فَقَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْـمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ». صِلُوا أَرْحَامَكُمُ التي قَطَعَتْكُمْ فَأَنْتُمُ الرَّابِحُونَ، وَهُمُ الخَاسِرُونَ، وَأَنْتُمُ النَّاجُونَ، وَهُمُ الهَالِكُونَ.

ثالثاً: إِصْلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ التي يُحِبُّهَا اللهُ تعالى، وَخَاصَّةً في هَذَا اليَوْمِ إِصْلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ، فَهُوَ مِنَ الأمُورِ العَظِيمَةِ وَالعِبَادَاتِ الجَلِيلَةِ التي حَرَّضَنَا عَلَيْهَا دِينُنَا الحَنِيفُ، قَالَ تعالى: ﴿وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرَاً عَظِيمَاً﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِصْلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ عِبَادَةٌ مَأْجُورٌ عَلَيْهَا فَاعِلُهَا ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرَاً عَظِيمَاً﴾. وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ».

قَالُوا: بَلَى.

قَالَ: «صَلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. لَمَّا كَانَ نَفْعُ إِصْلَاحِ ذَاتِ البَيْنِ مُتَعَدِّيَاً، وَكَانَ خَيْرُهُ عَظِيمَاً، وَفَائِدَتُهُ شَامِلَةً، صَارَ أَجْرُهُ عَظِيمَاً.

إِصْلَاحِ ذَاتِ البَيْنِ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا الحَنِيفِ، فَلَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُصْلِحَاً لِذَاتِ البَيْنِ، بَلْ إِنَّ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ يُصْلِحُ بَيْنَ المُتَخَاصِمِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ، روى الحاكم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ إِذْ رَأَيْنَاهُ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ.

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟

قَالَ: «رَجُلَانِ مِنْ أُمَّتِي جَثَيَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعِزَّةِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَبِّ خُذْ لِي مَظْلِمَتِي مِنْ أَخِي.

فَقَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلطَّالِبِ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِأَخِيكِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْءٌ؟

قَالَ: يَا رَبِّ، فَلْيَحْمِلْ مِنْ أَوْزَارِي».

قَالَ: وَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالْبُكَاءِ.

ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ ذَاكَ الْيَوْمَ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ النَّاسُ أَنْ يُحْمَلَ عَنْهُمْ مِنْ أَوْزَارِهِمْ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِلطَّالِبِ: ارْفَعْ بَصَرَكَ فَانْظُرْ فِي الْجِنَانِ.

فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أَرَى مَدَائِنَ مِنْ ذَهَبٍ، وَقُصُورَاً مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةً بِالُّلؤْلُؤِ، لِأَيِّ نَبِيٍّ هَذَا؟ أَوْ لِأَيِّ صِدِّيقٍ هَذَا؟ أَوْ لِأَيِّ شَهِيدٍ هَذَا؟.

قَالَ: هَذَا لِمَنْ أَعْطَى الثَّمَنَ.

قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ؟

قَالَ: أَنْتَ تَمْلِكُهُ.

قَالَ: بِمَاذَا؟

قَالَ: بِعَفْوِكَ عَنْ أَخِيكَ.

قَالَ: يَا رَبِّ، فَإِنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْهُ.

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَخُذْ بِيَدِ أَخِيكَ فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: «اتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُصْلِحُ بَيْنَ الْـمُسْلِمِينَ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ مُنْطَلَقِ إِصْلَاحِ ذَاتِ البَيْنِ الذي هُوَ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ هَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، أَتَوَجَّهُ إلى جُمُوعِ الحَجِيجِ الذينَ ذَهَبُوا إلى بَيْتِ اللهِ تعالى مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، أَتَوَجَّهُ إلى طَلَبَةِ العِلْمِ وَالعُلَمَاءِ الذينَ وَقَفُوا في أَرْضِ عَرَفَاتٍ، وَأَفَاضُوا إلى المُزْدَلِفَةِ، ثمَّ مِنَىً، ثمَّ مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ، أَتَوَجَّهُ إلى تِلْكَ الجُمُوعِ التي سَمِعَتْ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» رواه الإمام مسلم عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا مَنِ اجْتَمَعْتُمْ في أَرْضِ عَرَفَاتٍ، وَفِي مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ، بِكُلِّ شَرَائِحِكُمْ، تَسْاءَلُوا مَعَ أَنْفُسِكُمْ وَأَنْتُمْ هُنَاكَ: هَلْ أَنْتُمْ مُتَنَاقِضُونَ بَيْنَ أَقْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ، أَمْ أَفْعَالُكُمْ تُطَابِقُ أَقْوَالَكُمْ؟

هَلْ تَذْكُرُونَ يَا طَلَبَةَ العِلْمِ، وَيَا عُلَمَاءَ هَذَهِ الأُمَّةِ، وَيَا خُطَبَاءَ الجُمُعَةِ وَالعِيدَيْنِ، مَاذَا قَالَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِلْأُمَّةِ يَوْمَ عَرَفَةَ؟ أَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارَاً، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»؟ رواه الشيخان عَنْ جَرِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فَهَلْ وَأَنْتُمْ هُنَاكَ تُحَرِّضُونَ الأُمَّةَ على سَفْكِ الدِّمَاءِ، أَمْ على حَقْنِهَا؟ شَكَوْنَا أَمْرَنَا إلى اللهِ تعالى، وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، فَوَّضْنَا أُمُوَنَا إِلَيْكَ يَا اللهُ.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 10/ ذو الحجة /1437هـ، الموافق: 12/ أيلول / 2016م

الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  كلمات في مناسبات

09-04-2024 86 مشاهدة
142ـ كلمات في مناسبات: فجر عيد الفطر 1445 هـ

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: دَخَلْنَا شَهْرَ رَمَضَانَ المُبَارَكَ، دَخَلْنَا هَذَ المَوْسِمَ العَظِيمَ، حَيْثُ مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ، كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً، ... المزيد

 09-04-2024
 
 86
28-09-2023 676 مشاهدة
141ـ كلمات في مناسبات: عذرًا يا سيدي يا رسول الله

لقد كُنتَ حَرِيصَاً عَلَينَا أَشَدَّ الحِرْصِ، بِشَهَادَةِ مَولانَا عزَّ وجلَّ القَائِلِ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾. وبِشَهَادَتِكُم عِندَمَا ... المزيد

 28-09-2023
 
 676
07-03-2023 677 مشاهدة
140ـ كلمات في مناسبات: إجابة الدعاء معلقة بالاستجابة لله تعالى

عِنْدَمَا تَنْزِلُ المِحَنُ، وَتَشْتَدُّ الخُطُوبُ، وَتَتَوَالَى الكُرُوبُ، وَتَعْظُمُ الرَّزَايَا، وَتَتَابَعُ الشَّدَائِدُ، لَنْ يَكُونَ أَمَامَ المُسْلِمِ إِلَّا أَنْ يَلْجَأَ إلى اللهِ تعالى وَيَلُوذَ بِجَانِبِهِ، وَيَضْرَعَ إِلَيْهِ ... المزيد

 07-03-2023
 
 677
28-09-2022 639 مشاهدة
1- المحبة محبتان

مَعَ بِدَايَةِ شَهْر رَبِيعٍ الأَوَّلِ، أُهَنِّئُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِنِعْمَةِ الإِيمَانِ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَبِأَنْ جَعَلَنَا اللهُ تعالى حَظَّهُ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ، ... المزيد

 28-09-2022
 
 639
09-07-2022 535 مشاهدة
138ـ كلمات في مناسبات: درس فجر عيد الأضحى المبارك 1443 هـ شعيرة الأضحية

هَذَا اليَوْمُ هُوَ خِتَامُ الأَيَّامِ العَشْرِ مِنْ ذِي الحِجَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُرْطٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ ... المزيد

 09-07-2022
 
 535
08-07-2022 469 مشاهدة
137ـ كلمات في مناسبات: يوم عرفة يوم الغفران

يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمٌ أَكْمَلَ اللهُ تعالى فِيهِ الدِّينَ، قَالَ تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾. يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمُ الغُفْرَانِ، وَالعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ، ... المزيد

 08-07-2022
 
 469

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3159
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412383720
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :