406ـ خطبة الجمعة: امتحان الدنيا وامتحان الآخرة (1)

406ـ خطبة الجمعة: امتحان الدنيا وامتحان الآخرة (1)

 

406ـ خطبة الجمعة: امتحان الدنيا وامتحان الآخرة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، لو أنصَفنَا أَنفُسَنَا في هذهِ الأَزمَةِ لَوَجَدنَا أَنفُسَنَا ـ إلا من رَحِمَ اللهُ تعالى ـ قد غَابَت عن مَشَاهِدِ يَومِ القِيَامَةِ وأَهوَالِهَا وكُرُبَاتِهَا، ونَسِيَتْ أَهوَالَ مَوقِفِ الحِسَابِ والامتِحَانِ بَينَ يَدَيِ اللهِ عزَّ وجلَّ، تَنَاسَى القَومُ ـ إلا من رَحِمَ اللهُ تعالى ـ قَولَهُ تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وقَولَهُ تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ﴾. وقَولَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ، عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ» رواه الترمذي عَن ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

 الفَارِقُ بَينَ امتِحَانِ الدُّنيَا وامتِحَانِ الآخِرَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، عِندَمَا يَدخُلُ أَحَدُنَا في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا قَاعَةَ امتِحَانٍ تَرَاهُ مُضطَرِبَاً خَائِفَاً قَلِقَاً خَشيَةَ الرُّسُوبِ، مَعَ أَنَّهُ بَذَلَ أَقصَى ما في وُسعِهِ وجُهدِهِ لهذا الامتِحَانِ اليَسِيرِ، فَهَل يَا تُرَى نَبذُلُ قُصَارَى جُهدِنَا وخَاصَّةً في هذهِ الأَزمَةِ استِعدَادَاً للامتِحَانِ العَظِيمِ الرَّهِيبِ؟

يَا عِبَادَ اللهِ، كَم هوَ الفَارِقُ كَبِيرٌ بَينَ امتِحَانِ الدُّنيَا وامتِحَانِ الآخِرَةِ؟ وكَم هوَ البَونُ شَاسِعٌ وَوَاسِعٌ مَا بَينَ امتِحَانِ الدُّنيَا وامتِحَانِ الآخِرَةِ؟ وإِلَيكُم يَا عِبَادَ اللهِ الفَارِقَ بَينَ الامتِحَانَينِ:

أولاً: اِمتِحَانُ الدُّنيَا جُزئِيٌّ:

يَا عِبَادَ اللهِ، اِمتِحَانُ الدُّنيَا يَكُونُ أَسئِلَةً مَعدُودَةً ومَحصُورَةً ومَقصُورَةً على أَسئِلَةٍ لا تَتَجَاوَزُ أَصَابِعَ اليَدَينِ في جُزءٍ من كِتَابٍ.

أمَّا امتِحَانُ الآخِرَةِ فَفِي كِتَابٍ عَظِيمٍ كَبِيرٍ، لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إلا أَحصَاهَا، قَد حَوَى هذا الكِتَابُ جَمِيعَ الأَقوَالِ والأَفعَالِ، والحَرَكَاتِ والسَّكَنَاتِ، والخَطَرَاتِ والنِّيَّاتِ، قال تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾.

الصَّغِيرَةُ مُسَجَّلَةٌ وسَوفَ نُسأَلُ عَنهَا، والكَبِيرَةُ مُدَوَّنَةٌ وسَوفَ نُسأَلُ عَنهَا، قال تعالى: ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، كُونُوا على يَقِينٍ بأَنَّ مَا نَقُولُ ونَعمَلُ، وخَاصَّةً في هذهِ الأَزمَةِ التي سُفِكَت فِيهَا دِمَاءٌ لا يَعلَمُهَا إلا اللهُ تعالى، وسُلِبَت أَموَالٌ لا يَعلَمُهَا إلا اللهُ تعالى، وهُجِّرَت أُسَرٌ لا يَعلَمُهَا إلا اللهُ تعالى، وظُلِمَ عِبَادٌ لا يَعلَمُ عَدَدَهُم إلا اللهُ تعالى، وتَضَرَّرَ عِبَادٌ من جَمِيعِ الأَصنَافِ، من الرِّجَالِ والنِّسَاءِ والأَطفَالِ والطُّلَّابِ والتُّجَّارِ والصُّنَّاعِ والعُمَّالِ مَا لا يَعلَمُ عَدَدَهُم إلا اللهُ تعالى، كُلُّهُ مُسَجَّلٌ ومَحصِيٌّ على كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾. وقال تعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.

ثانياً: أَسئِلَةُ الامتِحَانِ في الدُّنيَا مَحدُودَةٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ، أَسئِلَةُ الامتِحَانِ في الحَيَاةِ الدُّنيَا مَحدُودَةٌ ومَقصُورَةٌ على بَعضِ الكَلِمَاتِ والجُمَلِ والمَوضُوعَاتِ، لأنَّهُ لا يُمكِنُ أن يُسأَلَ المُمتَحَنُ عن كُلِّ دَقِيقٍ وجَلِيلٍ من مُحتَوَيَاتِ المَنهَجِ.

أمَّا أَسئِلَةُ الامتِحَانِ في الآخِرَةِ فَهِيَ شَامِلَةٌ لأَنفَاسِ العُمُرِ، شَامِلَةٌ لِكُلِّ صَغِيرَةٍ وكَبِيرَةٍ، لِكُلِّ قَولٍ وفِعلٍ، لِكُلِّ نِيَّةٍ وخَاطِرٍ، قال تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، لِيُهَيِّئْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفسَهُ للإجَابَةِ عن الأَسئِلَةِ يَومَ القِيَامَةِ، وخَاصَّةً عن كُلِّ قَولٍ وفِعلٍ كَانَ لَهُ أَثَرٌ على الآخَرِينَ، فَمَا هوَ أَثَرُ أَقوَالِنَا وأَفعَالِنَا على الآخَرِينَ في هذهِ الأَزمَةِ، هَل هوَ سَلبِيٌّ أم إيجَابِيٌّ؟

ثالثاً: اِمتِحَانُ الدُّنيَا مُهَيَّأٌ لَهُ جَوٌّ مُرِيحٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ، اِمتِحَانُ الدُّنيَا مُهَيَّأٌ وَلَهُ جَوٌّ مُرِيحٌ هَادِئٌ، المَقَاعِدُ مُرِيحَةٌ، الأَنوَارُ سَاطِعَةٌ، المَاءُ مَوجُودٌ، الأَمنُ والأَمَانُ والهُدُوءُ كُلُّهُ مَوجُودٌ.

أَمَّا امتِحَانُ الآخِرَةِ فَفِي جَوٍّ رَهِيبٍ، ومَوقفٍ عَصِيبٍ، ومَكَانٍ عَجِيبٍ، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾. وقال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾. وقال تعالى: ﴿يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً﴾.

روى الشيخان عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً».

قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعاً يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَائِشَةُ، الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، يَا أَهلَ هذا البَلَدِ الحَبِيبِ، يَا مَن تَعِيشُونَ هذهِ الأَزمَةَ، يَا مَن تَبَايَنَت أَفكَارُكُم وآرَاؤُكُم، يَا مَن اختَلَفتُم أَشَدَّ الاختِلافِ في هذهِ الأَزمَةِ، اِستَحضِرُوا يَومَ الحِسَابِ، يَومَ الجَزَاءِ، يَومَ القِيَامَةِ، قَبلَ كُلِّ قَولٍ وعَمَلٍ، لَعَلَّ باستِحضَارِ يَومِ الحِسَابِ تَجتَمِعُ الكَلِمَةُ على سَلامَةِ هذا البَلَدِ، ويَحسُنَ القَولُ والعَمَلُ نَحْوَ هذا البَلَدِ الذي وُلِدْنَا فِيهِ، ودَرَجْنَا فِيهِ، وأَكَلنَا من خَيرَاتِهِ، ولَعَلَّ أن نَكُونَ من الفَائِزِينَ يَومَ القِيَامَةِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لما يُرضِيكَ عَنَّا. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 23/ذو الحجة/1435هـ، الموافق: 17/تشرين الأول/ 2014م

 2014-10-17
 22900
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

21-03-2024 589 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 589
14-03-2024 929 مشاهدة
904ـ خطبة الجمعة: حافظوا على الطاعات والعبادات

فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ عَامِلٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهُ هَدَفٌ يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا. وَقِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ تَأْتِي ... المزيد

 14-03-2024
 
 929
08-03-2024 855 مشاهدة
903ـ خطبة الجمعة: استقبل شهر رمضان بالأمور الآتية

هَا نَحْنُ نَسْتَقْبِلُ شَهْرَ الصَّوْمِ، وَأَنْعِمْ بِالصَّوْمِ عِبَادَةً، بِهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتُ، وَتَكْفِيرُ الخَطِيئَاتِ، وَكَسْرُ الشَّهَوَاتِ، وَتَكْثِيرُ الصَّدَقَاتِ، وَوَفْرَةِ الطَّاعَاتِ، وَشُكْرُ عَالِمِ الخَفِيَّاتِ، وَالانْزِجَارُ ... المزيد

 08-03-2024
 
 855
09-02-2024 2550 مشاهدة
902ـ خطبة الجمعة: حاله صلى الله عليه وسلم في شعبان

إِنَّ المُؤْمِنَ لَيَتَقَلَّبُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَمُدُّ اللهُ تعالى لَهُ في أَجَلِهِ، وَكُلَّ يَوْمٍ يَبْقَاهُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ غَنِيمَةٌ لَهُ لِيَتَزَوَّدَ مِنْهُ لِآخِرَتِهِ، وَيَحْرُثَ فِيهِ مَا اسْتَطَاعَ، ... المزيد

 09-02-2024
 
 2550
02-02-2024 2241 مشاهدة
901ـ خطبة الجمعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾

لِنَكنْ جَمِيعًا عَلَى يَقِينٍ أَنَّنَا سَنَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾. أَلَا وَإِنَّ الخَيْرَ كُلَّ الخَيْرِ في الجَنَّةِ، وَإِنَّ الشَّرَّ كُلَّ ... المزيد

 02-02-2024
 
 2241
25-01-2024 1483 مشاهدة
900ـ خطبة الجمعة: صورة من صور الحياء (2)

مَنْ فَقَدَ الحَيَاءَ فَقَدَ كُلَّ شَيْءٍ، وَصَارَ مُجَرَّدًا مِنْ كُلِّ خُلُقٍ نَبِيلٍ فَاضِلٍ، فَاقِدُ الحَيَاءِ مَمْقُوتٌ خَائِنٌ لَا رَحْمَةَ عِنْدَهُ، بَلْ في غَالِبِ الأَمْرِ الأَعَمِّ تَجِدُهُ مَلْعُونًا عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الخَلْقِ، ... المزيد

 25-01-2024
 
 1483

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3153
المكتبة الصوتية 4762
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411939567
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :