589ـ خطبة الجمعة: حقوق أبنائنا علينا قبل حقوقنا عليهم
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ الإِمَامُ الغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: الصَّبِيُّ أَمَانَةٌ عِنْدَ وَالِدَيْهِ، وَقَلْبُهُ الطَّاهِرُ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ سَاذَجَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ كُلِّ نَقْشٍ وَصُورَةٍ، وَهُوَ قَابِلٌ لِكُلِّ مَا نُقِشَ، وَمَائِلٌ إِلَى كُلِّ مَا يُمَالُ بِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ عُوِّدَ الْخَيْرَ وَعُلِّمَهُ نَشَأَ عَلَيْهِ وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَشَارَكَهُ فِي ثَوَابِهِ أَبَوَاهُ، وَكُلُّ مُعَلِّمٍ لَهُ وَمُؤَدِّبٍ، وَإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ وَأُهْمِلَ إِهْمَالَ الْبَهَائِمِ شَقِيَ وَهَلَكَ، وَكَانَ الْوِزْرُ فِي رَقَبَةِ الْقَيِّمِ عَلَيْهِ.
وَيَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: حَافِظُوا عَلَى أَبْنَائِكُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَعَوِّدُوهُمُ الْخَيْرَ، فَإِنَّ الْخَيْرَ عَادَةٌ. رواه الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ.
نَحْنُ مَسْؤُولُونَ عَنْ أَبْنَائِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ:
يَا عِبَادَ اللهِ: كُونُوا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّا مَسْؤُولُونَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَبَنَاتِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ، قَبْلَ أَنْ يُسْأَلُوا هُمْ عَنَّا، وَكَمَا أَنَّ لَنَا حُقُوقَاً عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾. فَلَهُمْ حُقُوقٌ عَلَيْنَا أَوَّلَاً، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾.
نَعَمْ، لَنَا حُقُوقٌ عَلَيْهِمْ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً وَبِذِي الْقُرْبَى﴾. وَلَكِنْ لَهُمْ حُقُوقٌ عَلَيْنَا أَوَّلَاً، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾. وَكَمَا قَالَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اعْدِلُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ» رواه الإمام أحمد عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
يَا عِبَادَ اللهِ: وَصِيَّةُ اللهِ تعالى لَنَا بِالأَبْنَاءِ قَبْلَ وَصِيَّةِ اللهِ تعالى لَهُمْ بِنَا، قَالَ تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئَاً كَبِيرَاً﴾. وَقَالَ لَنَا: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقَاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾.
فَمَنْ تَرَكَ أَوْلَادَهُ سُدَىً، وَأَهْمَلَ تَرْبِيَتَهُمْ، فَقَدْ أَسَاءَ غَايَةَ الإِسَاءَةِ؛ وَمَا فَسَدَ أَكْثَرُ الأَبْنَاءِ وَالبَنَاتِ إِلَّا مِنْ قِبَلِ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، لَقَدْ أَضَاعُوهُمْ صِغَارَاً، فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ جَزَاءً وِفَاقَاً، فَأَضَاعَ الأَبْنَاءُ آبَاءَهُمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ كِبَارَاً.
عَاتَبَ رَجُلٌ وَلَدَهُ عَلَى عُقُوقِهِ، فَقَالَ الوَلَدُ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ، إِنَّكَ عَقَقْتَنِي صَغِيرَاً، فَعَقَقْتُكَ كَبِيرَاً، وَأَضَعْتَنِي وَلِيدَاً، فَأَضَعْتُكَ شَيْخَاً.
أَيْنَ مُتَابَعَةُ الأَبْنَاءِ وَالبَنَاتِ؟
يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ حُقُوقِ الأَبْنَاءِ وَالبَنَاتِ عَلَى الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ مُتَابَعَتُهُمْ، لِأَنَّ وَاجِبَ التَّرْبِيَةِ يَفْرِضُ عَلَى المُرَبِّي مُتَابَعَةَ المُرَبَّى، يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَ مَدْخَلَهُ وَمَخْرَجَهُ، وَأَنْ لَا يَتْرُكَ لَهُ الحَبْلَ عَلَى الغَارِبِ، وَأَنْ لَا يَفْتَحَ لَهُ البَابَ عَلَى مِصْرَاعَيْهِ بِدُونِ مُتَابَعَةٍ، وَإِلَّا كَانَتِ العَاقِبَةُ غَيْرَ مَحْمُودَةٍ، وَالنِّهَايَةُ غَيْرَ مُطَمْئِنَةٍ.
يَا عِبَادَ اللهِ: يَجِبُ مُتَابَعَةُ الأَبْنَاءِ وَالبَنَاتِ بِالحِكْمَةِ، فَلَا إِهْمَالَ، لِأَنَّ الإِهْمَالَ مَرْفُوضٌ شَرْعَاً، وَلَا شِدَّةَ وَلَا قَسْوَةً صَارِمَةً؛ وَخَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَطُهَا.
يَجِبُ مُتَابَعَةُ الأَبْنَاءِ وَالبَنَاتِ بِالحِكْمَةِ، بِدُونِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، وَالتَّعَرُّفُ عَلَى مَنْ يُجَالِسُونَ؟ بَعْدَ تَذْكِيرِهِمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحَاً طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحَاً خَبِيثَةً» رواه الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
يَجِبُ مُتَابَعَةُ الأَبْنَاءِ وَالبَنَاتِ بِالحِكْمَةِ، بِدُونِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، وَالنَّظَرُ في جَوَّالَاتِهِمْ وَمَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ في حَالِ حُضُورِهِمْ، لَا في حَالِ غِيَابِهِمْ، مَاذَا يُوجَدُ في جَوَّالَاتِهِمْ؟
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: حُقُوقُ أَبْنَائِنَا عَلَيْنَا قَبْلَ حُقُوقِنَا عَلَيْهِمْ، لِذَلِكَ حِسَابُنَا عَلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ قَبْلَ حِسَابِهِمْ عَلَيْنَا ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾. كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى الوُقُوفِ أَمَامَ وَصَايَا سَيِّدِنَا لُقْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِوَلَدِهِ عِنْدَمَا قَالَ لَهُ: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾. ثُمَّ قَالَ لَهُ: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحَاً إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾.
مِنْ حُقُوقِهِمْ عَلَيْنَا أَوَّلَاً أَنْ نُخَاطِبَهُمُ الخِطَابَ الرَّقِيقَ الرَّحِيمَ الشَّفُوقَ الذي يُشْعِرُهُمْ بِالحَنَانِ: ﴿يَا بُنَيَّ﴾. هَذِهِ أَوَّلُ الوَاجِبَاتِ عَلَيْنَا ﴿يَا بُنَيَّ﴾. سَوَاءٌ كَانُوا طَائِعِينَ أَمْ عُصَاةً، فَالخِطَابُ مِنَ المُرَبِّي لِأَوْلَادِهِ وَاحِدٌ.
هَذَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُخَاطِبُ وَلَدَهُ البَارَّ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾.
وَهَذَا سَيِّدُنَا نُوحٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُخَاطِبُ وَلَدَهُ العَاقَّ: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾.
وَهَذَا سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُخَاطِبُ أَبْنَاءَهُ الذينَ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.
لِنَنْطَلِقْ مِنْ أَدَبِ الخِطَابِ مَعَ الأَبْنَاءِ أَوَّلَاً بِقَوْلِنَا: ﴿يَا بُنَيَّ﴾. وَلْنُتَابِعْ مِشْوَارَنَا مَعَهُمْ في التَّرْبِيَةِ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهِمْ، فَهَذَا وَاجِبٌ عَلَيْنَا أَوَّلَاً إِذَا أَرَدْنَا سَلَامَتَهُمْ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى تَرْبِيَةِ أَبْنَائِنَا التَّرْبِيَةَ الصَّحِيحَةَ القَوِيمَةَ. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 21/ جمادى الثانية /1439هـ، الموافق: 9/ آذار / 2018م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد
هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد
هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد
شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد
لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد