56ـ نحو أسرة مسلمة: يا ملتمسي ليلة النصف من شعبان

56ـ نحو أسرة مسلمة: يا ملتمسي ليلة النصف من شعبان

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

خلاصة الدرس الماضي:

فقد عرفنا في نهاية الدرس الماضي بأن النبي صلى الله عليه وسلم صبر على المحن فأكرمه الله عز وجل بالمنح، صبر يوم الطائف الذي كان من أشدِّ الأيام التي مرت عليه، فكان نتيجة هذا الصبر أن أكرمه الله عز وجل بخارقة لم تكن لأحد من قبله من الأنبياء والمرسلين، ولن تكون لغيره من بعده من باب أولى لأحد من خلق الله عز وجل، لأنه به صلى الله عليه وسلم ختمت النبوة.

خاتمة سورة النحل مع بداية سورة الإسراء:

لو تأملنا خاتمة سورة النحل مع بداية سورة الإسراء، يقول الله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُون * إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون}. ويقول تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير}.

لنقف أمام قول الله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُون * إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون}. هذه مرحلة أولى، مشار إليها بقوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}. والمرحلة الثانية: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}. والمرحلة الثالثة: {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين}.

من هو المحسن؟ هو الذي لم يقابل السيئة بالسيئة بل يعفو ويصفح، هو الذي التزم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صِلْ مَنْ قَطَعَكَ وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ) رواه أحمد.

ما نتيجة المحسن؟ يقول تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون}. ويقول: {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين}. وماذا يريد المحسن للآخرين أكثر من معية الله تعالى له ومحبته الله عز وجل له؟

وهذا هو الذي تجسَّد في شخصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يوم الطائف.

قد يقول البعض: ماذا فعل معهم وهم الذين أخرجوه؟ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الضعيف وأهل الطائف هم الأقوياء.

هذا قول عبد غافل عن الحقيقة جاهل بما أكرم الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم، عندما أرسل إليه ملك الجبال مع سيدنا جبريل عليهما السلام من أجل أن يطبق عليهم الأخشبين إذا أمر.

ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بهذا الحال؟ قال: (بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) رواه مسلم.

هذا هو الإحسان لمن أساء إليك، فكان نتيجة ذلك قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير}.

شرع لك العدل ورغَّبك بالفضل:

نعم ربنا عز وجل شرع لنا العدل أولاً لعلمه بضعفنا، وبأن العبد يجب أن يأخذ حقه عاجلاً لا آجلاً، لذلك قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرين}، وقال: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين}، وقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ}، وقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}.

ولكن بجانب هذا أرشدنا إلى الصبر الذي هو خير من العدل، فقال: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرين}. وإذا كان الصبر بالله عز وجل فهو هين، لأن الصابر إذا صبر على أذى الآخرين فهو مشمول بقوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين}.

كاظم الغيظ هو الصابر الذي وعده الله تعالى بجنة عرضها السماوات والأرض، كما قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، فكظم الغيظ من صفات المتقين، وكاظم الغيظ لا يعامل الآخرين بالعدل، إنما يعاملهم بالفضل طمعاً بوعد الله عز وجل له: {أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين}.

أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فأمره بالصبر:

فالله تعالى شرع لنا العدل ولكن رغَّبنا بالفضل وحبَّبنا فيه، وأما بالنسبة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فأمره بالصبر، ليكون قدوة لأمته صلى الله عليه وسلم.

الأمة تحتاج إلى قدوة وأسوة، وما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة للصالحين وأسوة حسنة لهم أمره الله تعالى بالصبر، وابتلاه الله عز وجل وشدَّد عليه الابتلاء وألزمه الصبر حتى يكون القدوة لغيره، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عندما سُئل: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: فَقَالَ: (الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) رواه أحمد واللفظ له والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

وعندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ الناس ابتلاء كان أعظمهم صبراً على أذى قومه، وهذا ما عرفناه من خلال حديثنا عن يوم الطائف.

وأنا أقول أيها الإخوة: يجب على كل واحد منا أن يكون قدوة لغيره، الأب لزوجته ولأولاده قدوة، والأخ لأخيه ولأخواته قدوة، الحاكم لمحكومه قدوة، ورب العمل لعماله قدوة، والشريك لشريكه قدوة، في الصبر على الأذى، والتحلي بفضيلة كظم الغيظ، وبعده بالإحسان لمن أساء إليه، وكل شيء له ثمنه، وصدق الله تعالى القائل: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين}.

ومن اقتصَّ من غيره فقد حلاوة كظم الغيظ، وفقد الأجر عليه الذي قال فيه مولانا عز وجل: {أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين}.

وداع شهر رجب واستقبال شهر شعبان:

نعم نحن ودَّعْنا شهر رجب وذكرنا فيه حادثة الإسراء والمعراج، وها نحن نستقبل شهر شعبان الذي فيه ليلة النصف من شعبان، والناس يبحثون بجدٍّ عن معرفة ليلة النصف هل هي ليلة الخميس القادمة أم ليلة الجمعة؟

لو سألتهم لماذا تبحثون عنها لأجابوا من أجل إحياء ليلها وصيام نهارها، ولماذا الإحياء؟ ولماذا الصيام؟

الجواب: رجاء أن يغفر الله عز وجل لنا في هذه الليلة؟ الجواب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا قال؟ الجواب: روى البيهقي من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبرائيل عليه السلام فقال: هذه ليلة النصف من شعبان، ولله فيها عتقاء من النار بعدد شعور غنم كلب).

وروى الطبراني وابن حبان عَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ رضي الله عنه، عَن ِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (يَطَّلِعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ).

من آمن بأول الحديث يجب عليه أن يؤمن بآخره:

نعم أيها الإخوة بشارة من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال هذين الحديثين، ولكن أقول يجب على من آمن بأول الحديث أن يؤمن بآخره، وإلا وقع في حرج شديد.

نعم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا، ولكن ماذا قال في آخر الحديث الأول: (ولا ينظر الله فيها إلى مشرك ولا إلى مشاحن ولا إلى قاطع رحم ولا إلى مسبل ولا إلى عاق لوالديه ولا إلى مدمن خمر).

وقال في الحديث الثاني: (إِلا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ).

يا من فرح بأول الحديث هل فكَّرت في آخره؟ هل صنَّفت نفسك؟ هل أنت ممن استثناهم الله عز وجل من هذه المغفرة؟

سلامة القلب هي الأصل:

الأصناف الذين استثناهم الله عز وجل من المغفرة ليلة النصف من شعبان هم أصحاب القلوب المريضة، وآثار مرض القلب ظهرت على جوارحهم.

فمريض بالقلب ظهرت على جوارحه الظاهرة جريمة الشرك.

ومريض آخر ظهرت على جوارحه جريمة المشاحنة.

ومريض آخر ظهرت على جوارحه جريمة قطع الرحم.

ومريض آخر ظهرت على جوارحه جريمة الكبر.

ومريض آخر ظهرت على جوارحه جريمة العقوق.

ومريض آخر ظهرت على جوارحه جريمة الإدمان على الخمر والمخدِّرات.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: (أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ) رواه مسلم.

أفضل الناس سليم القلب:

وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بأن أفضل الناس هو سليم القلب، أخرج ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ)، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: (هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لا إِثْمَ فِيهِ وَلا بَغْيَ وَلا غِلَّ وَلا حَسَدَ).

انظر إلى قلبك فأنت أدرى الخلق بقلبك بعد الله تعالى، هل قلبك لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد؟

يا ملتمسي ليلة النصف من شعبان تفقدوا قلوبكم عند النوم:

أيها الإخوة: هل بوسعنا ونحن نتلمس ليلة النصف من شعبان أن نتفقد قلوبنا؟ هل هي سليمة أم مريضة؟ والله تعالى لا ينظر إلى الصور والأجساد، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، كما جاء في الحديث: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) رواه مسلم.

إذا اختلفت مع زيد أو عمرو، أو مع زوجة أو ولد، أو مع شريك، هل تجعل هذا الخلاف خلافاً في الظاهر دون الباطن؟ هل تجعل هذا الخلاف على جوارحك الظاهرة دون أن يدخل منه شيء إلى قلبك فيجعل فيه الشحناء والبغضاء، التي هي الحالقة كما أسماها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه الإمام أحمد واللفظ له والترمذي وقال: حديث صحيح، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ـ أَوْ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ـ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ).

إياك أن تدخل هذا إلى قلبك، طالب من خاصمته بحقك، شارعه عند عالم من العلماء، خاصمه عند حاكم من الحكام، ولكن احرص على سلامة قلبك حتى تعيش في جنة الدنيا قبل جنة الآخرة.

صفة أهل الجنة:

هل تعلمون أيها الإخوة بأن صفة أهل الجنة سلامة قلوبهم فلا غلَّ ولا حسد، كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}.

اتصف بصفة أهل الجنة في الدنيا حتى تكون من أهلها في الآخرة، وإلا فكيف تطمع أن تكون من أهل الجنة في الآخرة وأنت لم تتصف بصفات أصحابها في الدنيا؟

تدبَّر جيداً قوله تعالى: {سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين}، هذه صفاتهم في الدنيا، وهي صفاتهم في الآخرة.

ومن اتصف بصفات أهل الجنة في حياته الدنيا عاش عيشة طيبة، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}، والحياة الدنيا لا تكون طيبة إلا عند سليم الصدر.

انظروا إلى أصحاب القلوب المريضة التي امتلأت حقداً وغلاً وضغينة إذا أراد أحدهم النوم كيف حاله؟ يتقلب في فراشه وهو يبحث عن النوم فلا يجد إليه سبيلاً بسبب الغيظ الذي في قلبه، من هو الخاسر؟

يا ملتمسي ليلة النصف من شعبان، اسمعوا إلى حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى الإمام أحمد عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ، قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلاةِ الْفَجْرِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَكَ ثَلاثَ مِرَارٍ: (يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: مَا هُوَ إِلا مَا رَأَيْتَ، قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: مَا هُوَ إِلا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لا أَجِدُ فِي نَفْسِي لأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لا نُطِيقُ.

خاتمة نسأل الله حسنها:

وأخيراً أقول أيها الإخوة: من آمن وصدَّق بحديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأخذه كاملاً غير منقوص، نعم إن لله عتقاء من النار في ليلة النصف من شعبان ما لا يعلمه إلا الله، وهناك من استثناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك.

الأصناف الذين استثناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هم:

1ـ المشرك، تفقَّد قلبك هل هو سليم من الشرك الخفي؟ ألم يقل مولانا عز وجل: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}؟ هل تعبد الله تعالى لله تعالى؟ أم أشركت لا قدر الله في العبادة؟

2ـ المشاحن، الذي تغيَّر قلبه على من أساء إليه فانتهى به الأمر إلى القطيعة والهجر.

3ـ قاطع الرحم، الذي قال الله فيه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُم * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُم}.

4ـ المُسْبِل المتَكبِّر، الذي تجاوز قدره فاتصف بصفة ليست صفته، تكبَّر بنعمة الله على خلق الله، تكبَّر بنعمة لا تدوم.

5ـ العاق لوالديه، الذين أوصى الله بهما بقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.

6ـ المدمن على الخمر والمخدِّرات، والإدمان على الخمر والمخدِّرات رجس من عمل الشيطان، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون}.

فبالخمر والمُخَدِّرات يوقع الشيطان العداوة والبغضاء بين الناس ويصدهم عن ذكر الله، وصدق سيدنا عثمان رضي الله عنه عندما قال: (اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ، إِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ خَلا قَبْلَكُمْ تَعَبَّدَ، فَعَلِقَتْهُ امْرَأَةٌ غَوِيَّةٌ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ جَارِيَتَهَا فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّا نَدْعُوكَ لِلشَّهَادَةِ، فَانْطَلَقَ مَعَ جَارِيَتِهَا، فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ، حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ عِنْدَهَا غُلامٌ وَبَاطِيَةُ خَمْرٍ، فَقَالَتْ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا دَعَوْتُكَ لِلشَّهَادَةِ، وَلَكِنْ دَعَوْتُكَ لِتَقَعَ عَلَيَّ، أَوْ تَشْرَبَ مِنْ هَذِهِ الْخَمْرَةِ كَأْسًا، أَوْ تَقْتُلَ هَذَا الْغُلامَ، قَالَ: فَاسْقِينِي مِنْ هَذَا الْخَمْرِ كَأْسًا، فَسَقَتْهُ كَأْسًا، قَالَ: زِيدُونِي، فَلَمْ يَرِمْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ النَّفْسَ، فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ، فَإِنَّهَا وَاللَّهِ لا يَجْتَمِعُ الإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ إِلا لَيُوشِكُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ) رواه النسائي.

اللهمَّ طهِّر قلوبنا من كل وصف يباعدنا عن مشاهدتك ومحبَّتك، واجعلنا ممن شملتهم بعفوك وغفرانك يا أرحم الراحمين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

**     **     **

 

 2009-07-29
 3901
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 

التعليقات [ 2 ]

محمد وسيم
 2009-08-08

جزاك الله عنا وعن المسلمين ألف ألف خير, وأرجو الله تعالى أن يشملني ووالدي ولك وجميع المسلمين برحمته في هذه الليلة المباركة.

محمود
 2009-08-05

جزاك الله عنا وعن المسلمين ألف ألف خير, وأرجو الله تعالى أن يشملني ووالدي ولك وجميع المسلمين برحمته في هذه الليلة المباركة.

 

مواضيع اخرى ضمن  نحو أسرة مسلمة

28-01-2018 4062 مشاهدة
200ـ نحو أسرة مسلمة: اللَّهُمَّ فهمنيها

لِتَحْقِيقِ السَّعَادَةِ في حَيَاتِنَا الأُسَرِيَّةِ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ القُرْآنِ العَظِيمِ تَعَامُلَاً صَحِيحَاً، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتِّلَاوَةِ مَعَ التَّدَبُّرِ، قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ... المزيد

 28-01-2018
 
 4062
21-01-2018 4889 مشاهدة
199ـ نحو أسرة مسلمة :مفتاح سعادتنا بأيدينا

كُلَّمَا تَذَكَّرْنَا يَوْمَ الحِسَابِ، يَوْمَ العَرْضِ عَلَى اللهِ تعالى، يَوْمَ نَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى حُفَاةً عُرَاةً غُرْلَاً، وَكُلَّمَا تَذَكَّرْنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَنَعِيمَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ، ... المزيد

 21-01-2018
 
 4889
14-01-2018 3507 مشاهدة
198ـنحو أسرة مسلمة : بعد كل امتحان ستعلن النتائج

صَلَاحُ أُسَرِنَا لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا عَرَفَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الغَايَةَ مِنْ وُجُودِهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ الكَثِيرُ مِنَ الأَزْوَاجِ مِمَّنْ دَخَلَ الدُّنْيَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ لَا يَدْرِي وَلَا يَعْلَمُ لِمَاذَا ... المزيد

 14-01-2018
 
 3507
08-01-2018 4103 مشاهدة
197ـنحو أسرة مسلمة: وصية الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لنا

القُرْآنُ العَظِيمُ الذي أَكْرَمَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَاصْطَفَانَا لِوِرَاثَتِهِ هُوَ مَصْدَرُ سَعَادَتِنَا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَمَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ في حَيَاتِهِ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَعَلَيْهِ ... المزيد

 08-01-2018
 
 4103
31-12-2017 4113 مشاهدة
196ـ نحو أسرة مسلمة :دمار الأسر بسبب الفسق والفجور

إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ شَقَاءِ البُيُوتِ، وَكَثْرَةِ الخِلَافَاتِ بَيْنَ الأَزْوَاجِ، المَعَاصِيَ وَالمُنْكَرَاتِ، التي تُنَكِّسُ الرُّؤُوسَ في الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، وَالتي تُسْلِمُ إلى مُقَاسَاةِ العَذَابِ الأَلِيمِ في الدُّنْيَا قَبْلَ ... المزيد

 31-12-2017
 
 4113
24-12-2017 3890 مشاهدة
195ـنحو أسرة مسلمة : أين بيوتنا من تلاوة القرآن؟

سِرُّ سَعَادَتِنَا في حَيَاتِنَا الزَّوْجِيَّةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَحَوُّلِنَا مِنَ الشَّقَاءِ إلى السَّعَادَةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ هِدَايَتِنَا مِنَ الضَّلَالِ إلى الهُدَى القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَمَاسُكِ أُسَرِنَا ... المزيد

 24-12-2017
 
 3890

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3154
المكتبة الصوتية 4763
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412055325
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :