428ـ خطبة الجمعة: أمور تعين على الصبر

428ـ خطبة الجمعة: أمور تعين على الصبر

 

 428ـ خطبة الجمعة: أمور تعين على الصبر

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، المَصَائِبُ والمِحَنُ في الحَيَاةِ الدُّنيَا أَمْرٌ لا بُدَّ مِنهُ، مَن مِنَّا لَمْ تَنزِلْ بِهِ مُصِيبَةٌ؟ مَن مِنَّا لَمْ يُمْتَحَنْ؟ مَن مِنَّا لَمْ يَفْقِدْ حَبِيبَاً؟ مَن مِنَّا لَمْ يَحْزَنْ ويَتَأَلَّمْ؟

لقد ضَرَبَ لَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَثَلَاً مُعَبِّرَاً للمُؤمِنِ في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ، لَا تَزَالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ، وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزِ، لَا تَهْتَزُّ حَتَّى تَسْتَحْصِدَ ـ يَعنِي: حَتَّى تَنقَلِعَ مَرَّةً وَاحِدَةً ـ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ، إذا اخْتَلَطَتْ جُذُورُ الزَّرْعِ في الأَرضِ وتَمَاسَكَتْ، فالرِّيحُ وإنْ أَمَالَتْهُ يُمْنَةً ويُسْرَةً فَإِنَّهَا لا تَطْرَحُهُ، ولا تَكْسِرُهُ، ولا تُسْقِطُهُ، وكذلكَ المُؤمِنُ الذي رَسَخَ الإِيمَانُ في قَلبِهِ، فَإِنَّ المَصَائِبَ وإنْ آلَمَتْهُ وأَحْزَنَتْهُ فَإِنَّهَا لا تَنَالُ من إِيمَانِهِ شَيئَاً، بل على العَكْسِ من ذلكَ تَمَامَاً، فَإِنَّهَا لا تَزِيدُهُ إلا إِيمَانَاً باللهِ تعالى.

هذهِ هيَ أَحْوَالُ الدُّنيَا:

يَا عِبَادَ اللهِ، طَبِيعَةُ الحَيَاةِ الدُّنيَا صَفْوٌ يَعْقُبُهُ كَدَرٌ، وكَدَرٌ يَعْقُبُهُ صَفَاءٌ، وفَرَحٌ يَعْقُبُهُ حُزْنٌ، وحُزْنٌ يَعْقُبُهُ فَرَحٌ، ولَذَّةٌ يَعْقُبُهَا أَلَمٌ، وأَلَمٌ يَعْقُبُهُ لَذَّةٌ، وَلَيسَ للمُؤمِنِ الصَّادِقِ فِيهَا إلا الصَّبْرَ، فَهُوَ الدَّوَاءُ لأَدَوَائِهَا.

يَقُولُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: جَرَّبْنَا وجَرَّبَ المُجَرِّبُونَ، فَلَمْ نَرَ شَيئَاً أَنْفَعَ من الصَّبْرِ، بِهِ تُدَاوَى الأُمُورُ، وهوَ لا يُدَاوَى بِغَيرِهِ.

ومَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيرَاً وأَوسَعَ من الصَّبْرِ، وكَانَ أَمْرُ المُؤمِنِ بَينِ النَّاسِ أَمْرَاً عَجِيبَاً، لأَنَّهُ إذا أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيرَاً لَهُ، وإنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيرَاً لَهُ.

أُمُورٌ تُعِينُ على الصَّبْرِ في المَصَائِبِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، المُؤمِنُونَ جَمِيعَاً بِحَاجَةٍ إلى الصَّبْرِ والمُصَابَرَةِ، وهُنَاكَ أُمُورٌ تُعِينُ على الصَّبْرِ في المَصَائِبِ، أَهَمُّهَا:

أولاً: عَدَمُ الجَزَعِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، لَو عَلِمَ العَبدُ أنَّ المَقَادِيرَ بِيَدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأَنَّ كُلَّ مَا يَحْدُثُ قَد سَبَقَ في عِلْمِ اللهِ وتَقْدِيرِهِ، لَمَا اشْتَدَّ بِهِ الحُزْنُ، ولَمَا أَلَمَّ بِهِ الأَسَى إلى حَدِّ الجَزَعِ والقُنُوطِ، قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ واللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾.

وَكُلُّ شَيءٍ بِقَضَاءٍ وقَدَر   ***   وَالكُلُّ في أُمِّ الكِتَابِ مُسْتَطَر

يَا عِبَادَ اللهِ، إِيَّايَ وإِيَّاكُم أن نَتَسَخَّطَ على أَقْدَارِ اللهِ، فَلَن يُعِيدَ الجَزَعُ غَائِبَاً، فالصَّبْرُ والاحْتِسَابُ هوَ أَولَى لَنَا، يَقُولُ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ. رواه الإمام البخاري.

وقَالَ أَيْضَاً: أَفْضَلُ عَيْشٍ عَيْشٌ أَدْرَكْنَاهُ بالصَّبْرِ، وَلَو أَنَّ الصَّبْرَ كَانَ من الرِّجَالِ كَانَ كَرِيمَاً.

يَجْرِي القَضَاءُ  وَفِيهِ الخَيْرُ نَافِلَةً   ***   لِمُـؤمِـنٍ وَاثِـقٍ بـاللهِ لَا لَاهِ

إنْ جَــاءَهُ فَــرَحٌ أَو نَـابَهُ تَرَحٌ   ***   فِي الحَالَتَينِ يَقُولُ: الحَمْدُ للهِ

ثانياً: عَدَمَ النَّظَرِ إلى النِّعَمِ المَفْقُودَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، لا تَنْظُرُوا إلى النِّعَمِ المَفْقُودَةِ، بَل انْظُرُوا إلى النِّعَمِ المَوْجُودَةِ واسْتَمْتِعُوا بِهَا، واشْكُرُوا اللهَ عزَّ وجلَّ عَلَيهَا، وتَذَكَّرُوا قَوْلَ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عِندَمَا قُطِعَتْ رِجْلُهُ، وَفَقَدَ وَلَدَهُ، فَقَالَ لأَهْلِهِ: لَا يَهُولَنَّكُم مَا تَرَونَ، فَلَقَد وَهَبَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَربَعَةً مِنَ البَنِينِ، ثُمَّ أَخَذَ مِنهُم وَاحِداً وَأَبقَى لِي ثَلَاثَةً فَلَهُ الحَمدُ، وَأَعطَانِي أَربَعَةً مِنَ الأَطرَافِ ثُمَّ أَخَذَ مِنهَا وَاحِداً وَأَبقَى لِي ثَلَاثَةً فَلَهُ الحَمدُ ، وَايمُ اللهِ لَئِن أَخَذَ مِنِّي قَلِيلاً فَلَقَد أَبقَى لِي كَثِيراً، وَلَئِن اِبتَلَانِي مَرَّةً فَلَطَالَما عَافَانِي مَرَّاتٍ.

ثالثاً: النَّظَرُ لِلغَيْرِ من أَهْلِ المَصَائِبِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، لِنَنْظُرْ في مَصَائِبِنَا إلى غَيْرِنَا مِمَّنْ هوَ أَشَدُّ مُصِيبَةً مِنَّا، فَإِنَّ ذلكَ يُذْهِبُ الأَسَى، ويُخَفِّفُ الأَلَمَ، ويُخَفِّفُ الهَلَعَ والجَزَعَ، لِيَنْظُرْ مَن فُجِعَ بِحَبِيبٍ إلى مَن فُجِعَ بِأَحْبَابٍ، لِيَنْظُرْ مَن فَقَدَ ابْنَاً إلى مَن فَقَدَ أَبنَاءً، لِيَنْظُرْ مَن فَقَدَ أَبنَاءً إلى مَن فَقَدَ عَائِلَةً كَامِلَةً.

لِيَنْظُرْ مَن فُجِعَ بِوَلَدٍ من أَولادِهِ إلى سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيهِ السَّلامُ، عِندَمَا فَقَدَ وَلَدَهُ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيهِ السَّلامُ، ومَكَثَ على ذلكَ عُقُودَاً من السِّنِينِ وهوَ لا يَعْلَمُ عَنهُ شَيئَاً، وبَعدَ أنْ كَبِرَ وضَعُفَ فَقَدَ ابْنَاً آخَرَ، فَلَمْ يَزِدْ أَنْ قَالَ في أَوَّلِ الأَمْرِ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾. ثمَّ قَالَ في الحَالِ الثَّانِي: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعَاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، الصَّبْرُ على المَصَائِبِ يَعْقُبُ الصَّابِرَ الرَّاحَةَ مِنهَا، ويُكْسِبُهُ المَثُوبَةَ عَنهَا إنْ صَبَرَ طَائِعَاً، وإلا احْتَمَلَ هَمَّاً لازِمَاً، وصَبَرَ كَارِهَاً وكَانَ آثِمَاً.

روى ابنُ عساكر، أَنَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ لِلْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ وهوَ يُعَزِّيهِ بابْنِهِ: إنْ تَحْزَنْ فَقَد اسْتَحَقَّتْ ذلكَ مِنكَ الرَّحِمُ، وَإِنْ تَصْبِرْ فَإِنَّ في اللهِ خَلَفَاً مِن ابْنِكَ، وإِنَّكَ إنْ صَبَرْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَلَمُ وَأَنْتَ مَأْجُورٌ، وَإِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَلَمُ وَأَنْتَ مَأْثُومٌ.

اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ بِجَمِيعِ مَحَامِدِكَ كُلِّهَا مَا عَلِمْنَا مِنهَا ومَا لَمْ نَعْلَمْ، على جَمِيعِ نِعَمِكَ وآلائِكَ كُلِّهَا مَا عَلِمْنَا مِنهَا ومَا لَمْ نَعْلَمْ، اللَّهُمَّ اجعَلنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، ومن الصَّابِرِينَ عِنْدَ البَلاءِ، ومن الرَّاضِينَ بِمُرِّ القَضَاءِ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 29/جمادى الأولى/1435هـ، الموافق: 20/آذار / 2015م

 2015-03-20
 1790
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 38 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 38
12-04-2024 663 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 663
09-04-2024 560 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 560
04-04-2024 680 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 680
28-03-2024 570 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 570
21-03-2024 1001 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1001

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412834354
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :