أهلا بكم في موقع الشيخ أحمد شريف النعسان

9371 - حكم الاستماع إلى الغناء

13-01-2019 17450 مشاهدة
 السؤال :
هل هناك أدلة تفيد تحريم الاستماع إلى الغناء المقرون بالموسيقا؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 9371
 2019-01-13

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ في هَذَا المَوْضُوعِ، مِنْهَا:

أولاً: روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ».

وَمَعْنَى يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ: أَنَّ الأَصْلَ فِيهَا التَّحْرِيمُ، وَكَلِمَةُ: لَيَكُونَنَّ تُفِيدُ مَا سَيَكُونُ في المُسْتَقْبَلِ، وَالمَعْنَى: أَنَّهُ سَيَأْتِي أُنَاسٌ يَسْتَحِلُّونَ وَيُبِيحُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَا كَانَ مُحَرَّمَاً مِنْ حِرَ وَحَرِيرٍ وَمَعَازِفٍ.

ثانياً: روى الترمذي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فِي هَذِهِ الأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ».

فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَتَى ذَاكَ؟

قَالَ: «إِذَا ظَهَرَتِ القَيْنَاتُ وَالمَعَازِفُ وَشُرِبَتِ الخُمُورُ».

وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ مَا يَجْلِبُ هَذِهِ العُقُوبَاتِ مُحَرَّمٌ، بَلْ كَبِيرَةٌ مِنَ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَلَيْسَ مِنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ.

ثالثاً: روى البزار عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: مِزْمَارٌ عِنْدَ نِعْمَةٍ، وَرَنَّةٌ عِنْدَ مُصِيبَةٍ».

وَهَل تَكُونُ اللَّعْنَةُ إِلَّا عَلَى كَبِيرَةٍ مِنَ الكَبَائِرِ؟

رابعاً: روى ابن ماجه عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ، يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، يُعْزَفُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ بِالمَعَازِفِ، وَالمُغَنِّيَاتِ، يَخْسِفُ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ».

وَهَلِ الخَسْفُ الذي يَكُونُ في القَوْمِ وَقَلْبُهُمْ إلى قِرَدَةٍ وَخَنَازِيرَ بِسَبَبِ صَغِيرَةٍ مِنَ الصَّغَائِرِ، أَمْ بِسَبَبِ كَبِيرَةٍ مِنَ الكَبَائِرِ؟

وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ الفُقَهَاءُ قَالُوا أَنَّ الكَبِيرَةَ هِيَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ فِيهَا حَدٌّ في الدُّنْيَا، كَالقَتْلِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، أَو جَاءَ فِيهَا وَعِيدٌ في الآخِرَةِ مِنْ عَذَابٍ أَو غَضَبٍ، أَو لَعَنَ اللهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَاعِلَهَا.

وَيَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا: لَا كَبِيرَةَ مَعَ الاسْتِغْفَارِ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الإِصْرَارِ.

وَكُلَّمَا كَانَ العَبْدُ مُقَرَّبَاً عِنْدَ اللهِ تعالى فَالصَّغِيرَةُ عِنْدَهُ كَبِيرَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إلى صِغَرِ الذَّنْبِ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلى عَظَمَةِ الرَّبِّ.

خامساً: روى الترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَوَجَدَهُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ فَبَكَى.

فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَتَبْكِي؟ أَوَلَمْ تَكُنْ نَهَيْتَ عَنِ البُكَاءِ؟

قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، خَمْشِ وُجُوهٍ، وَشَقِّ جُيُوبٍ، وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ».

وفي رِوَايَةٍ للحاكم قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَمْ أَنْهَ عَنِ الْبُكَاءِ، وَلَكِنِّي نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ، صَوْتٍ عِنْدَ نغمةِ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ، وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ لَطْمِ وجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ».

مَاذَا يُفِيدُ هَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ، مَعَ الأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ؟

سادساً: روى الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ارْمُوا وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا؛ كُلُّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ بَاطِلٌ، إِلَّا رَمْيَةَ الرَّجُلِ بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ؛ وَمَنْ نَسِيَ الرَّمْيَ بَعْدَمَا عُلِّمَهُ، فَقَدْ كَفَرَ الَّذِي عُلِّمَهُ».

وَالبَاطِلُ هُوَ غَيْرُ الحَقِّ.

سابعاً: روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدَىً لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحَقَ المَزَامِيرَ وَالكِنَّارَاتِ» الكِنَّارَاتِ: بِكَسْرِ الكَافِ وَبِفَتْحِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَإِهْمَالِ الرَّاءِ: العِيدَانُ أَو الدُّفُوفُ أَو الطُّبُولُ وَالطَّنَابِيرُ.

ثامناً: جَاءَ في حَاشِيَةِ ابْن عَابِدِينَ: لَوْ دُعِيَ إلَى دَعْوَةٍ فَالوَاجِبُ الإِجَابَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَعْصِيَةٌ وَلَا بِدْعَةٌ، وَالامْتِنَاعُ أَسْلَمُ فِي زَمَانِنَا إلَّا إذَا عَلِمَ يَقِينَاً أَنْ لَا بِدْعَةَ وَلَا مَعْصِيَةَ اهـ.

وَالظَّاهِرُ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْوَلِيمَةِ لِمَا مَرَّ وَيَأْتِي تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَثَمَّةَ لَعِبٌ) بِـكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا، وَالغِنَاءُ بِالكَسْرِ مَمْدُودَاً السَّمَاعُ؛ وَمَقْصُورَاً الغِنَى اليَسَارُ (قَوْلُهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْعُدَ) أَيْ يَجِبُ عَلَيْهِ؛ قَالَ فِي الِاخْتِيَارِ: لِأَنَّ اسْتِمَاعَ اللَّهْوِ حَرَامٌ، وَالْإِجَابَةُ سُنَّةٌ، وَالِامْتِنَاعَ عَنِ الْحَرَامِ أَوْلَى. اهـ.

وَفِي السِّرَاجِ: وَدَلَّتِ المَسْأَلَةُ أَنَّ المَلَاهِيَ كُلَّهَا حَرَامٌ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِمْ بِلَا إِذْنِهِمْ لِإِنْكَارِ المُنْكَرِ.

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: صَوْتُ اللَّهْوِ وَالْغِنَاءِ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ المَاءُ النَّبَاتَ.

قُلْتُ: وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ اسْتِمَاعُ صَوْتِ المَلَاهِي كَضَرْبِ قَصَبٍ وَنَحْوِهِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اسْتِمَاعُ المَلَاهِي مَعْصِيَةٌ، وَالْجُلُوسُ عَلَيْهَا فِسْقٌ، وَالتَّلَذُّذُ بِهَا كُفْرٌ» أَيْ: بِالنِّعْمَةِ؛ فَصَرْفُ الْجَوَارِحِ إلَى غَيْرِ مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ كُفْرٌ بِالنِّعْمَةِ لَا شُكْرٌ، فَالْوَاجِبُ كُلُّ الْوَاجِبِ أَنْ يَجْتَنِبَ كَيْ لَا يَسْمَعَ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي أُذُنِهِ عِنْدَ سَمَاعِهِ.

وَالحَاصِلُ أَنَّهُ لَا رُخْصَةَ في السَّمَاعِ في زَمَانِنَا، لِأَنَّ الجُنَيْدَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى تَابَ عَنِ السَّمَاعِ في زَمَانِهِ. اهـ.

وفي العِنَايَةِ شَرْحِ الهِدَايَةِ: قَالَ: وَلَا يَجُوزُ الاسْتِئْجَارُ عَلَى الغِنَاءِ وَالنَّوْحِ، وَكَذَا سَائِرُ المَلَاهِي؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى المَعْصِيَةِ وَالمَعْصِيَةُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالعَقْدِ.

جَاءَ في الشَّرْحِ: فَإِنَّهُ لَوِ اسْتُحِقَّتْ بِهِ لَكَانَ وُجُوبُ مَا يَسْتَحِقُّ المَرْءُ بِهِ عِقَابَاً مُضَافَاً إلَى الشَّرْعِ وَهُوَ بَاطِلٌ.

وفي البَحْرِ الرَّائِقِ في شَرْحِ كَنْزِ الدَّقَائِقِ: وفي المِعْرَاجِ: المَلَاهِي نَوْعَانِ: مُحَرَّمٌ وهو الْآلَاتُ المُطْرِبَةُ من غَيْرِ الْغِنَاءِ كَالمِزْمَارِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عُودٍ أَو قَصَبٍ كَالشَّبَّابَةِ، أَو غَيْرِهِ كَالْعُودِ وَالطُّنْبُورِ، لِمَا روى أَبُو أُمَامَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ اللهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَأَمَرَنِي بِمَحْقِ المَعَازِفِ وَالمَزَامِيرِ» وَلِأَنَّهُ مُطْرِبٌ مُصِدٌّ عن ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى.

وَفِيهِ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَجْلِسُ مَجَالِسَ الغِنَاءِ أَو يَتْبَعُ صَوْتَ المُغَنِّيَةِ وَلَا مَنْ يَسْمَعُ الغِنَاءَ.

وَجَاءَ في المَجْمُوعِ: وَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الآلَاتِ التي تُطْرِبُ مِنْ غَيْرِ غِنَاءٍ كَالعُودِ وَالطُّنْبُورِ وَالمَعْزِفَةِ وَالطَّبْلِ وَالمِزْمَارِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تعالى ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا المَلَاهِي.

وَيَقُولُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَشَدِّ المَذَاهِبِ، وَقَولُهُ فِيهِ أَغْلَظُ الأَقْوَالِ، وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُهُ بِتَحْرِيمِ سَمَاعِ المَلَاهِي كُلِّهَا كَالمِزْمَارِ وَالدُّفِّ حَتَّى وَالـضَّرْبِ بِالقَضِيبِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ يُوجِبُ الفِسْقَ وَتُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ السَّمَاعَ فِسْقٌ وَالتَّلَذُّذُ بِهِ كُفْرٌ اهـ. يَعْنِي كُفْرَانَ النِّعْمَةِ.

وَيَقُولُ الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَهَا مُغَنِّيَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالعَيْبِ.

وَسُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عَمَّا يُرَخَّصُ فِيهِ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنَ الغِنَاءِ؟

فَقَالَ: إِنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الفُسَّاقُ.

وَيَقُولُ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: الغِنَاءُ لَهْوٌ مَكْرُوهٌ يُشْبِهُ البَاطِلَ، وَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ فَهُوَ سَفِيهٌ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ.

وَيَقُولُ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أَنْ يُغَنَّى بِبَعْضِ آلَاتِ الغِنَاءِ، بِمَا هُوَ مِنْ شِعَارِ شَارِبِي الخَمْرِ، وَهُوَ مُطْرِبٌ كَالطُّنْبُورِ، وَالعُودِ، وَالصَّنْجِ، وَسَائِرِ المَعَازِفِ وَالأَوْتَارِ، يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ وَاسْتِمَاعُهُ. اهـ.

وَأَمَّا الإِمَامُ أَحْمَدُ، فَقَدْ سَأَلَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ عَنِ الغِنَاءِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، الغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ في القَلْبِ؛ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ مَالِكٍ: إِنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الفُسَّاقُ.

وَيَقُولُ وَلَدُهُ عَبْدُ اللهِ: وَسَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ يَحْيَى القَطَّانَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ رَجُلَاً عَمِلَ بِكُلِّ رُخْصَةٍ؛ بِقَوْلِ أَهْلِ الكُوفَةِ في النَّبِيذِ، وَأَهْلِ المَدِينَةِ في السَّمَاعِ، وَأَهْلِ مَكَّةَ في المُتْعَةِ؛ لَكَانَ فَاسِقَاً.

وَقَاَل سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: لَوْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ، أَو زَلَّةِ كُلِّ عَالِمٍ، اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ.

وَيَقُولُ الإِمَامُ أَبُو عَمْرٍو بْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: حُكِيَ الإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ السَّمَاعِ، الذي جَمَعَ الدُّفَّ، وَالشَّبَّابَةَ، وَالغِنَاءَ، فَقَالَ في فَتَاوِيهِ: وَأَمَّا إِبَاحَةُ السَّمَاعِ، وَتَحْلِيلُهُ، فَلْيُعْلَمْ أَنَّ الدُّفَّ، وَالشَّبَّابَةَ، وَالغِنَاءَ إِذَا اجْتَمَعَتْ، فَاسْتِمَاعُ ذَلِكَ حَرَامٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ المَذَاهِبِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ في الإِجْمَاعِ وَالاخْتِلَافِ، أَنَّهُ أَبَاحَ هَذَا السَّمَاعَ. اهـ.

وَيَقُولُ ابْنُ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةَ: وَمِنْ مَكَايِدِ عَدُوِّ اللهِ وَمَصَايِدِهِ التي كَادَ بِهَا مَنْ قَلَّ نَصِيبُهُ مِنَ العِلْمِ، وَالعَقْلِ، وَالدِّينِ، وَصَادَ بِهَا قُلُوبَ الجَاهِلِينَ وَالمُبْطِلِينَ: سَمَاعُ المُكَاءِ، وَالتَّصْدِيَةِ، وَالغِنَاءِ بِالآلَاتِ المُحَرَّمَةِ؛ الذي يَصُدُّ القُلُوبَ عَنِ القُرْآنِ، وَيَجْعَلُهَا عَاكِفَةً عَلَى الفُسُوقِ وَالعِصْيَانِ، فَهُوَ قُرْآنُ الشَّيْطَانِ، وَالحِجَابُ الكَثِيفُ عَنِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ رُقْيَةِ اللِّوَاطِ، وَالزِّنَا، وَبِهِ يَنَالُ العَاشِقُ الفَاسِقُ مِنْ مَعْشُوقِهِ غَايَةَ المُنَى، كَادَ بِهِ الشَّيْطَانُ النُّفُوسَ المُبْطِلَةَ، وَحَسَّنَهُ لَهَا مَكْرَاً مَنْهُ وَغُرُورَاً، وَأَوْحَى إِلَيْهَا الشُّبَهَ البَاطِلَةَ عَلَى حَسَنِهِ، فَقَبِلَتْ وَحْيَهُ، وَاتَّخَذَتْ لِأَجْلِهِ القُرْآنَ مَهْجُورَاً. اهـ.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

تُـلِـيَ الكِتَابُ فَأَطْرَقُوا لَا خِيَفَةً   ***   لَـكِـنَّـهُ إِطْـرَاقُ سَـــاهٍ لَاهِي

وَأَتَـى الـغِنَاءُ فَكَالحَمِيرِ تَنَاهَقُوا   ***   وَاللهِ مَا رَقَصُوا لِأَجْــــلِ اللهِ

دُفٌّ وَمِـزْمَـارٌ وَنَـغْـمَـةُ شَـادِنٍ   ***   فَمَتَى رَأَيْتَ عِبَادَةً بِمَلَاهِــي

ثَقُلَ الكِتَابُ عَـلَـيْـهِـمُ لَمَّـا رَأَوْا   ***   تَقْيِيدَهُ بِأَوَامِرٍ وَنَوَاهِـــــــي

سَمِعُوا لَهُ رَعْدَاً وَبَرْقَاً إِذْ حَـوَى   ***   زَجْرَاً وَتَخْوِيفَاً بِفِعْلِ مُنَاهِــي

وَرَأَوْهُ أَعْظَمَ قَاطِعٍ لِلنَّفْسِ عَـنْ   ***   شَهَوَاتِهَا يَا ذَبْحَهَا المُتَنَاهِـــي

وَأَتَى السَّمَاعُ مُوَافِقَاً أَغْـرَاضَـهَا    ***   فَلِأَجْلِ ذَاكَ غَدَا عَظِيمَ الجَاهِ

وَأَمَّا ابْنُ حَجَرٍ الهَيْثَمِيُّ في كِتَابِهِ الزَّوَاجِرِ: اعْتَبَرَ ضَرْبَ الوَتَرِ وَاسْتِمَاعَهُ وَالمِزْمَارِ وَاسْتِمَاعَهُ مِنَ الكَبَائِرِ.

وَفِي الخِتَامِ: هَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَمَا يُروَى عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ قَوْمَاً أَتَوْا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ لَنَا إِمَامَاً إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ تَغَنَّى.

فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ هُوَ؟

فَذُكِرَ لَهُ الرَّجُلُ.

فَقَالَ: قُومُوا بِنَا إِلَيْهِ؛ فَإِنَّا إِنْ وَجَّهْنَا إِلَيْهِ يَظُنُّ أَنَّا تَجَسَّسْنَا عَلَيْهِ أَمْرَهُ.

قَالَ: فَقَامَ عُمَرُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَوُا الرَّجُلَ وَهُوَ فِي المَسْجِدِ.

فَلَمَّا أَنْ نَظَرَ إِلَى عُمَرَ قَامَ فَاسْتَقْبَلَهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَا حَاجَتُكَ؟ وَمَا جَاءَ بِكَ؟ إِنْ كَانَتِ الْحَاجَةُ لَنَا؛ كُنَّا أَحَقَّ بِذَلِكَ مِنْكَ أَنْ نَأْتِيَكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَاجَةُ لَكَ؛ فَأَحَقُّ مَنْ عَظَّمْنَاهُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

قَالَ لَهُ عُمَرُ: وَيَحَكَ، بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ سَاءَنِي.

قَالَ: وَمَا هُوَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟

قَالَ: أَتَتَمَجَّنُ فِي عِبَادَتِكَ؟

قَالَ: لَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، لَكِنَّهَا عِظَةٌ أَعِظُ بِهَا نَفْسِي.

قَالَ عُمَرُ: قُلْهَا، فَإِنْ كَانَ كَلَامَاً حَسَنَاً قُلْتُهُ مَعَكَ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحَاً نَهَيْتُكَ عَنْهُ.

فَقَالَ:

وَفُـؤَادِي كُـلَّـمَـا عَـاتَـبْتُـهُ   ***   فِي مَدَى الْهِجْرَانِ يَبْغِي  تَعَبِي

لَا أَرَاهُ الـــــدَّهْرَ إِلَّا لَاهِيَاً   ***   فِي تَـمَـادِيـهِ فَـقَـدْ بَـرَّحَ بِـي

يَا قَرِينَ السُّوءِ مَا هَذَا الصِّبَا   ***   فَنِيَ الْـعُـمْـرُ كَـذَا فِي اللَّعِبِ

وَشَـبَـابٌ بَـانَ عَنِّي فَمَضَى    ***   قَبْلَ أَنْ أَقْـضِـيَ مِـنْـهُ أَرَبِـي

مَـا أُرَجِّـي بَـعْـدَهُ إِلَّا الْـفَنَا    ***   ضَيَّقَ الشَّيْبُ عَلَيَّ مَـطْـلَـبِي

وَيْـحَ نَـفْـسِي لَا أَرَاهَـا أَبَـدَاً   ***   فِي جَـمِـيـلٍ لَا وَلَا فِي أَدَبِ

نَفْسُ لَا كُنْتِ وَلَا كَانَ الْهَوَى   ***   رَاقِبِي المَوْلَى وَخَافِي وَارْهَبِي

قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ رِضِيَ اللهُ عَنْهُ:

نَفْسُ لَا كُنْتِ وَلَا كَانَ الْهَوَى   ***   رَاقِبِي الْمَوْلَى وَخَافِي وَارْهَبِي

ثُمَّ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَلَى هَذَا فَلْيُغَنِّ مَنْ غَنَّى.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَقَدْ ذَهَبَ الكَثِيرُ مِنَ الفُقَهَاءِ إلى تَحْرِيمِ سَمَاعِ الغِنَاءِ المَصْحُوبِ بِالآلَاتِ المُوسِيقِيَّةِ بِشَكْلٍ عَامٍّ، وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ كَبِيرَةً مِنَ الكَبَائِرِ.

وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ الغِنَاءُ كَلَامَاً فَاحِشَاً مُثِيرَاً للشَّهَوَاتِ وَالغَرَائِزِ المُحَرَّمَةِ، وَالأَسْوَأُ حَالَاً أَنْ يَكُونَ بِصَوْتِ المَرْأَةِ أَمَامَ الرِّجَالِ، إلى آخِرِ المُنْكَرَاتِ التي تُصَاحِبُ الغِنَاءَ. هذا، والله تعالى أعلم.

اللَّهُمَّ أَرِنَا الحَقَّ حَقَّاً وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ وَحَبِّبْنَا فِيهِ، وَأَرِنَا البَاطِلَ بَاطِلَاً وَأَلْهِمْنَا اجْتِنَابَهُ وَكَرِّهْنَا فِيهِ؛ اللَّهُمَّ اهْدِنَا لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مَنَ الحَقِّ. آمين.

 

المجيب : الشيخ أحمد شريف النعسان
17450 مشاهدة