343ـ خطبة الجمعة: السر في الهم والغم والكرب الذي أصاب الأمة

343ـ خطبة الجمعة: السر في الهم والغم والكرب الذي أصاب الأمة

 

 مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عِبادَ الله، إنَّ الذي يَنظُرُ في حالِ الأمَّةِ وابتِلاءاتِها في أيَّامِنا هذهِ يَعتَقِدُ اعتِقاداً جازِماً أنَّ الذينَ يَتَحَكَّمونَ في مُقَدَّراتِ الأمَّةِ ومَصيرِها إنَّما هُم مُفرِطونَ بِحُقوقِ الله تعالى، مُضَيِّعونَ للأمانَةِ التي بينَ أيديهِم، باعوا دِينَهُم بِعَرَضٍ من الدُّنيا قليلٍ، وباعوا أنفُسَهُم للأهواءِ ولِشَياطينِ الإنسِ والجِنِّ، هؤلاءِ حِسابُهُم على الله تعالى، ويَجِبُ عليهِم أن يَعلَموا بأنَّ اللهَ تعالى ليسَ بغافِلٍ عنهُم، فَضلاً عن أن يُعجِزوهُ، ولكن لِحِكمَةٍ يُمهِلُهُم.

حالُ أكثَرِ الأمَّةِ اليَومَ:

أيُّها الإخوة الكرام: ولو التَفَتنا إلى من حَولَنا من النَّاسِ في هذا البَلَدِ الحَبيبِ، فلا نَجِدُ فيهِم إلا المَنكوبَ المَكروبَ المَهمومَ المَغمومَ، قد وَقَعَ على أكثَرِهِمُ الهَمُّ والغَمُّ والكَربُ الشَّديدُ.

هذا فَقَدَ حَبيباً لهُ، وهذا خُطِفَ وَلَدُهُ، وهذا قُتِلَت زوجَتُهُ ووَلَدُهُ، وهذا تَهَدَّمَ بَيتُهُ، وهذا خُرِّبَ مَصنَعُهُ ومَنشَأتُهُ، وهذا سُلِبَ مالُهُ، وهذا لا يَستَطيعُ أن يَصِلَ إلى مَكانِ عَمَلِهِ، وهذا رُمِّلَت زوجَتُهُ ويُتِّمَ أولادُهُ، وهذا وهذا، الكُلُّ في كَربٍ وحُزنٍ، الكُلُّ مُصابٌ إلا من رَحِمَ اللهُ تعالى، ومن لم يُصَبْ فهوَ خائِفٌ من نُزولِ مُصيبَةٍ به.

لقد بَلَغَ النَّاسُ من الهَمِّ والكَربِ والشِّدَّةِ ما لا يُطيقونَ ولا يَحتَمِلونَ إلا من رَحِمَ اللهُ تعالى، لماذا؟ وماذا عليهِم أن يَفعَلوهُ؟

السِّرُّ في هذا الهَمِّ والغَمِّ والكَربِ:

أيُّها الإخوة الكرام: السِّرُّ في هذا الهَمِّ والغَمِّ والكَربِ العَظيمِ الذي أصابَ الأمَّةَ اليَومَ، أنَّهُم ما عَرَفوا طَبيعَةَ هذهِ الحَياةِ الدُّنيا، ولو عَرَفوا طَبيعَةَ هذهِ الحَياةِ الدُّنيا لهانَت عليهِمُ المَصائِبُ.

أيُّها الإخوة الكرام: هذا سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعَرِّفُنا على طَبيعَةِ هذهِ الحَياةِ الدُّنيا:

أولاً: لا تُساوي عِندَ الله جَناحَ بَعوضَةٍ، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الترمذي عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ».

ثانياً: هذهِ الحَياةُ الدُّنيا يُعطيها اللهُ لمن أحَبَّ ولمن لا يُحِبُّ، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يَسْلَمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»

قَالُوا: وَمَا بَوَائِقُهُ يَا نَبِيَّ الله؟

قَالَ: «غَشْمُهُ وَظُلْمُهُ، وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالاً مِنْ حَرَامٍ فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ، وَلَا يَتْرُكُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيث».

ثالثاً: هذهِ الحَياةُ الدُّنيا مَمَرٌّ وليسَت مَقَرَّاً، لذلكَ كانَ يَقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» رواه الترمذي عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُ.

ولذلكَ كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لا يَعبَأُ بها، فعِندَما دَخَلَ عليه سيِّدُنا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ وكانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُضطَجِعاً على حَصيرِ، مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ، حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظاً مَصْبُوباً، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ.

يَقولُ سيِّدُنا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ: فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ، فَبَكَيْتُ.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُبْكِيكَ؟»

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ الله.

فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُم الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ».

وفي رواية الشَّيخان قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا».

رابعاً: الدُّنيا بالنِّسبَةِ للمؤمنِ سِجنٌ، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ».

وهل رَأَيتُم سَجيناً مُرتاحاً في سِجنِهِ؟

المؤمنُ في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا في سِجنٍ لأنَّهُ مُقَيَّدٌ بِقُيودِ الشَّريعَةِ، ولأنَّهُ مُكَلَّفٌ من قِبَلِ مَولانا بِفِعلِ المَأموراتِ، وتَركِ المَحظوراتِ، وهذا ثَقيلٌ على النَّفسِ الأمَّارَةِ بالسُّوءِ.

المؤمنُ في الحَياةِ الدُّنيا في سِجنٍ لأنَّهُ مُبتَلى، قال تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين﴾.

المؤمنُ في الحَياةِ الدُنيا في سِجنٍ لأنَّهُ دائِمُ الخَوفِ من الله تعالى كيفَ سَيَخرُجُ من هذا السِّجنِ، هل سَيَخرُجُ على طاعَةٍ أم على مَعصِيَةٍ؟

المؤمنُ في الحَياةِ الدُنيا في سِجنٍ لأنَّهُ عَرَفَ يقيناً بأنَّهُ لا رَاحَةَ له إلا بِلِقاءِ ربِّهِ عزَّ وجلَّ.

يا عبادَ الله، من عَرَفَ طَبيعَةَ هذهِ الحَياةِ الدُّنيا هانَت عليه مَصائِبُها.

ماذا على العَبدِ أن يَفعَلَ ساعَةَ الهَمِّ والغَمِّ والكَربِ:

أيُّها الإخوة الكرام: ماذا على العَبدِ أن يَفعَلَ ساعَةَ الهَمِّ والغَمِّ والكَربِ بِسَبَبِ الابتِلاءِ؟

أولاً: أن يَكونَ مُتَفائِلاً شاكِراً عِندَ الشَّدائِدِ والمِحَنِ، لأنَّ الشَّدائِدَ والمِحَنَ تَكشِفُ طَبائِعَ النَّاسِ ومَعادِنَهُم، ولولا الشَّدائِدُ لما ظَهَرَت طَبائِعُ النَّاسِ ومَعادِنُهُم، بل يَبقى حالُهُم مَستوراً.

بالشَّدائِدِ والابتِلاءاتِ يَظهَرُ المُستَقيمُ من المُنحَرِفِ، وصَدَقَ اللهُ تعالى القائِلُ: ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾. فالشَّدائِدُ والابتِلاءاتُ تُظهِرُ طَبيعَةَ المؤمنِ الذي يَقولُ: إلهي أنت مَقصودي، ورِضاكَ مَطلوبي، فلا يُغَيِّرُ ولا يُبَدِّلُ قَيدَ أُنمُلَةٍ، كما تُظهِرُ الدَّعِيَّ غَيرَ الصَّادِقِ في التِزامِهِ.

أن لا يَجزَعَ لِحَوادِثِ الدَّهرِ، يا صاحِبَ الابتِلاءِ لا تَجزَعْ، لأنَّ الجَزَعَ لا يَرُدُّ المُصيبَةَ بل يُضاعِفُها، ولا يُزيلُ الهَمَّ بل يَزيدُهُ.

لا تَجزَعْ، لأنَّ الجَزَعَ ليسَ من صِفاتِ المؤمنِ.

لا تَجزَعْ، لأنَّ الجَزَعَ لا يُرضي الرَّبَّ تبارَكَ وتعالى، بل يُرضي الشَّيطانَ.

لا تَجزَعْ، لأنَّ الجَزَعَ لا يَسُرُّ الصَّديقَ، بل يَسُرُّ العَدُوَّ.

لا تَجزَعْ، لأنَّ القَدَرَ وَقَعَ، فإن رَضيتَ كُنتَ عِندَ الله مَحموداً، وإن لم تَرضَ ـ لا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ كُنتَ عِندَ الله مَذموماً.

لا تَجزَعْ، لأنَّ الجَزَعَ قد يَكونُ سَبَباً في الرِّدَّةِ، والعِياذُ بالله تعالى، هل نَسيتَ أيُّها المؤمنُ قَولَ الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين﴾.

لا تَجزَع ولكَ رَبٌّ، لا تَقُل: يا ربِّ إنَّ الكَربَ عَظيمٌ، ولكن قِفْ سَحَراً وقُل: يا كَربُ ليَ ربٌّ عَظيمٌ، وهوَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ.

ثالثاً: أن لا يَنظُرَ إلى ما أُخِذَ منهُ، يا صاحِبَ الابتِلاءِ لا تَنظُر إلى ما أُخِذَ منكَ، بل انظُر إلى ما أبقى اللهُ تعالى لكَ، هذا سيِّدُنا عُروَةُ بنُ الزَّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عنهُ بُتِرَت رِجلُهُ، وفَقَدَ وَلَدَهُ، فقال: إن أخَذَ اللهُ عُضواً فقد تَرَكَ أعضاءً، وإن أخَذَ ولداً فقد تَرَكَ أولاداً.

لا تَنظُر إلى ما أخِذَ منكَ، ولكن انظُر إلى ما أبقى اللهُ لكَ، ألم يُبقِ لكَ لِساناً ذاكِراً، وقَلباً شاكِراً، وعَيناً دامِعَةً؟ ألم يُبقِ لكَ الإيمانَ الذي هوَ سِرُّ سَعادَتِكَ؟ ألم يَشرَحْ صَدرَكَ للإسلامِ؟ ألم يُبقِ لكَ الطَّاعَةَ التي هيَ سَبَبٌ لِدُخولِكَ الجَنَّةَ؟

رابعاً: أن لا يَنسَ يومَ القِيامَةِ، يا صاحِبَ الابتِلاءِ لا تَنسَ يومَ القِيامَةِ، فهوَ مِيعادُ الجَميعِ ـ جَميعِ المَخلوقاتِ ـ فالموتُ يَعُمُّ الجَميعَ، الحاكِمَ والمَحكومَ، والظَّالِمَ والمَظلومَ، والقَوِيَّ والضَّعيفَ، والطَّائِعَ والعاصي، الموتُ يَعُمُّنا، والقَبرُ يَضُمُّنا، والقِيامَةُ تَجمَعُنا، واللهُ تعالى يَفصِلُ بَينَنا.

الإيمانُ بِيَومِ القِيامَةِ يُذهِبُ الهُمومَ والأحزانَ والأكدارَ، وكم من القَضايا حُوِّلَت من أمامِ القَضاءِ البَشَرِيِّ إلى يومِ القَضاءِ بينَ يَدَيِ الله تعالى أحكَمِ الحاكمينَ.

ففي يومِ القِيامَةِ يَقولُ المَظلومُ: ﴿رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُون﴾.

وفي يومِ القِيامَةِ سَيَذهَلُ المُجرِمُ، قال تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾.

هؤلاءِ الذينَ أجرَموا في سَفكِ الدِّماءِ البَريئةِ، وارتَكَبوا الجَرائِمَ، سوفَ يَندَمونَ ولا يَنفَعُهُمُ النَّدَمُ، فإن ضَحِكوا في الحَياةِ الدُّنيا من الذينَ آمَنوا فإنَّ الجَزاءَ من جِنسِ العَمَلِ يومَ القِيامَةِ، فسوفَ يَضحَكُ منهُمُ المؤمنونَ، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُون﴾. هذا في الحَياةِ الدُّنيا، أمَّا في الآخِرَةِ يَقولُ اللهُ تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُون * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُون * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُون﴾.

خامساً: أن لا يَنسَ قَولَ الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِين﴾. يا صاحِبَ الابتِلاءِ لا تَنسَ هذهِ الآيَةَ الكريمَةَ، وافعَل كما فَعَلَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما عِندَما بَلَغَهُ وفاةُ ابنِهِ، وهوَ في سَفَرٍ، تَنَحَّى عن الطَّريقِ، ونَزَلَ وصَلَّى رَكعَتَينِ، ثمَّ قال: إنَّا لله وإنَّا إليه راجِعون.

ثمَّ قال: هكذا أُمِرنا.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يا عِبادَ الله، الهُمومُ سَيطَرَت على القُلوبِ بِسَبَبِ المَصائِبِ التي أُصيبَ بها الإنسانُ، هُمومٌ وأكدارٌ، وغُمومٌ وأحزانٌ لِفَقدِ عَرَضٍ من أعراضِ الدُّنيا، وهذا أمرٌ طَبيعِيٌّ في الإنسانِ، لأنَّهُ مَخلوقٌ ضَعيفٌ.

ولكن لِنَتَساءَل معَ أنفُسِنا: هل أصابَنا هذا الهَمُّ والغَمُّ والكَربُ عِندَما نَفقِدُ شيئاً من دِينِنا؟ هل إذا فاتَتنا رَكعَتا الفَجرِ اللَّتانِ هُما خَيرٌ من الدُّنيا بما فيها، يُصيبُنا هذا الهَمُّ والغَمُّ؟

هل إذا فاتَتنا تِلاوَةُ القُرآنِ العَظيمِ يُصيبُنا هذا الهَمُّ والغَمُّ؟

هل إذا فاتَتنا مَجالِسُ العِلمِ  والذِّكرِ والصَّلاةِ على النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُصيبُنا هذا الهَمُّ والغَمُّ؟

هل إذا فاتَتنا الطَّاعاتُ، وَوَقَعنا في المُخالِفاتِ لا قَدَّرَ اللهُ تعالى يُصيبُنا هذا الهَمُّ والغَمُّ؟

يا عبادَ الله، لِنَجعَل لهذا الدِّينِ حَظَّاً في قُلوبِنا، ولا نَجعَلِ الدُّنيا هي المالِكَةُ لهذهِ القُلوبِ، هذهِ الدُّنيا لن تَدومَ لنا، وإن دامَت لنا فلن نَدومَ لها.

يا عبادَ الله، تَذَكَّروا حديثَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي رواه الشيخان عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ». فاحرِصوا على العَمَلِ الباقي معَكُم.

يا عبادَ الله، تَذَكَّروا قَولَ سيِّدِنا جِبريلَ عليهِ السَّلامُ لسيِّدِنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: يا مُحَمَّد، عِشْ ما شِئتَ فإنَّكَ مَيِّتٌ، وأحبِب من أحبَبتَ فإنَّكَ مُفارِقُهُ، واعمَل ما شِئتَ فإنَّكَ مَجزِيٌّ به، يا مُحَمَّد، شَرَفُ المؤمِنِ قِيامُ اللَّيلِ، وعِزُّهُ استِغناؤُهُ عن النَّاسِ. رواه الحاكم عن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

يا صاحِبَ الهَمِّ والغَمِّ والقَلبِ الكَسيرِ، تَذَكَّر قَولَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ عَنْ عَمَّتِهِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُما.

وفي روايةٍ عن سعدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟

فَقَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ».

اللَّهُمَّ فارِجَ الهَمِّ، كاشِفَ الغَمِّ، مُجيبَ دَعوَةِ المُضطرِّينَ، فَرِّج عنَّا ما نحنُ فيه عاجِلاً غَيرَ آجِلٍ. آمين. 

أقولُ هَذا القَولَ، وأَستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 16/شوال/1434هـ، الموافق: 23/آب / 2013م

 2013-08-23
 15407
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

12-04-2024 591 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 591
09-04-2024 542 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 542
04-04-2024 676 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 676
28-03-2024 567 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 567
21-03-2024 996 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 996
14-03-2024 1803 مشاهدة
904ـ خطبة الجمعة: حافظوا على الطاعات والعبادات

فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ عَامِلٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهُ هَدَفٌ يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا. وَقِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ تَأْتِي ... المزيد

 14-03-2024
 
 1803

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3159
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412690164
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :