5ـ أخلاق وآداب: ولربك فاصبر

5ـ أخلاق وآداب: ولربك فاصبر

 

الحمد لله أهل الحمد والثناء، المنفرد برداء الكبرياء، المتوحِّد بصفات المجد والعلاء، المؤيِّد صفوة الأولياء بقوة الصبر على السرَّاء والضراء، والشكر على البلاء والنعماء، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنبياء، وعلى آله وصحبه سادة الأصفياء والأتقياء، صلاة محروسة عن الفناء. أما بعد:

فالصبر مقام من مقامات الدين، ومنزل من منازل السالكين، فمن صبر عن الشهوات فهو في درجة التائبين، ومن صبر على الطاعات فهو في درجة الشاكرين، ومن صبر على ما يصنع به مولاه فهو في درجة الصديقين.

وما أحوج العبد إلى الصبر عن المعاصي التي صارت مألوفة عند الكثير من الخلق، والتي قد تطيح بأعماله الصالحة من العبادات؟ فكم نحن بحاجة إلى الصبر عن معاصي اللسان من الغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضاً وتصريحاً، وأنواع المزاح المؤذي للقلوب، وضروب الكلمات التي يقصد بها الإزراء والاستحقار، وذكر الموتى والقدح في علومهم وسيرهم ومناصبهم؟

فإن ذلك في ظاهره غيبة وفي باطنه ثناء على النفس، وقِس على معاصي اللسان معاصي سائر الجوارح، فكم نحن بحاجة إلى الصبر عنها ، وخاصة أن ربنا جلَّ شأنه يقول: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}.

وما أحوج العبد إلى الصبر على الطاعات، لأن الصبر عليها صبر على الشدائد، فالطاعة تحتاج إلى صبر قبلها، وذلك في تحرير النية والإخلاص لله تعالى.

وتحتاج إلى صبر حالة إتيانها، كي لا يغفل العبد عن الله عز وجل أثناء عمله ولا يتكاسل عن تحقيق آدابها وسننها، ولا يفتر أثناء أدائها حتى ينتهي منها، يقول تعالى:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}. ويقول سبحانه: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}. ونحتاج إلى صبر بعد الفراغ منها، حتى لا يدخل عليه عجب ورياء، قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.

قال بعض العلماء: الاستعاذة بعد الانتهاء من تلاوة القرآن حتى لا يحبط العمل، لأن الشيطان قد يُدخل عليك العجب والرياء والغرور وينسيك قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله}. وقوله تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِالله}. كما أنها قبل التلاوة حتى لا يصرفك الشيطان عنها، فمن لم يصبر على الطاعة بعد أدائها قد يبطلها: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}.

وما أحوج العبد إلى الصبر على المصائب وأذى الآخرين، كان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما كنا نعد إيمان الرجل إيماناً إذا لم يصبر على الأذى. اهـ.

قال تعالى:{وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.

وقال تعالى:{وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله}.

وقال تعالى:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً}.

وقال جل في علاه:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}.

وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم مالاً، فقال بعض الأعراب ممن دخلوا في الإسلام حديثاً: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحمرت وجنتاه، ثم قال: (يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) متفق عليه.

بعد هذا يا إخوتي في الله أقول:

نحن بأمس الحاجة إلى الصبر بأنواعه: صبر عن المعصية، وصبر على الطاعة، وصبر على أذى الخلق.

لأن عواقب الصبر حسنة جميلة، خذوا على سبيل المثال قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِين}، وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ الله لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين}، وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا}، وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُوم}.

ويكفيك أخي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أسوتك الحسنة في ذلك، حيث خاطبه بقوله مولانا: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِر}، وبقوله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً}. وبقوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُوم}، وبقوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِالله وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُون}، وبقوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}.

وحيث وجهه مولانا إلى التأسي بمن سبقه من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، فقال له: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّاب}، وقال له: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}. وحيث وعده بقوله جل جلاله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُوم}، وحيث أعطاه دواء لنفسه الشريفة وقلبه الشريف صلى الله عليه وسلم فقال له: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوب}، وقال له: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}، وقال له: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِين * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين}.

فهل من صابر على الطاعة يا شباب هذه الأمة؟

وهل من صابر عن المعصية يا شباب هذه الأمة؟

وهل من صابر على المصائب يا شباب هذه الأمة؟

اللهم اجعلنا من الصابرين، آمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخوكم أحمد النعسان

 

 2008-02-12
 20058
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  أخلاق و آداب

08-10-2020 961 مشاهدة
59ـ آداب المريض (4)

لَقَدْ ذَكَرْنَا في الدُّرُوسِ المَاضِيَةِ أَنَّ مِنْ آدَابِ المَرِيضِ: 1ـ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ المَرَضَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. 2ـ أَنْ يَأْخُذَ الدَّوَاءَ. 3ـ أَنْ يَرْقِيَ نَفْسَهُ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى ... المزيد

 08-10-2020
 
 961
08-10-2020 618 مشاهدة
58ـ آداب المريض (3)

لَقَدْ ذَكَرْنَا في الدُّرُوسِ المَاضِيَةِ أَنَّ مِنْ آدَابِ المَرِيضِ: 1ـ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ المَرَضَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. 2ـ أَنْ يَأْخُذَ الدَّوَاءَ. 3ـ أَنْ يَرْقِيَ نَفْسَهُ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى ... المزيد

 08-10-2020
 
 618
11-03-2020 1046 مشاهدة
57ـ آداب المريض (2)

مِنَ الوَاجِبِ عَلَى العَبْدِ المُؤْمِنِ أَنْ يَرُدَّ المَظَالِمَ إلى أَهْلِهَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا وَذِمَّتُهُ بَرِيئَةٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُقُوقِ العِبَادِ، لِأَنَّ حُقُوقَ ... المزيد

 11-03-2020
 
 1046
05-03-2020 1093 مشاهدة
56ـ آداب المريض (1)

ا يُقَدِّرُ نِعْمَةَ اللهِ تعالى إِلَّا مَنْ فَقَدَهَا، فَالصِّحَّةُ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَيْنَا، لَا يُقَدِّرُهَا إِلَّا المَرْضَى، فَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ قَدْ غَفَلْنَا عَنْهَا؟ وَكَمْ مِنَ النِّعَمِ قَدْ قَصَّرْنَا بِوَاجِبِ شُكْرِهَا، ... المزيد

 05-03-2020
 
 1093
16-01-2020 1640 مشاهدة
55ـ أبشر أيها المريض

لَقَدْ جَعَلَنَا اللهُ تعالى عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَبَيَّنَ لَنَا الغَايَةَ مِنْ خَلْقِنَا، فَقَالَ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. وَمِنَ العِبَادَةِ الصَّبْرُ عَلَى الابْتِلَاءَاتِ ... المزيد

 16-01-2020
 
 1640
08-01-2020 1466 مشاهدة
54ـ آداب النظر (2)

إِسْلَامُنَا لَا يَرْضَى لَنَا أَنْ نَأْتِيَ الفَوَاحِشَ، بَلْ يَنْهَى عَنْ قُرْبَانِهَا فَضْلَاً عَنْ إِتْيَانِهَا، وَهُوَ يُحَرِّمُ الوَسَائِلَ، وَيَسُدُّ الأَبْوَابَ التي تُؤَدِّي إِلَيْهَا، لِهَذَا جَاءَتْ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، وَنُصُوصٌ ... المزيد

 08-01-2020
 
 1466

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3154
المكتبة الصوتية 4763
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412049619
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :