527ـ خطبة الجمعة: لا تَبْكِ على الجسد، ولكن ابْكِ على القلب

527ـ خطبة الجمعة: لا تَبْكِ على الجسد، ولكن ابْكِ على القلب

 

527ـ خطبة الجمعة: لا تَبْكِ على الجسد، ولكن ابْكِ على القلب

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ نِسْيَانَ أَنْفُسِنَا وَتَرْكَ الحِرْصِ على إِصْلَاحِهَا وَعَدَمَ الوُقُوفِ على سَيِّئَاتِهَا عَلَامَةٌ خَطِيرَةٌ يُخْشَى على صَاحِبِهَا مِنْ أَنْ يَقَعَ تَحْتَ قَوْلِه تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

الكَثِيرُ مِنَّا مَنْ جَعَلَ هَمَّهُ الآخَرِينَ، وَالتَّفْتِيشَ وَالتَّنْقِيبَ وَتَتَبُّعَ عُيُوبِ الآخَرِينَ، وَنَقْدَهُمْ وَالطَّعْنَ فِيهِمْ وَالتَّشْهِيرَ فِيهِمْ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيَغْرِسَ في القُلُوبِ الكَرَاهِيَةَ وَالحِقْدَ عَلَيْهِمْ، وَبِذَلِكَ يُفْسِدُ القُلُوبَ التي بِصَلَاحِهَا صَلَاحُ الجَوَارِحِ، وَبِفَسَادِهَا فَسَادُ الجَوَارِحِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: وَاللهِ مَا فَسَدَتِ الأَلْسُنُ إِلَّا بِفَسَادِ القُلُوبِ، وَمَا فَسَدَتِ الأَيْدِي إِلَّا بِفَسَادِ القُلُوبِ، وَمَا فَسَدَتِ الأَعْيُنُ إِلَّا بِفَسَادِ القُلُوبِ، وَمَا مُزِّقَتِ الأَرْحَامُ وَتَقَطَّعَتْ إِلَّا بِفَسَادِ القُلُوبِ، وَمَا سَاءَتِ العَلَاقَةُ الزَّوْجِيَّةُ بَيْنَ الزَّوْجِيْنِ إِلَّا بِفَسَادِ القُلُوبِ، وَمَا فَسَدَتْ دُنْيَا العَبْدِ وَآخِرَتُهُ إِلَّا بِفَسَادِ القُلُوبِ.

وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ حَدِيثُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» رواه الشيخان عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

لَا تَبْكِ على الجَسَدِ، وَلَكِنِ ابْكِ على القَلْبِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: قُولُوا لِمَنْ بَكَى على جَسَدِهِ إِذَا حَلَّتْ بِهِ الأَسْقَامُ وَالآلَامُ، لَا تَبْكِ على الجَسَدِ، لِأَنَّ هَذِهِ الأَسْقَامَ وَالآلَامَ سَبَبٌ لِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَلِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ؛ وَلَكِنِ ابْكِ على القَلْبِ إِذَا حَلَّتْ بِهِ الأَسْقَامُ وَالأَمْرَاضُ.

فَأَمْرَاضُ القَلْبِ فَسَادٌ لِلْإِنْسَانِ ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً، وَهِيَ مِنْ أَخْطَرِ الأَمْرَاضِ وَأَشْنَعِهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ القَلْبَ هُوَ سَيِّدُ الأَعْضَاءِ، فَبِصَلَاحِهِ صَلَاحُ جَمِيعِ الجَوَارِحِ، وَبِفَسَادِهِ فَسَادُ جَمِيعِهَا؛ هَذَا القَلْبُ الذي نَسِينَاهُ حَتَّى ضَعُفَ الوَازِعُ الإِيمَانِيُّ في القُلُوبِ، وَبِذَلِكَ انْتَشَرَتِ الفَوَاحِشُ، وَارْتُكِبَتِ الكَبَائِرُ، وَسُفِكَتِ الدِّمَاءُ، وَسُلِبَتِ الأَمْوَالُ، وَانْتَشَرَ أَكْلُ الحَرَامِ، وَقُطِّعَتِ الأَرْحَامُ، وَتَفَشَّى عُقُوقُ الوَالِدَيْنِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: أَمَا تَرَوْنَ هَؤُلَاءِ الذينَ وَقَعُوا في هَذِهِ الكَبَائِرِ يُذَكَّرُونَ بِاللهِ تعالى، وَيُذَكَّرُونَ بِاليَوْمِ الآخِرِ، وَيُذَكَّرُونَ بِسَخَطِ اللهِ تعالى، وَيُذَكَّرُونَ بِالنَّارِ، وَيُذَكَّرُونَ بِسُوءِ الخَاتِمَةِ، وَيُذَكَّرُونَ بِالقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، فَتَرَاهُمْ لَا تَتَحَرَّكُ فِيهِمُ المَشَاعِرُ، وَلَا تَقْشَعِرُّ أَبْدَانُهُمْ، وَلَا تَدْمَعُ عُيُونُهُمْ؟ مَا السِّرُّ في ذَلِكَ؟

السِّرُّ في ذَلِكَ هُوَ فَسَادُ قُلُوبِهِمْ، وَمَرَضُ قُلُوبِهِمْ، حَتَّى صَارَتْ أَقْسَى مِنَ الحَجَرِ، وَبِذَلِكَ فَسَدَتْ دُنْيَاهُمْ وَفَسَدَ دِينُهُمْ، وَغَدَوْا مُفْسِدِينَ في الأَرْضِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى.

لِنَجْعَلْ هَمَّنَا صَلَاحَ قُلُوبِنَا:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَجْعَلْ هَمَّنَا صَلَاحَ قُلُوبِنَا، لِأَنَّهُ بِصَلَاحِهِا صَلَاحُ دِينِنَا، وَصَلَاحُ دُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا، وَبِفَسَادِهِا ـ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ فَسَادُ دُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا، قَدْ تَرَانَا نُحْسِنُ الحَدِيثَ عَنْ إِسْلَامِنَا، وَنُظْهِرُ الحُرْقَةَ على هَذَا الدِّينِ، حَتَّى يُخَيَّلَ للسَّامِعِ أَنَّنَا عَمَالِقَةٌ مُجَاهِدُونَ صَادِقُونَ غَيُورُونَ على دِينِ اللهِ تعالى، وَالحَقِيقَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ.

وَتَرَوْا خُطُورَةَ هَذَا الأَمْرِ عِنْدَمَا نَتَذَكَّرُ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ» رواه الإمام البخاري عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا أَيُّهَا البَاكُونَ على الأَجْسَادِ وَالأَمْوَالِ وَالبُيُوتِ وَالمَصَانِعِ وَالمَحَلَّاتِ إِذَا حَلَّتْ فِيهَا المَصَائِبُ وَالابْتِلَاءَاتُ، لَا تَبْكُوا على ذَلِكَ، فَهِيَ لَكُمْ وَلَيْسَتْ عَلَيْكُمْ، هِيَ تَكْفِيرٌ لِسَيِّئَاتِكُمْ، وَرَفْعٌ في دَرَجَاتِكُمْ، وَلَكِنْ لِنَبْكِ جَمِيعَاً على قُلُوبِنَا التي حَلَّتْ فِيهَا الأَمْرَاضُ فَأَضْعَفَتِ الوَازِعَ الإِيمَانِيَّ فِيهَا، وَلْنَبْكِ على ذَاكَ العَبْدِ المَرِيضِ الذي وَقَعَ في الظُّلْمِ، وَعَاثَ في الأَرْضِ فَسَادَاً، وَخَالَفَ أَمْرَ اللهِ تعالى ، وَأَمْرَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: وَاللهِ لَيْسَ أَرْوَحَ وَأَسْعَدَ للإِنْسَانِ المُؤْمِنِ، وَلَا أَطَرَدَ لِهُمُومِهِ وَغُمُومِهِ، مِنْ أَنْ يَعِيشَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ مُبَرَّئٍ مِنَ الضَّغِينَةِ وَالحِقْدِ وَالحَسَدِ وَالكِبْرِ وَالغُرُورِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: مَا أَسْرَعَ مَا يَتَسَرَّبُ الإِيمَانُ مِنَ القُلُوبِ المَرِيضَةِ التي امْتَلَأَتْ ضَغِينَةً وَحِقْدَاً وَحَسَدَاً، فَإِذَا بِأَصْحَابِهَا لَا يَتَلَذَّذُونَ في أَدَاءِ عِبَادَةٍ، وَلَا في حَيَاةٍ، تَرَاهُمْ مُكَدَّرِينَ مَهْمُومِينَ مَحْزُونِينَ؛ وَلَا غَرَابَةَ في ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، حَالِقَةُ الدِّينِ لَا حَالِقَةُ الشَّعَرِ» رواه الإمام أحمد عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فَأَيْنَ مَنْ يَبْكِي على قَلْبِهِ؟

اللَّهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 15/ ربيع الثاني /1438هـ، الموافق: 13/كانون الثاني / 2017م

 2017-01-14
 7248
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 159 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 159
12-04-2024 803 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 803
09-04-2024 600 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 600
04-04-2024 708 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 708
28-03-2024 612 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 612
21-03-2024 1081 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1081

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413260813
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :