603ـ خطبة العيد: لنكن عقلاء
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا عِبَادَ اللهِ: العِيدُ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَى عِبَادِهِ، وَفَرْحَةٌ أَتَاحَهَا الله تعالى لِعِبَادِهِ لِنِسْيَانِ هُمُومِهِمْ وَآلَامِهِمْ وَمَتَاعِبِهِمْ.
فَالمُجْتَمَعُ عِنْدَمَا يَكُونُ كَالجَسَدِ الوَاحِدِ مُتَمَاسِكَاً، يَكُونُ العِيدُ عِيدَاً لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الأُمَّةِ كِبَارَاً وَصِغَارَاً، رِجَالَاً وَنِسَاءً، أَقْوِيَاءَ وَضُعَفَاءَ، أَصِحَّاءَ وَمَرْضَى، أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ المُجْتَمَعُ مُتَفَكِّكَاً مُتَدَابِرَاً مُتَحَاسِدَاً مُتَقَاتِلَاً، فَإِنَّ العِيدَ يَكُونُ لِفِئَةٍ دُونَ الأُخْرَى، يَكُونُ عِيدَاً عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَمَأْتَمَاً عِنْدَ الآخَرِينَ.
لِنَكُنْ عُقَلَاءَ:
يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَكُنْ عُقَلَاءَ في هَذَا العِيدِ؛ وَلَنْ نَكُونُ عُقَلَاءَ إِلَّا إِذَا تَنَاسَيْنَا خِلَافَاتِنَا، وِسَمِعْنَا قَوْلَ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانَاً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.
لَنْ نَكُونُ عُقَلَاءَ إِلَّا إِذَا سَمِعْنَا قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانَاً، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ» رواه الشيخان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
يَا عِبَادَ اللهِ: العَاقِلُ فِينَا يَرَى يَوْمَ العِيدِ يَوْمَ طَاعَةٍ للهِ تعالى في مُخَالَفَةِ نَفْسِهِ وَأَهْوَائِهِ وَشَهَوَاتِهِ وَشَيْطَانِهِ الذي عَادَ لِزَرْعِ العَدَاوَةِ وَالبَغْضَاءِ فِيمَا بَيْنَنَا.
العَاقِلُ مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ وَلَو قَطَعَتْهُ، وَأَغَاثَ المَلْهُوفَ وَلَو أَسَاءَ، وَبَرَّ الفَقِيرَ، وَصَنَعَ المَعْرُوفَ، وَتَفَقَّدَ مَشَاعِرَ الأُمَّةِ، وَحَاوَلَ لَمَّ شَمْلِها، وَرَأْبَ صَدْعِها، وَأَصْلَحَ ذَاتَ بَيْنِها.
العَاقِلُ في أَيَّامِ العِيدِ يَبْتَعِدُ عَنِ المَعْصِيَةِ وَإِنْ رَأَى غَيْرَهُ يَقَعُ فِيهَا، نَاسِيَاً قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيَّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ﴾.
العَاقِلُ في أَيَّامِ العِيدِ يَرَى فَرْحَتَهُ بِتَجَنُّبِ الغَفْلَةِ عَنِ اللهِ تعالى، فَلَا يَعْبَثُ بِمَا أَنْعَمَ اللهُ تعالى عَلَيْهِ، وَإِنْ رَأَى غَيْرَهُ يَعْبَثُ بِنِعْمَةِ اللهِ تعالى عَلَيْهِ، وَيَجْعَلُهَا سَبَبَاً للفَسَادِ وَالإِفْسَادِ في الأَرْضِ.
العَاقِلُ في أَيَّامِ العِيدِ يَرَى فَرْحَتَهُ بِتَوْجِيهِ نِسَائِهِ وَمَحَارِمِهِ إلى الثِّيَابِ السَّاتِرَةِ، والالْتِزَامِ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسَاً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشَاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾. وَإِنْ رَأَى غَيْرَهُ تَفَلَّتَ مِنْ قُيُودِ الحِشْمَةِ وَالوَقَارِ، وَأَلْبَسَ نِسَاءَهُ وَبَنَاتِهِ وَمَحَارِمَهُ ثِيَابَ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى صِرْنَ كَاسِيَاتٍ عَارِيَاتٍ، وَبِذَلِكَ حَرَمَهُنَّ مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ؛ إِلَّا مَنْ تَابَ.
الفَرَحُ العَامُّ وَالفَرَحُ الخَاصُّ:
يَا عِبَادَ اللهِ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ العِيدُ عِيدَاً للأُمَّةِ بِأَسْرِهَا، وَفَرَحَاً عَامَّاً لَا فَرَحَاً خَاصَّاً، لِأَنَّ الفَرَحَ العَامَّ أَعْمَقُ أَثَرَاً مِنَ الفَرَحِ الخَاصِّ؛ مَا قِيمَةُ الفَرَحِ الخَاصِّ إِذَا كَانَ الآخَرُونَ يَتَجَرَّعُونَ الغُصَصَ في أَيَّامِ العِيدِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: كُونُوا سَبَبَاً في إِدْخَالِ الفَرْحَةِ إلى كُلِّ قَلْبٍ مِنَ القُلُوبِ التي امْتَلَأَتْ حُزْنَاً وَأَسَىً، هَذَا وَلَدُهُ وَحَبِيبُهُ في الغُرْبَةِ، هَذَا وَلَدُهُ وَحَبِيبُهُ في السِّجْنِ، هَذَا وَلَدُهُ وَحَبِيبُهُ في مَكَانٍ لَا يَسْتَطِيعُ الوُصُولَ إِلَيْهِ.
وَاللهِ السَّعِيدُ مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُدْخِلَ الفَرْحَةَ إلى قُلُوبِ أَفْرَادِ الأُمَّةِ كُلِّهَا، وَذَلِكَ بِالسَّعْيِ لِإِيقَافِ نَارِ هَذِهِ الحَرْبِ التي أَكَلَتِ الأَخْضَرَ وَاليَابِسَ، وَشَتَّتَتْ شَمْلَ هَذِهِ الأُمَّةِ.
السَّعِيدُ المُوَفَّقُ مَنْ جَعَلَ مِنْ أَيَّامِ العِيدِ أَيَّامَ فَرَحٍ وَسُرُورٍ لِجَمِيعِ الأُمَّةِ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: أُنَاشِدُكُمُ اللهَ، كُونُوا سَبَبَاً لِإِدْخَالِ الفَرْحَةِ إلى قُلُوبِ الأُمَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا، أُنَاشِدُكُمُ اللهَ، الْتَزِمُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
أُنَاشِدُكُمُ اللهَ، فَرِّجُوا كُرُوبَ بَعْضِكُمْ، وَنَفِّسُوا هُمُومَ بَعْضِكُمْ، وَأَنْتُمْ تَسْتَحْضِرُونَ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ» رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
يَا رَبِّ، بِأَسْمَائِكَ الحُسْنَى، وَصِفَاتِكَ العُلَى، أَدْخِلِ الفَرْحَةَ وَالسُّرُورَ إلى قُلُوبِ أَفْرَادِ الأُمَّةِ جَمِيعِهَا بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ، لِتَعُمَّ الجَمِيعَ، فَإِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَبِالإِجَابَةِ جَدِيرٌ. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 1/ شوال /1439هـ، الموافق: 15/ حزيران / 2018م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد
هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد
هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد
شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد
لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد