الإنسان في القرآن العظيم
16ـ الإحسان صيانة للإنسان
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الأَصْلُ في الإِنْسَانِ بِشَكْلٍ عَامٍّ أَنَّهُ مُكَرَّمٌ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا صَارَ مُكَرَّمَاً إِلَّا لِكَوْنِهِ مَحْبُوبَاً، وَمِنْ تَمَامِ الحُبِّ وَالتَّكْرِيمِ مِنَ اللهِ تعالى للإِنْسَانِ أَنْ كَلَّفَهُ، لِأَنَّ تَكْلِيفَ اللهِ تعالى للعَبْدِ شَرَفٌ مَا بَعْدَهُ شَرَفٌ.
وَالإِنْسَانُ السَّوِيُّ العَاقِلُ هُوَ الذي يُحَافِظُ عَلَى حُبِّ اللهِ تعالى لَهُ، وَلَا يُعَرِّضُ هَذِهِ النِّعْمَةَ للزَّوَالِ، وَذَلِكَ بِارْتِكَابِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، بَلْ عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إلى الوَسَائِلِ التي تَزِيدُهُ حُبَّاً عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ حُبَّ اللهِ تعالى لَعِبْدٍ يَعْنِي حِفْظَهُ وَتَأْيِيدَهُ في جَمِيعِ العَوَالِمِ.
﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى نِعْمَةِ مَحَبَّةِ اللهِ تعالى لَهُ، عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ، لِأَنَّ اللهَ تعالى قَالَ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ﴾. وَيَكْفِي المُحْسِنَ شَرَفَاً وَفَضْلَاً أَنَّ اللهَ تعالى مَعَهُ مَعِيَّةً خَاصَّةً، لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا مَنْ ذَاقَهَا وَعَرَفَهَا بِسِرِّ إِحْسَانِهِ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِحْسَانُ الذي يَجْعَلُ العَبْدَ مَحْبُوبَاً عِنْدَ اللهِ تعالى هُوَ الإِتْيَانُ بِالمَطْلُوبِ مِنْهُ شَرْعَاً عَلَى وَجْهٍ حَسَنٍ، وَقَدْ أَوْضَحَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الإِحْسَانَ بِقَوْلِهِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَاعْبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى، حَتَّى تَتَحَقَّقَ بِالخَشْيَةِ وَالإِنَابَةِ للهِ تعالى.
الإِحْسَانُ صِيَانَةٌ للإِنْسَانِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ الإِحْسَانَ صِيَانَةٌ للإِنْسَانِ وَحِصْنٌ حَصِينٌ لَهُ، وَلَنْ يَتَحَقَّقَ هَذَا إِلَّا بِتَحْقِيقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ» رواه الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
لِنَأْخُذْ مَثَلَاً لِهَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى في حَقِّ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ﴾. حَيْثُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالفَحْشَاءَ، لِأَنَّهُ كَانَ مُخْلِصَاً وَمُخْلَصَاً وَصَادِقَاً وَمُحْسِنَاً.
سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُحْسِنٌ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الذي يَقْرَأُ سُورَةَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَدَبُّرٍ فَإِنَّهُ يَجِدُ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُحْسِنَاً في سَائِرِ أَحْوَالِهِ، لَقَدْ كَانَ مُحْسِنَاً لِنَفْسِهِ، وَمُحْسِنَاً إلى امْرَأَةِ العَزِيزِ، وَمُحْسِنَاً إلى عَزِيزِ مِصْرَ، فَجَمَعَ الإِحْسَانَ مِنْ أَطْرَافِهِ.
أولاً: لَقَدْ أَحْسَنَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِنَفْسِهِ عِنْدَمَا اعْتَصَمَ بِاللهِ تعالى، وَطَلَبَ مِنْهُ الحِفْظَ وَالوِقَايَةَ، فَلَمْ يَقَعْ في المَعْصِيَةِ، فَصَحِيفَتُهُ بَيْضَاءَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا ذَاقَ مَرَارَةَ المَعْصِيَةِ بِفَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
عَلَى العَكْسِ مِنَّا تَمَامَاً، الوَاحِدُ مِنَّا يَقَعُ في المَعْصِيَةِ ثُمَّ يَتُوبُ، وَإِنْ شَاءَ اللهُ تعالى تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وَلَكِنَّ مَرَارَةَ المَعْصِيَةِ تَبْقَى، وَهُوَ في حَالَةِ وَجَلٍ وَخَوْفٍ مِنَ اللهِ تعالى ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾.
ثانياً: لَقَدْ أَحْسَنَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلى امْرَأَةِ العَزِيزِ عِنْدمَا لَمْ يَسْتَجِبْ لَهَا، لِأَنَّهُ كَانَ يُفَكِّرُ في مَآلَاتِ الأُمُورِ، أَمَّا امْرَأَةُ العَزِيزِ فَمَا كَانَتْ تُفَكِّرُ في النَّتَائِجِ الفَاضِحَةِ.
فَلْيَكُنِ الوَاحِدُ مِنَّا عَلَى حَذَرٍ مِنَ الوُقُوعِ في المُخَالَفَاتِ، وَذَلِكَ بِالنَّظَرِ إلى مَآلَاتِ الأُمُورِ، فَلَا يَبِعْ آخِرَتَهُ بِشَهْوَةِ سَاعَةٍ في الدُّنْيَا.
ثالثاً: لَقَدْ أَحْسَنَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلى عَزِيزِ مِصْرَ، حَيْثُ صَانَ لَهُ عِرْضَهُ وَحَفِظَهُ، وَهَذَا شَأْنُ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ، المُحْسِنُ هُوَ الذي يُحَافِظُ عَلَى أَعْرَاضِ الآخَرِينَ، وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَلَا يَخُونُ مَنْ خَانَهُ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَدُومَ مَحَبَّةُ اللهِ تعالى لَكَ، فَكُنْ مُحْسِنَاً فَاعْبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِذَا دَخَلْتَ مَقَامَ الإِحْسَانِ، كُنْ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ اللهَ تعالى يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ المَعْصِيَةِ وَيُنَجِّيكَ مِنْهَا.
المُحْسِنُ كَرِيمُ القَدْرِ عِنْدَ اللهِ تعالى، لِذَا تَرَى عِنَايَةَ اللهِ تعالى فِيهِ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ».
وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تعالى في المُحْسِنِ المُخْلِصِ المُخْلَصِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامِ: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ﴾.
فَإِذَا أَرَدْتَ الحِفْظَ فَاحْفَظِ اللهَ وَكُنْ مُحْسِنَاً، وَبِذَلِكَ يَعْظُمُ حُبُّ اللهِ تعالى لَكَ، وَإِذَا عَظُمَ حُبُّ اللهِ تعالى لَكَ حَفِظَكَ حَتَّى تَدْخُلَ جَنَّتَهُ طَاهِرَ الظَّاهِرِ وَالبَاطِنِ.
رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَا يُضَيِّعُ أَوْلِيَاءَهُ، وَالمُحْسِنُونَ أَوْلِيَاءُهُ، وَمَنْ تَوَلَّاهُ اللهُ تعالى كَفَاهُ قَوْلُهُ تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾.
وَكَفَاهُ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ المُحْسِنِينَ، وَتَوَلَّنَا فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الأربعاء: 21/ محرم /1439هـ، الموافق: 10/ تشرين الأول / 2017م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَحْرِفُ طَرِيقَ العَبْدِ عَنْ نَهْجِ الاسْتِقَامَةِ عَلَى مَنْهَجِ اللهِ تَبَارَكَ وتعالى هُوَ مَا رُكِّبَ في الإِنْسَانِ مِنْ شَهَوَاتٍ، حَيْتُ تَكُونُ سَبَبَاً في انْحِرَافِهِ إِذَا اسْتَوْلَتِ الشَّهَوَاتُ عَلَيْهِ. ... المزيد
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ إِنَّ فَلَاحَ العَبْدِ وَنَجَاحَهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ هُوَ مَطْلَبُ العَامِلِينَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَرْبِيَتِهَا وَتَطْهِيرِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالى لَنَا ... المزيد
نَحْنُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا مُسَافِرُونَ مِنْهَا، كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ ... المزيد
إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدَاً مِنْ عِبَادِهِ أَلْهَمَهُ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الفَوَاحِشِ وَالمُنْكَرَاتِ، وَحَبَّبَ إلى قَلْبِهِ الإِيمَانَ وَالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَأَلْهَمَهُ الإِكْثَارَ مِنْ دُعَاءِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ ... المزيد
مِنْ أَعْظَمِ الخُسْرَانِ الذي يَقَعُ فِيهِ العَبْدُ إِصْرَارُهُ عَلَى الذَّنْبِ، وَمُكَابَرَتُهُ، وَعِنَادُهُ، وَتَبْرِيرُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ المَوْتُ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ عَلَى تِلْكَ الحَالَةِ. ... المزيد
لَو أَنَّ الأَمْرَ كَانَ يَنْتَهِي بِالمَوْتِ لَكَانَ هَيِّنَاً وَسَهْلَاً، وَلَكِنْ مَعَ شِدَّتِهِ وَهَوْلِهِ هُوَ أَهْوَنُ مِمَّا بَعْدَ المَوْتِ، فَالقَبْرُ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ، أَو رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، وَلَو كَانَ ... المزيد