4ـ مشكلات وحلول: وصول ثواب تلاوة القرآن للميت

4ـ مشكلات وحلول: وصول ثواب تلاوة القرآن للميت

كثر الجدل حول موضوع وصول تلاوة القرآن إلى الميت في الآونة الأخيرة، وكأنَّ المسلمين لم تبق عندهم مشكلة إلا هذا الموضوع الخلافي الفرعي الذي اختلف فيه العلماء، حتى أصبحنا نرى فئة من المسلمين تُفسِّق وتُبدِّع وتُضلِّل من يقرأ القرآن ويهدي ثوابها لأموات المسلمين، زاعمين أن هذا الأمر بدعة، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة الكرام رضوان الله عنهم.

مع العلم بأن السلف الصالح اختلفوا حول هذا الموضوع واجتهدوا، فكان المصيب منهم لـه أجران إن شاء الله تعالى، والمخطئ لـه أجر واحد إن شاء الله، أما هؤلاء الذين فسَّقوا وبدَّعوا وضلَّلوا ماذا لهم عند الله عز وجل؟ على كل حال غفر الله لنا ولهم، وجمع ربنا كلمة المسلمين على الحق.

أما الجواب على السؤال: فقد ورد في الموسوعة الفقهية الكويتية في الجزء الثالث والثلاثين ص/60/ما نصه:

ذهب الحنفية والحنابلة إلى جواز قراءة القرآن للميت وإهداء ثوابها لـه، قال ابن عابدين نقلاً عن البدائع: ولا فرق بين أن يكون المجعول لـه ميتاً أو حياً، والظاهر أنه لا فرق بين أن ينوي به عند الفعل للغير أو يفعل لنفسه، ثم بعد ذلك يجعل ثوابه لغيره.

وقال الإمام أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير، للنصوص الواردة فيه، ولأن الناس يجتمعون في كل مِصْرٍ، ويقرؤون ويهدون لموتاهم من غير نكير فكان إجماعاً. قاله البهوتي من الحنابلة.

وذهب المتقدمون من المالكية إلى كراهة قراءة القرآن للميت، وعدم وصول ثوابها إليه، لكن المتأخرين على أنه لا بأس بقراءة القرآن والذكر وجعل الثواب للميت ويحصل له الأجر.

وقال ابن هلال: الذي أفتى به ابن رشد، وذهب إليه غير واحد من أئمتنا الأندلسيين، أن الميت ينتفع بقراءة القرآن الكريم ويصل إليه نفعه، ويحصل لـه أجره إذا وهب القارئ ثوابه لـه، وبه جرى عمل المسلمين شرقاً وغرباً، ووقفوا على ذلك أوقافاً، واستمر عليه الأمر منذ أزمنة سالفة.

والمشهور من مذهب الشافعي أنه لا يصل ثواب القراءة إلى الميت، وذهب بعض الشافعية إلى وصول ثواب القراءة للميت، قال سليمان الجمل: ثواب القراءة للقارئ، ويحصل مثله أيضاً للميت، لكن إن كان بحضرته أو بنيته، أو يجعل ثوابها لـه بعد فراغها على المعتمد في ذلك. اهـ. الموسوعة الفقهية الكويتية: 33/60.

هذا ما قاله الفقهاء رضي الله عنهم، وجاء في سنن أبي داود رحمه الله تعالى: (اقرؤوا يس على موتاكم). وإن قيل: إنه حديث ضعيف، نقول: يعمل به في فضائل الأعمال.

وأورد الزبيدي في اتحاف السادة عن أنس مرفوعاً: (من دخل المقابر فقرأ يس خفف الله عنهم، وكان لـه بعدد من دفن فيها حسنات). وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أوصى إذا دُفن أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها.

أما الاحتجاح بقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39].

اختلف المفسرون في تفسيرها، روي عن ابن عباس رضي عنهما أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ ألْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21]. فيحصل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه. وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة. وقال الربيع بن أنس: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39]. يعني الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره.

روي عن عائشة رضي الله عنها أنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن وأعتقت عنه. وجاء في صحيح البخاري أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أمي توفيت، أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: (نعم).

ويقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره عند هذه الآية الكريمة: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره، وقد تقدم كثير منها لمن تأملها، كما في صدر كتاب مسلم عن عبد الله بن المبارك.

ثم يقول: ويحتمل أن يكون قوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} خاصاً في السيئة، بدليل ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها لـه حسنة، فإن عملها كتبتها لـه عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة). اهـ.

أليس هذا من باب الفضل؟ فالعدل أن يكون من كسبه، والفضل أن يكون من كسبه وكسب غيره. ولقد روى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين، أحدهما عن نفسه، والآخر عن أمته، ممن أقر بوحدانية الله تعالى، وشهد لـه صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، كيف يكون هذا الفعل من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المبلغ قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} أليست الآية من باب العدل، وفعله صلى الله عليه وسلم من باب الفضل؟

وأما استشهادهم بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث). رواه مسلم. بأن الميت لا ينتفع من عمل غيره ففَهْمٌ غير صحيح، نعم انقطع عمله هو، ولكن عمل الناس لـه هل ينقطع؟ لو قلنا ينقطع عمل الناس لـه هذا يعني: أنه لم يعد ينتفع بعمل أحد، إذاً لَمَا جازت الصدقة عنه، وهي ثابتة في السنة المطهرة، ولَمَا جاز الحج عنه، وهو ثابت في السنة، ولَمَا جاز الدعاء لـه وهو ثابت في السنة، ولَمَا صحت صلاة الجنازة عليه لأنها ليست من عمله، والثابت أنه ينتفع بصلاة الجنازة، وماذا في صلاة الجنازة؟ قراءة الفاتحة، والصلوات الإبراهيمية، والدعاء.

وبناء على ما تقدم:

نقول: إن أفعال الخير ومن جملتها تلاوة القرآن الكريم ينتفع منها الميت بإذن الله تعالى، ونحن لا ننكر على من لا يقرأ، ولا ننكر على من أوصى بعدم القراءة لـه بعد موته، ولكن ننكر على من يُفسِّق ويُضلِّل ويُبدِّع أئمة المسلمين وسواد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ننكر على من ملأ قلبه حقداً وحسداً على من خالفه في رأي، لأن اللائق في هؤلاء أن يتحلوا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}. [الحشر: 10].

وأخيراً أقول: لا حرج على من خالف هذا الرأي وأخذ برأي آخر وقال: أنا أرى أنه لا تصل القراءة للميت، وأنه لا يجوز هذا الفعل، ولكن أقول: تذكر قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وتدبر هذه الآية جيداً وافهم معناها. هذا، والله تعالى أعلم. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. آمين آمين آمين.

 

 2007-05-22
 2644
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 

التعليقات [ 1 ]

سمير أيوب
 2007-06-13

يقول سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (ما سرني لو أن أصحاب ـ سيدنا ـ محمد صلى الله عليه و سلم لم يختلفوا) أخي الحبيب اختلافهم رحمة فلا نجعل من هذا الاختلاف نقمة ونفسق و نكفر من خالف رأينا. والله يقول: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) و تأمل كلمة سبلنا و هي جمع, فالسبل كثيرة و مؤداها واحد, و الكل من رسول الله ملتمس ... عمك سسسسسسمير

 

مواضيع اخرى ضمن  مشكلات و حلول

04-07-2013 22750 مشاهدة
56ـ مشكلات وحلول: الترك ليس حجة في التحريم

فالفَتوى فَرضٌ على الكِفايَةِ، ولم تَكُنِ الفَتوى فَرضَ عَينٍ، لأنَّها تَقتَضي تَحصِيلَ عُلومٍ جَمَّةٍ، فَلَو كُلِّفَها كُلُّ وَاحِدٍ لأَفضَى إلى تَعطيلِ أَعمالِ النَّاسِ ومَصالِحِهِم، لانصِرافِهِم إلى تَحصِيلِ عُلومٍ بِخُصوصِهَا. ... المزيد

 04-07-2013
 
 22750
04-07-2013 24255 مشاهدة
55ـ مشكلات وحلول: هل تسقط صلاة الجمعة عمن أكل الثوم أو البصل؟

هل تسقط صلاة الجمعة عمن أكل الثوم أو البصل؟ أم تجب عليه ويكون آثماً بإيذائه للمسلمين بالرائحة الكريهة؟ ... المزيد

 04-07-2013
 
 24255
08-03-2012 67589 مشاهدة
54ـ مشكلات وحلول: اطلاع كل من الزوجين على هاتف الآخر

سؤال: هل هناك حرج شرعي من الاطلاع على هاتف الزوج الخاص به، حيث جعل له رقماً سرياً، وبإمكاني اختراق هذا الرقم؟ ... المزيد

 08-03-2012
 
 67589
08-03-2012 65450 مشاهدة
53ـ مشكلات وحلول: اشترطت على زوجها أن لا يتزوَّج عليها

سؤال: هل يجوز للمرأة أن تشترط على زوجها أثناء العقد أن لا يتزوَّج عليها؟ ... المزيد

 08-03-2012
 
 65450
21-01-2012 60424 مشاهدة
52ـ مشكلات وحلول: حكم عمل المرأة سكرتيرة

سؤال: هل يجوز للمرأة المسلمة أن تعمل كسكرتيرة بسبب حاجتها المادية؟ ... المزيد

 21-01-2012
 
 60424
21-01-2012 57575 مشاهدة
51ـ مشكلات وحلول: الحديث مع المرأة الأجنبية

سؤال: ما حكم الشرع في حديث الرجل مع المرأة الأجنبية من غير ضرورة؟ ... المزيد

 21-01-2012
 
 57575

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412847544
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :