19ـ من وصايا الصالحين: وصية سيدنا أويس القرني لِـهَرِم بن حَيَّان: هي وصية للمتحابين في الله

19ـ من وصايا الصالحين: وصية سيدنا أويس القرني لِـهَرِم بن حَيَّان: هي وصية للمتحابين في الله

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد جاء في المستدرك على الصحيحين للحاكم عن هَرِم بن حَيَّان العبدي قال: (قدمت الكوفة فلم يكن لي بها همٌّ إلا أويس القرني أطلبه وأسأل عنه، حتى سقطت عليه جالساً وحده على شاطئ الفرات نصف النهار، يتوضأ ويغسل ثوبه، فعرفته بالنَّعت، فإذا رجل لحم، آدم شديد الأدمة، أشعر، محلوق الرأس ـ يعني ليس له جمة [الجمة: ما ترامى من شعر الرأس على المنكبين] ـ كثُّ اللحية [الكثُّ: الغزير والكثيف]، عليه إزار من صوف [الإزار: ثوب يحيط بالنصف الأسفل من البدن]، ورداء من صوف، بغير حذاء، كبير الوجه، مَهيب المنظر جداً، فسلَّمت عليه، فردَّ عليَّ ونظر إليَّ، فقال: حيَّاك الله من رجل؟ فمددت يدي إليه لأصافحه، فأبى أن يصافحني، وقال: وأنت فحياك الله، فقلت: رحمك الله يا أويس وغفر لك، كيف أنت رحمك الله؟ ثم خنقتني العبرة من حبي إياه، ورقَّتي له لما رأيت من حاله ما رأيت، حتى بكيت وبكى، ثم قال: وأنت فرحمك الله يا هَرِم بن حَيَّان كيف أنت يا أخي؟ مَنْ دَلَّك عليَّ؟ قلت: الله، قال: (لا إِلَهَ إِلا الله سُبْحانَ رَبِّنا إِن كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعولاً).

فعجبت حين عرفني وسمَّاني والله ما كنت رأيته قط، ولا رآني، ثم قلت: من أين عرفتني، وعرفت اسمي، واسم أبي؟ فوالله ما كنت رأيتك قط قبل هذا اليوم، قال: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِير}، عرفت روحي روحك حيث كلَّمت نفسي نفسك، إن الأرواح لها أنفس كأنفس الأحياء، وإن المؤمنين يعرف بعضهم بعضاً، ويتحدثون بروح الله، وإن لم يلتقوا، وإن لم يتكلموا ويتعارفوا، وإن نأت بهم الديار. وتفرَّقت بهم المنازل.

قال: قلت، حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث أحفظه عنك، قال: إني لم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن لي معه صحبة، ولقد رأيت رجالاً قد رأوه، وقد بلغني من حديثه كما بلغكم، ولست أحب أن أفتح هذا الباب على نفسي أن أكون محدثاً أو قاضياً ومفتياً، في النفس شغل يا هَرِم بن حَيَّان، قال: فقلت: يا أخي، اقرأ عليَّ آيات من كتاب الله أسمعهنَّ منك، فإني أحبك في الله حباً شديداً، وادعُ بدعوات، وأوصِ بوصيةٍ أحفظها عنك، قال: فأخذ بيدي على شاطئ الفرات وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم،  ، قال: فشهق شهقة، ثم بكى مكانه، ثم قال: قال ربي تعالى ذكره، وأحقُّ القولِ قولُه، وأصدقُ الحديثِ حديثُه، وأحسنُ الكلامِ كلامُه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِين * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِين * يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلاَ هُمْ يُنصَرُون * إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيم}.

ثم شهق شهقةً، ثم سكت فنظرت إليه، وأنا أحسبه قد غشي عليه، ثم قال: يا هَرِم بن حَيَّان مات أبوك، وأوشك أن تموت، ومات أبو حَيَّان، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، ومات آدم، وماتت حواء يا بن حَيَّان، ومات نوحٌ عليه الصلاة والسلام، وإبراهيمُ خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام ، يا بن حَيَّان، ومات موسى نجيُّ الرحمن عليه الصلاة والسلام ، يا بن حَيَّان، ومات داود خليفة الرحمن عليه الصلاة والسلام، يا بن حَيَّان، ومات محمد رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم، ومات أبو بكر خليفة المسلمين رضي الله عنه، يا بن حَيَّان، ومات أخي وصفيي وصديقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه [صفِيُّه: الذي يُصَافِيه الودَّ ويُخْلصُه له]، ثم قال: واعمراه رحم الله عمر، وعمر يومئذ حي، وذلك في آخر خلافته، قال: فقلت له: رحمك الله، إنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعدُ حي، قال: بلى، إن تفهم فقد علمت ما قلت أنا، وأنت في الموتى، وكان قد كان، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا بدعوات خِفاف.

ثم قال: هذه وصيتي إليك يا هَرِم بن حَيَّان، كتاب الله، واللقاء بالصالحين من المسلمين، والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد نعيت على نفسي، ونعيتك فعليك بذكر الموت، فلا يفارقنَّ قلبك طرفة عين ما بقيت، وأنذر قومك إذا رجعت إليهم، وانصح أهل ملتك جميعاً، واكدح لنفسك، وإياك إياك أن تفارق الجماعة فتفارق دينك وأنت لا تعلم، فتدخل النار يوم القيامة.

قال: ثم قال: اللهم إنَّ هذا يزعم أنه يحبُّني فيك، وزارني من أجلك، اللهم عرِّفني وجهه في الجنة، وأدخله عليَّ زائراً في دارك دار السلام، واحفظه ما دام في الدنيا حيث ما كان، وضُمَّ عليه ضيعته [ضَيْعَة الرجل: ما منه معاشه، كالصنعة والزراعة والتجارة وغير ذلك]، ورضِّه من الدنيا باليسير، وما أعطيته من الدنيا فيسِّره له، واجعله لما تعطيه من نعمتك من الشاكرين، واجزه خير الجزاء، استودعتك الله يا هَرِم بن حَيَّان، والسلام عليك ورحمة الله.

ثم قال لي: لا أراك بعد اليوم رحمك الله، فإني أكره الشهرة، والوحدة أحبُّ إلي، لأني شديد الغمِّ، كثير الهمِّ، ما دمت مع هؤلاء الناس حياً في الدنيا، ولا تسأل عني، ولا تطلبني، واعلم أنك مني على بال، وإن لم أرك، ولم ترني، فاذكرني وادع لي، فإني سأذكرك وأدعو لك إن شاء الله تعالى، انطلق هَا هُنا حتى أخذ هَا هُنا، قال: فحرصت على أن أسير معه ساعة فأبى عليَّ، ففارقته يبكي وأبكي، قال: فجعلت أنظر في قفاه حتى دخل في بعض السكك، فكم طلبته بعد ذلك، وسألت عنه، فما وجدت أحداً يخبرني عنه بشيء، فرحمه الله، وغفر له، وما أَتَت عليَّ جُمعةٌ إلا وأنا أراه في منامي مرة أو مرتين أو كما قال).

فيا أيها المتحابون في الله كونوا على هذا المنوال:

التناصح فيما بين بعضكم البعض.

2ـ الدعاء في ظهر الغيب لبعضكم البعض.

اللهم لا تحرمنا من صحبة الأبرار الذين ينصحون ولا يمدحون، ويدعون لإخوانهم بدعوات صادقة نابعة من قلوبهم. آمين آمين آمين.

أخوكم أحمد النعسان

يرجوكم دعوة صالحة

**     **     **

 

الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 

التعليقات [ 1 ]

عمر
 2010-08-06

نسأل الله بجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمن عليك بحظ وافر من الوراثة المحمدية, وأن يسلك بك مسالك أهل القرب والمودة, وأن يديمك ذخراً لهذا الدين.

 

مواضيع اخرى ضمن  من وصايا الصالحين

05-03-2020 4782 مشاهدة
47ـ وصية أبي الدرداء (4)

لَقَدْ كَانَ الصَّحْبُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عَلَى حَذَرٍ شَدِيدٍ مِنَ الصَّغَائِرِ فَضْلاً عَنَ الكَبَائِرِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ ... المزيد

 05-03-2020
 
 4782
27-02-2020 3776 مشاهدة
46ـ وصية أبي الدرداء (3)

مَا أَجْمَلَ الصَّاحِبَ الصَّالِحَ، وَالأَخَ النَّاصِحَ، مَا أَجْمَلَ مَنْ يُذَكِّرُكَ بِاللهِ تعالى، وَيُذَكِّرُكَ بِالمَهَمَّةِ التي خُلِقْتَ مِنْ أَجْلِهَا، مَا أَجْمَلَ مَنْ يُذَكِّرُكَ بِحَقِيقَةِ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا. مَا أَكْرَمَ ... المزيد

 27-02-2020
 
 3776
21-02-2020 2962 مشاهدة
45ـ وصية أبي الدرداء (2)

إِنَّ مِمَّا يُرَقِّقُ الطِّبَاعَ؛ وَيَعِظُ الْقُلُوبَ ويُشَنِّفُ الأَسْمَاعَ؛ وَيَدْعُو أَصْحَابَهَا إِلَى الاتِّبَاعِ، مَا جَاءَ فِي وَصَايَا السَّلَفِ؛ التِي هِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَوَاعِظِ التُّحَفِ، وَحَسْبُنَا مِنْ وَصَايَا السَّلَفِ ... المزيد

 21-02-2020
 
 2962
06-02-2020 4742 مشاهدة
44ـ وصية أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

إِنَّ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَمِنْ مِيزَاتِهَا التي خَصَّهَا اللهُ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ... المزيد

 06-02-2020
 
 4742
30-01-2020 5081 مشاهدة
43ـ وصية أبي الدرداء لأهل دمشق

طُولُ الأَمَلِ دَاءٌ عُضَالٌ، وَمَرَضٌ مُزْمِنٌ، وَمَتَى تَمَكَّنَ مِنَ القَلْبِ فَسَدَ مِزَاجَهُ، وَصَعُبَ عِلَاجُهُ، وَلَمْ يُفَارِقْهُ دَاءٌ، وَلَا نَجَعَ فِيهِ دَوَاءٌ، بَلْ أَعْيَا الأَطِبَّاءَ، وَيَئِسَ مِنْ بُرْئِهِ الحُكَمَاءُ وَالعُلَمَاءُ، ... المزيد

 30-01-2020
 
 5081
25-10-2014 17037 مشاهدة
42ـ من وصايا الصالحين: وصية سيدنا عمر لأبي موسى الأشعري رَضِيَ اللهُ عَنهُما

فَإِنَّ لِلنَّاسِ نَفْرَةً عَنْ سُلْطَانِهِمْ، فَأَعُوذُ باللهِ أَنْ يُدْرِكَنِي وَإِيَّاكَ عَمْيَاءُ مَجْهُولَةٌ، وَضَغَائِنُ مَحْمُولَةٌ، فَأَقِمِ الْحُدُودَ وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. ... المزيد

 25-10-2014
 
 17037

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3153
المكتبة الصوتية 4762
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411960813
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :