468ـ خطبة الجمعة: الصبر والتقوى طريق العز والتمكين

468ـ خطبة الجمعة: الصبر والتقوى طريق العز والتمكين

.

468ـ خطبة الجمعة: الصبر والتقوى طريق العز والتمكين

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عباد الله، عَلَيْنَا بالصَّبْرِ إِذَا أَظْلَمَتِ الدُّنْيَا في وُجُوهِنَا، فَبِهِ يَفْتَحُ اللهُ لَنَا مَا لَمْ يَكُنْ في حُسْبَانِنَا، عَلَيْنَا بالصَّبْرِ إِذَا ظَلَمَ القَرِيبُ، وَجَارَ البَعِيدُ، عَلَيْنَا بالصَّبْرِ من أَجْلِ الثَّبَاتِ على الحَقِّ وعلى الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، وَلَوْ كَانَ مُجَرَّدَاً من كُلِّ قُوَّةٍ إلا قُوَّةِ الجَبَّارِ جَلَّ جَلالُهُ، عَلَيْنَا بالصَّبْرِ وَلَوْ دُعِمَ البَاطِلُ بالمَالِ، وَتَكَاثَرَ حَوْلَهُ أَشْبَاهُ الرِّجَالِ، وَتَطَاوَلَتْ لَهُ الأَعْنَاقُ، حِرْصَاً على مَغْنَمٍ عَاجِلٍ، أَوْ خَوْفَاً من بَأْسٍ نَازِلٍ.

يا عباد الله: رَبُّنَا عزَّ وجلَّ مُطَّلِعٌ على قُلُوبِنَا وَنَوَايَانَا، فَإِذَا عَلِمَ صِدْقَ نَوَايَانَا، وَكُنَّا من الصَّابِرِينَ، ومن المُتَعَلِّقِينَ باللهِ عزَّ وجلَّ، والرَّاجِينَ المَعُونَةَ مِنْهُ، جَاءَ الفَرَجُ من اللهِ تعالى، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ على لِسَانِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ﴾.

الصَّبْرُ والتَّقْوَى طَرِيقُ العِزِّ والتَّمْكِينِ:

يا عباد الله: الصَّبْرُ والتَّقْوَى طَرِيقُ العِزِّ والتَّمْكِينِ، وَهُمَا عُدَّةُ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ عِنْدَ نُزُولِ البَلاءِ، وَزَادُ المُؤْمِنِ حِينَ وُقُوعِ الابْتِلاءِ، فَهُمَا جَوَادَانِ لا يَكْبُوَانِ، وَجُنْدِيَّانِ لا يَنْهَزِمَانِ، وَحِصْنَانِ لا يُهْدَمَانِ ولا يُثْلَمَانِ، لا إِيمَانَ بِدُونِهِمَا، وَإِنْ كَانَ فَهُوَ إِيمَانٌ ضَعِيفٌ صَاحِبُهُ يَعْبُدُ اللهَ على حَرْفٍ، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ .

يا عباد الله: خَيْرُ عَيْشٍ أَدْرَكَهُ السُّعَدَاءُ بِصَبْرِهِم و تَقْوَاهُم، وَإِذَا كَانَ المُسْلِمُ مُحْتَاجَاً إِلَيْهِمَا بِشَكْلٍ عَامٍّ، فَحَاجَتُهُ إِلَيْهِمَا أَشَدُّ إِذَا مَرِجَتِ العُهُودُ، وَضَعُفَتِ الذِّمَمُ، وَاخْتَلَّتِ المَقَايِيسُ والقِيَمُ، وَسُفِكَتِ الدِّمَاءُ من أَجْلِ الدُّنْيَا، حَاجَةُ المُؤْمِنِ إلى الصَّبْرِ والتَّقْوَى تَكُونُ أَشَدَّ إِذَا كَانَ في زَمَنٍ خُوِّنَ فِيهِ الأَمِينُ، وَسُوِّدَ الخَؤُونُ، وَأُلْبِسَ الحَقُّ بالبَاطِلِ.

قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَحْسَنُ القَصَصِ:

يا عباد الله: لَقَد ذَكَرَ اللهُ تعالى قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَسَمَّاهَا أَحْسَنَ القَصَصِ، قَالَ تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ * إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبَاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾.

لَقَد سَمَّاهَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، لِأَنَّ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَّمَ البَشَرِيَّةَ جَمْعَاءَ بِأَنَّ مَن اتَّقَى اللهَ تعالى وَصَبَرَ فَإِنَّ اللهَ تعالى لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ، وهذا مَا قَالَهُ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِإِخْوَتِهِ عِنْدَمَا الْتَقَى بِهِم بَعْدَ أَنْ صَارَ عَزِيزَ مِصْرَ: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ﴾.

يا عباد الله: لِنَنْظُرْ إلى تَقْوَاهُ وَصَبْرِهِ:

أولاً: تَقْوَى وَصَبْرٌ عَجِيبٌ صَبَرَهُ عِنْدَمَا أَخَذَهُ إِخْوَتُهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَجَعَلُوهُ في غَيَابَةِ الجُبِّ، وَبِذَلِكَ فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبَوَيْهِ وَأَخِيهِ الشَّقِيقِ، فَلَمْ يَتَفَوَّهْ بِكَلِمَةٍ.

ثانياً: تَقْوَى وَصَبْرٌ عَجِيبٌ صَبَرَهُ عِنْدَمَا وَقَعَ في الأَسْرِ، وَصَارَ في بَيْتِ عَزِيزِ مِـصْرَ، وَرَاوَدَتْهُ امْرَأَةُ العَزِيزِ والنِّسَاءُ، وَخُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، كَمَا قَالَ تعالى في قِصَّتِهِ: ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَاً مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾. فَبِتَقْوَاهُ وَصَبْرِهِ ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾.

ثالثاً: تَقْوَى وَصَبْرٌ عَجِيبٌ صَبَرَهُ عِنْدَمَا أُدْخِلَ السِّجْنَ، فَكَانَ دَاعِيَاً إلى اللهِ تعالى، قَالَ تعالى عَنْهُ: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْـحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾. تَقْوَى وَصَبْرٌ عَجِيبٌ عِنْدَمَا أُتِيحَتْ لَهُ الفُرْصَةُ للخُرُوجِ، فَرَفَضَ وَقَالَ: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾.

رابعاً: تَقْوَى وَصَبْرٌ عَجِيبٌ صَبَرَهُ عِنْدَمَا الْتَقَى مَعَ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ، فَقَالَ تعالى مُخْبِرَاً عَنْهُ: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدَاً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقَّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يا عباد الله، لماذا لا نَكُونُ من أَهْلِ التَّقْوَى ومن أَهْلِ الصَّبْرِ، وَنَحْنُ على مَوْعِدٍ من اللهِ تعالى بالعَاقِبَةِ الحُسْنَى؟ أَلَمْ يَقُلْ مَوْلانَا عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئَاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾؟ أَيُّ كَيْدٍ؟ إِنَّهُ الكَيْدُ الذي تَزُولُ مِنْهُ الجِبَالُ ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾. أَلَمْ يَقُلْ مَوْلانَا عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ﴾؟

وَلَقَد كَانَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ على ثِقَةٍ بِوَعْدِ اللهِ تعالى، فَاتَّقَى اللهَ تعالى وَصَبَرَ، وَلَمْ يَتَزَعْزَعْ أَيَّامَ الفِتَنِ والمِحَنِ، بَلْ ثَبَتَ ثُبُوتَ الرَّاسِيَاتِ، حَتَّى أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بالتَّمْكِينِ، وَصَارَ مَضْرِبَ مَثَلٍ لِمَنْ أَرَادَ التَّقْوَى والصَّبْرَ.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا التَّقْوَى وَحَقَّهَا، وَاجْعَلْنَا من الصَّابِرِينَ على طَاعَتِكَ، وَعَن مَعْصِيَتِكَ، وعلى مَا قَدَّرْتَهُ لَنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **      **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 29/ صفر /1437هـ، الموافق: 11/كانون الأول / 2015م

 2015-12-11
 2603
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 170 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 170
12-04-2024 837 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 837
09-04-2024 601 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 601
04-04-2024 708 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 708
28-03-2024 617 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 617
21-03-2024 1086 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1086

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413462801
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :