12ـ دروس رمضانية لعام 1436: غياب الصراحة موجب للبغضاء

12ـ دروس رمضانية لعام 1436: غياب الصراحة موجب للبغضاء

 

 12ـ دروس رمضانية لعام 1436: غياب الصراحة موجب للبغضاء

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فيا أيُّها الإخوة الكرام:

لَقَد أَكْرَمَنَا اللهُ تعالى بهذا الدِّينِ الحَنِيفِ العَظِيمِ القَوِيِّ الوَاضِحِ المَتِينِ، الذي لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ، هذا الدِّينُ الذي هَدَانَا اللهُ إِلَيْهِ لَهُ سِمَاتٌ وَمَيِّزَاتٌ لَمْ تَكُنْ في تَشْرِيعٍ من التَّشْرِيعَاتِ السَّابِقَةِ، فَضْلاً عن التَّشْرِيعَاتِ الوَضْعِيَّةِ.

من سِمَاتِ هذا الدِّينِ الصَّرَاحَةُ والوُضُوحُ، لأنَّ الصَّرَاحَةَ فِيهَا الرَّاحَةُ والطُّمَأْنِينَةُ، لأنَّ الصَّرَاحَةَ تُعَلِّمُ على الصِّدْقَ والأَمَانَةَ، وَتُبْعِدُ الإِنْسَانَ عن الكَذِبِ والنِّفَاقِ والمُدَاهَنَةِ.

رَبَّى الإِسْلامُ أَتْبَاعَهُ على الصَّرَاحَةِ؛ لأنَّ الإسلامَ حَقٌّ وَوَاضِحٌ وَقَوِيُّ الحُجَّةِ، لذلكَ مَا أُكرِهَ أَحَدٌ على الدُّخُولِ فِيهِ، قَالَ تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين﴾. ومن وُضُوحِهِ وقُوَّتِهِ قَالَ تعالى مُعَلِّماً نَبِيَّنَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِمُخَالِفِيهِ: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدَىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِين﴾.

الإِسْلَامُ رَبَّى أَتْبَاعَهُ على اسْتِوَاءِ الظَّاهِرِ والبَاطِنِ، وعلى اسْتِقَامَةِ اللِّسَانِ مع الجَنانِ، فالمُسْلِمُ لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ يُنَاقِضُ البَاطِنَ، بَاطِنُهُ وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ، بل سَرِيرَتُهُ أَصْلَحُ وَأَفْضَلُ من عَلانِيَتِهِ.

غِيَابُ الصَّرَاحَةِ مُوجِبٌ للبَغْضَاءِ:

أيها الإخوة الكرام: إذا حَلَّتِ الصَّرَاحَةُ أُسْرَةً من الأُسَرِ، ومُجْتَمَعَاً من المُجْتَمَعَاتِ، رَأَيتَ أَفرَادَ الأُسرَةِ والمُجْتَمَعِ مُتَمَاسِكِينَ مُتَحَابِّينَ مُتَعَاوِنِينَ، أمَّا إذا غَابَتِ  الصَّرَاحَةُ في أَحَادِيثِ النَّاسِ مَعَ بَعْضِهِمُ البَعْضِ، إِنْ كَانَ على مُسْتَوَى الأُسْرَةِ، أو المُؤَسَّسَةِ، أو الأُمَّةِ، فلا تَتَعَجَّبْ عِنْدَمَا تَرَى البَغْضَاءَ قد انْتَشَرَتْ أَوْصَالُهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَكَثُرَ التَّنَافُرُ وضَرَبَ بِجُذُورِهِ في العَلَاقَاتِ الإِنْسَانِيَّةِ.

فالإسلامُ رَبَّى أَتبَاعَهُ على الصَّرَاحَةِ، رَبَّى الأُسْرَةَ على ذلكَ، وَرَبَّى الأُمَّةَ على جَميِعِ مُسْتَوَيَاتِهَا على ذلكَ، لأنَّ كَمَّ الأَفْوَاهِ ومَنْعَ الكَلامِ لَيْسَ من عَادَةِ الأَقْوِيَاءِ في حُجَّتِهِم، بل هوَ من شَأْنِ الضُّعَفَاءِ أَصْحَابِ القُوَّةِ العَاتِيَةِ بِدُونِ حُجَّةٍ ولا بُرْهَانٍ، بل هوَ شَأْنُ الفَرَاعِنَةِ الذين يَعِيشُونَ على حِسَابِ النَّاسِ بِقُوَّتِهِم البَاغِيَةِ، لذلكََ تَرَى مُنْطَلَقَ الفَرَاعِنَةِ من خِلالِ قَولِ قَائِلِهِم: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَاد﴾. لَيْسَ عِنْدَهُ الاسْتِعْدَادُ لِسَمَاعِ كَلامٍ غَيرِ كَلامِهِ، لأنَّهُ خَائِفٌ على سُلْطَانِهِ وجَاهِهِ ودُنْيَاهُ.

أَصْحَابُ الهِمَمِ العَالِيَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ أَصْحَابَ النُّفُوسِ الكَبِيرَةِ، وَأَصْحَابَ الهِمَمِ العَالِيَةِ، والشَّخْصِيَّاتِ القَوِيَّةِ هُم المُؤهَّلُونَ لِتَحَمُّلِ صَرَاحَةِ مُحَدِّثِيهِم مَعَهُم، وَيُقَدِّرُونَ ذلكَ جَيِّدَاً، فلا يَغْضَبُونَ، ولا تَتَغَيَّرُ وُجُوهُهُم فَيَحْمِلُهُم ذلكَ على مُعَادَاتِهِم، أو خِصَامِهِم، أو مُقَاطَعَتِهِم وتَحَدِّيهِم، أو مُقَابَلَةِ صَرَاحَتِهِم بالتَّهَكُّمِ عَلَيْهِم والإِسَاءَةِ لَهُم، فَضْلاً عن الضَّرْبِ والقَتْلِ والتَّشْرِيدِ وسَفْكِ الدِّمَاءِ.

أَصْحَابُ النُّفُوسِ الكَبِيرَةِ، والهِمَمِ العَالِيَةِ يَجْعَلُونَ من سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قُدْوَةً لَهُم، لأَنَّ اللهَ تعالى قَالَ لَهُم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرَاً﴾. لأَنَّ حَبِيبَهُم وَنَبِيَّهُم صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ لَهُم: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعَاً لما جِئْتُ بِهِ» أخرجه الحسن بن سفيان وغيره وصححه النووي في الأربعين.

أَصْحَابَ الهِمَمِ العَالِيَةِ لا يَأْبَهُونَ أَيْنَ مَوْقِعُ نُفُوسِهِم، ولا يَنْظُرُونَ إلى مَكَانَتِهِمُ الاجْتِمَاعِيَّةِ، لأَنَّهُم يَعْلَمُونَ أَنَّ مَوَاقِعَهُم ومَكَانَتَهُم هيَ عَمَلٌ وَظِيفِيٌّ، إِنْ أَحْسَنُوا وأَتْقَنُوا عَمَلَهُم كَانُوا مَحْبُوبِينَ عِنْدَ اللهِ تعالى، وذلكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُحِبُّ إذا عَمِلَ أَحَدُكُم عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ» أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب.

الأَصْلُ عِنْدَ هؤلاءِ أَنْ يَكُونُوا على سُنَّةِ نَبِيِّهِم صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في تَقَبُّلِ الصَّرَاحَةِ من الآخَرِينَ.

النَّمُوذَجُ الرَّائِعُ لِتَقَبُّلِ الصَّرَاحَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: لَقَد جَعَلَ اللُه تعالى لَنَا نَمُوذَجَاً رَائِعَاً لِتَقَبُّلِ الصَّرَاحَةِ من الآخَرِينَ، لَقَد جَعَلَ لَنَا نَمُوذَجَاً لَيْسَ لَهُ مَثِيلٌ قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ، لَقَد جَعَلَ اللُه تعالى لَنَا نَمُوذَجَاً هوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ عَلَيهِ السَّلامُ، بل هوَ سَيِّدُ الأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ، بل هوَ سَيِّدُ أُوْلِي العَزْمِ من الرُّسُلِ، بل هوَ سَيِّدُ المَخْلُوقَاتِ العُلْوِيَّةِ والسُّفْلِيَّةِ على الإِطْلاقِ، هذا النَّمُوذَجُ هوَ سَيِّدُنَا وحَبِيبُنَا وَقُرَّةُ أَعْيُنِنَا سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

هذا النَّمُوذَجُ ضَرَبَ أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ لِتَقَبُّلِ الصَّرَاحَةِ من جَمِيعِ الخَلْقِ، مَعَ سُمُوِّ قَدْرِهِ وعُلُوِّ شَأْنِهِ، مَعَ أَنَّ اللهَ تعالى قَالَ فِيهِ: ﴿وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِير﴾.

هذهِ الشَّخْصِيَّةُ العَظِيمَةُ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهَا وعِظَمِ هَيْبَتِهَا ما كَانَتْ لِتَمْنَعَ أَصْحَابَهَا من قَوْلِ الصَّرَاحَةِ في الأُمُورِ كُلِّهَا صَغِيرِهَا وكَبِيرِهَا، كَانَت هذهِ الشَّخْصِيَّةُ تَقْبَلُ صَرَاحَةَ الآخَرِينَ، ولا تَكُمُّ أَفْوَاهَهُم، مَعَ أَنَّ اللهَ تعالى هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِير.

فَيَا مَن يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ نَاجِحَاً في بَيْتِهِ إِنْ كَانَ رَبَّ أُسْرَةٍ، ويَا مَن يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ نَاجِحَاً في مُؤَسَّسَةٍ إِنْ كَانَ صَاحِبَ مُؤَسَّسَةٍ، ويَا مَن يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ نَاجِحَاً في مُلْكِهِ وَرِئَاسَتِهِ إِنْ كَانَ صَاحِبَ مُلْكٍ وَرِئَاسَةٍ، عَلَيْكَ أَنْ تَقْبَلَ صَرَاحَةَ الآخَرِينَ، وانْظُرْ إلى حَبِيبِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إِنْ كَانَ حَبِيبَاً إلى قَلْبِكَ.

أولاً: بَلْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللهِ:

أيُّها الإخوة الكرام: أخرج الإمام البخاري عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَفِي الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا: قَصُرَتِ الصَّلاةُ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَدْعُوهُ ذَا اليَدَيْنِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ؟

فَقَالَ: «لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ».

قَالُوا: بَلْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «صَدَقَ ذُو اليَدَيْنِ» فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، ثُمَّ وَضَعَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ.

أيُّها الإخوة الكرام: اُنْظُرُوا إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في هذا المَوْقِفِ، لَمْ يَغْضَبْ، وما زَجَرَ، بل أَيَّدَ ما قَالَهُ الصَّحَابَةُ، رَغْمَ أَنَّهُ قَالَ لَهُم: «لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ» فَمَا دَامَتْ الصَّلاةُ لَمْ تَقْصُرْ، قَالُوا: «بَلْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللهِ». مَا أَجْمَلَهَا من صَرَاحَةٍ مع كَمَالِ الأَدَبِ.

ثانياً: لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي:

أيُّها الإخوة الكرام: لَقَد أَصْبَحْنَا في هذا العَصْرِ لا نَعْرِفُ الصَّرَاحَةَ ـ إلا من رَحِمَ اللهُ تعالى ـ لَقَد فَقَدَ النَّاسُ الطَّرِيقَ إلى الصَّرَاحَةِ، وسَلَكُوا طَرِيقَاً آخَرَ، طَرِيقَ الكَذِبِ والنِّفَاقِ، يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَا لَيْسَ في قُلُوبِهِم، وإذا كَانَ المُجْتَمَعُ هكذا فَأَيُّ خَيْرٍ يُرْتَجَى؟ أَيُّ خَيْرٍ يُرْتَجَى من مُجْتَمَعٍ مُتَفَكِّكٍ لا يَسْتَطِيعُ فِيهِ الوَاحِدُ أَنْ يَقُولَ ما بِدَاخِلِهِ صَرَاحَةً؟

أيُّها الإخوة الكرام، تَعَلَّمُوا الصَّرَاحَةَ وَعَلِّمُوهَا للآخَرِينَ بِحَالِكُم قَبْلَ قَالِكُم، أَيُّهَا الآبَاءُ عَلِّمُوا الصَّرَاحَةَ لأَبْنَائِكُم! أَيُّهَا الأَزْوَاجُ عَلِّمُوا الصَّرَاحَةَ لِنِسَائِكُم! أَيُّهَا المُدَرَاءُ عَلِّمُوا الصَّرَاحَةَ لِمُوَظَّفِيكُم! أَيُّهَا الحُكَّامُ عَلِّمُوا الصَّرَاحَةَ لِمَحْكُومِيكُم! واسْمَعُوا:

أخرج الإمام البخاري عن عَبْدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي!

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ».

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ واللهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي!

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «الآنَ يَا عُمَرُ».

ما هذهِ العَظَمَةُ في الصَّرَاحَةِ؟

أولاً: صَرَاحَةُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي» صِدْقٌ وصَرَاحَةٌ، لا كَذِبٌ ونِفَاقٌ، اليَوْمَ هُنَاكَ من يُبَالِغُ في المُجَامَلاتِ، وخَاصَّةً مع الشَّخْصِيَّاتِ الكَبِيرَةِ أَصْحَابِ المَرَاكِزِ العُلْيَا، وتَزْدَادُ المُجَامَلَةُ وُضُوحَاً وظُهُورَاً إذا كَانَتْ لا تَتَجَاوَزُ حَيِّزَ الكَلِمَاتِ والأَقْوَالِ، وتَقِلُّ كُلَّمَا دَخَلَتْ دَائِرَةَ الأَدَاءِ العَمَلِيِّ.

النِّفَاقُ ما كَانَ يَعْرِفُ طَرِيقَاً إلى قُلُوبِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم.

ثانياً: صَرَاحَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، هي صَرَاحَةُ المَتْبُوعِ للتَّابِعِ، وإلا كَيْفَ يَتَعَلَّمُ التَّابِعُ الصَّرَاحَةَ مَعَ المَتْبُوعِ، سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: «لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ».

رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مَا كَانَ حَرِيصَاً على مَحَبَّةِ النَّاسِ لَهُ انْطِلَاقَاً من نَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ، بل كَانَ حَرِيصَاً على ذلكَ امْتِثَالاً لأَمْرِ اللهِ تعالى، لأَنَّ الله تعالى قَالَ: «قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ واللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين﴾.

يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَحَبَّ إِلَيْنَا من أَنْفُسِنَا، لأَنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾. فإذا كَانَ أَوْلَى بِنَا من أَنْفُسِنَا فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّهُ أَكْثَرَ من أَنْفُسِنَا، لذلكَ قَالَ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ هذا الكَلامَ: «حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ».

أيُّها الإخوة الكرام: هَلْ تَجِدُونَ هذهِ الصَّرَاحَةَ بَيْنَ التَّابِعِ والمَتْبُوعِ على كُلِّ المُسْتَوَيَاتِ في مُجْتَمَعِنَا؟ إذا كُنَّا فَقَدْنَا هذا، فَاعْلَمُوا بِأَنَّ السَّبَبَ في ذلكَ هوَ أَنَّنَا مَا وَضَعْنَا يَدَنَا بِيَدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

هذا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِيَدِهِ حِسَّاً وَمَعْنَىً حَتَّى أَدْخَلَهُ الجَنَّةَ، حَيْثُ كَانَ من المُبَشَّرِينَ بالجَنَّةِ وهوَ في حَيَاتِهِ الدُّنيَا، فَهَلْ يَنْظُرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا إلى نَفْسِهِ لِيَنْظُرَ من هوَ الذي آخِذٌ بِيَدِهِ؟ وعلى خُطَى مَن يَسِيرُ؟

سَلْ نَفْسَكَ يَا أَخِي: الذي آخِذٌ بِيَدِكَ هَلْ يُوصِلُكَ إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ؟ هَلْ يُوصِلُكَ إلى أَنْ تَقُولَ عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْتِ: وَا طَرَبَاهُ غَدَاً أَلْقَى الأَحِبَّةَ مُحَمَّدَاً وصَحْبَهُ؟ أم لا قَدَّرَ اللهُ يُوصِلُكَ إلى أَنْ تَقُولَ عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْتِ: ﴿رَبِّ ارْجِعُون * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾. وفي الآخِرَةِ تَقُولُ: ﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانَاً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً﴾.

ثالثاً: تَرْجِعُ إلى قَوْمِكَ وتَدَعَنَا:

أيها الإخوة الكرام: لقد رَبَّى الإسلامُ أَتبَاعَهُ على الصَّرَاحَةِ والوُضُوحِ والاسْتِيثَاقِ، أخرج الإمام أحمد في مسنده، في بَيْعَةِ العَقَبَةِ قَالَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ».

قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ وَرِثْنَاهَا كَابِرَاً عَنْ كَابِرٍ.

قَالَ: فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ ـ وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ ـ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ حِبَالاً، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا ـ يَعْنِي الْعُهُودَ ـ فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللهُ، أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا.

قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «بَلْ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ».

صَرَاحَةٌ من التَّابِعِ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ حِبَالاً، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا ـ يَعْنِي الْعُهُودَ ـ فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللهُ، أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا.

وصَرَاحَةٌ من المَتْبُوعِ: «بَلْ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ».

خَاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: بالصَّرَاحَةِ كَانَ المُجْتَمَعُ كالجَسَدِ الوَاحِدِ إذا اشْتَكَى مِنهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى، وَبِغَيْرِ الصَّرَاحَةِ كَانَ المُجْتَمَعُ مُتَفَكِّكاً مُتَمَزِّقاً، تَظْهَرُ فِيهِ عَلامَاتُ النِّفَاقِ، فهل رَجَعْنَا إلى دِينِ اللهِ تعالى على كُلِّ المُسْتَوَيَاتِ وَكُنَّا صَرِيحِينَ، وَنُحِبُّ الصَّرَاحَةَ من الآخَرِينَ؟

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 21/ رمضان /1436هـ، الموافق: 8/ تموز/ 2015م

 2015-07-08
 1049
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  دروس رمضانية

14-03-2024 331 مشاهدة
1-مواساة لأصحاب الأعذار في رمضان

يَا مَنْ أَقْعَدَكُمُ المَرَضُ عَنِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَقُلُوبُكُمْ تَتَلَهَّفُ للصِّيَامِ وَالقِيَامِ، أَبْشِرُوا وَلَا تَحْزَنُوا، فَأَنْتُمْ في نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ تَتَطَلَّعُ للصِّيَامِ ... المزيد

 14-03-2024
 
 331
26-05-2022 696 مشاهدة
28ـ غزوة بدر وحسرة المشركين

فِي خِتَامِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى العَظِيمَةِ المُبَارَكَةِ، التي جَسَّدَتْ لَنَا بِوُضُوحٍ تَامٍّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * ... المزيد

 26-05-2022
 
 696
26-05-2022 519 مشاهدة
27ـ غزوة بدر درس عملي لكل ظالم ومظلوم

غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى فِيهَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ ظَالِمٍ، وَلِكُلِّ مَظْلُومٍ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِ الغَزْوَةِ يَقُولُ لِكُلِّ مَظْلُومٍ: اصْبِرْ وَصَابِرْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَحِيدَ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، فَالعَاقِبَةُ لَكَ، ... المزيد

 26-05-2022
 
 519
29-04-2022 388 مشاهدة
26ـ غزوة بدر وتواضع القائد

مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى نَتَعَلَّمُ خُلُقَ التَّوَاضُعِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 388
29-04-2022 823 مشاهدة
25ـ هنيئًا لكم أيها الصائمون القائمون

يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ... المزيد

 29-04-2022
 
 823
29-04-2022 948 مشاهدة
24ـ أقوام عاشوا عيش السعداء

الزَّمَنُ يَمضِي ولا يَعُودُ، ولَيسَ هُناكَ شَيءٌ أسرَعُ من الزَّمَنِ، فهوَ لا يَتَوَقَّفُ، تَمُرُّ اللَّيالِي والأيَّامُ والشُّهُورُ والسَّنَوَاتُ على الإنسَانِ ويَنتَهِي وُجُودُهُ فِيها كَأَنَّهُ لم يَلبَثْ فِيها إلا سَاعَةً من الزَّمَنِ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 948

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413658888
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :