أهلا بكم في موقع الشيخ أحمد شريف النعسان

2470 - هل صحيح أنه لا يوجد نسخ في شرعنا؟

03-11-2009 16191 مشاهدة
 السؤال :
سمعنا من بعض الأفاضل من العلماء بأنه لا يوجد نسخ في شريعتنا، لأن هذا يناقض قول الله عز وجل: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيد}، فما صحَّة هذا الكلام؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 2470
 2009-11-03

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فالنسخ هو رفعُ حكمٍ شرعيٍّ بدليلٍ شرعيٍّ متأخِّر، وقد ذهب جمهور علماء المسلمين إلى جوازه ووقوعه، مستدلين على ذلك بالعقل والنقل.

أما الدليل العقلي: فالنسخ فعل من أفعال الله تعالى، وهو تبارك وتعالى فعال لما يريد، لا يُسأل عما يفعل، وهم يُسألون، فقد يأمر بالفعل في وقت وينهى عنه في وقت آخر، فقد أمر الله تعالى بالصيام في نهار رمضان، ونهى عن الصيام في يوم العيد.

أما الدليل النقلي: فقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}، فهذه الآية تدلُّ على جواز النسخ على الله تعالى شرعاً.

فالله تعالى يشرع لعباده ما يشاء، وينسخ من الأحكام ما يشاء، لا لأنه بدا له مصلحة لعبده بعد خفاء، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، فالله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، من الأزل إلى الأبد، وهو تبارك وتعالى الذي يشرع الحكم الناسخ لمصلحة يعلمها أزلاً، ولم تخف عليه أصلاً، ولكن وقتها يجيء عند انتهاء الحكم الأول لانتهاء المصلحة المقصودة منه.

أمثلة على وقوع النسخ:

أولاً: أجمعت الأمة سلفاً وخلَفاً على أن شريعتنا بفضل الله عز وجل نسخت جميع الشرائع السابقة التي أنزلها الله تعالى غير العقيدة والأخلاق.

ثانياً: أجمعت الأمة على نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس باستقبال الكعبة المشرَّفة، ونسخ وجوب الوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث، ونسخ صوم يوم عاشوراء بصيام شهر رمضان، ونسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، ونسخ وجوب تربص المرأة المتوفى عنها زوجها حولاً كاملاً بعدِّة الوفاة الدائمة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، والأمثلة على ذلك كثيرة.

أنواع النسخ:

أولاً: نسخ القرآن بالقرآن: ذهب العلماء إلى جواز نسخ القرآن بالقرآن، مثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ}، نسخت هذه الآية بقوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا}.

ثانياً: نسخ السنة بالسنة: اتفق الأصوليون على جواز نسخ السنة بالسنة، مثال ذلك: نسخ تحريم زيارة القبور ثم إباحتها بقوله صلى الله عليه وسلم: (كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا) رواه مسلم، ونسخ تحريم ادخار لحوم الأضاحي بقوله صلى الله عليه وسلم: (كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلاثٍ لِيَتَّسِعَ ذُو الطَّوْلِ عَلَى مَنْ لا طَوْلَ لَهُ، فَكُلُوا مَا بَدَا لَكُمْ وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا) رواه مسلم والترمذي واللفظ له.

ثالثاً: نسخ السنة بالقرآن: ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز نسخ السنة بالقرآن، مثال ذلك قوله تعالى: {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} نسخ ما كان صالح به النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً في صلح الحديبية على أن يردَّ لهم النساء.

رابعاً: نسخ القرآن بالسنة: ذهب جمهور الفقهاء إلى جوازه، ومثال ذلك: نسخ آية الوصية للوالدين والأقربين بقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ونسخ جلد الزاني المحصن الثابت بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} بالرجم الثابت بالسنة.

والنسخ له وجوه وأحوال من جملتها:

أولاً: نسخ التلاوة والحكم، مثاله ما ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ) رواه مسلم. قال الإمام البيهقي: فالعشر مما نُسِخ رَسْمُهُ وحُكمه، والخمس مما نُسِخ رَسْمُه وبقي حكمه، بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم حين جمعوا القرآن لم يثبتوها رسماً، وحكمها باقٍ عندهم.

ومعنى قول السيدة عائشة رضي الله عنها: (فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ) قال ابن السمعاني: بمعنى أنه يُتلى حُكمها دون لفظها. وقال البيهقي: المعنى: أنه يتلوه من لم يبلغه نسخ تلاوته.

ثانياً: نسخ الحكم دون التلاوة، وأمثلته كثيرة ذكرناها في فقرة: أمثلة على وقوع النسخ، فلا حاجة لإعادة ذكرها.

ثالثاً: نسخ التلاوة دون الحكم، مثال ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أَحْصَنَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الاعْتِرَافُ) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لابن ماجه: (لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: مَا أَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، أَلا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ إِذَا أُحْصِنَ الرَّجُلُ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوْ اعْتِرَافٌ، وَقَدْ قَرَأْتُهَا: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ). وفي رواية عند البيهقي: (إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل: لا نجد حدين في كتاب الله عز وجل، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، فوالذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، فإنا قد قرأناها).

فقد ثبت في الصحيح أن هذا كان قرآناً يُتلى، ثم نُسِخ لفظه وبقي حكمه.

الحكمة من النسخ:

الثابت في الشرع أنه جاء لرعاي المصالح العامة للناس، وأن للمشرِّع حكمة بالغة في إيجاد الخلق وتكليفهم واختبارهم لمعرفة مدى امتثالهم لأوامره وهو العليم بهم.

فالنسخ أو الانتقال من حكم إلى بديل مماثل أو أشدَّ أو أخف مظهرٌ أو صورة من صور التدرُّج في الإصلاح، لذلك قال الفقهاء: للنسخ فائدتان:

الأولى: رعاية الأصلح للمكلَّفين تفضُّلاً من الله تعالى لا وجوباً عليه.

الثانية: امتحان المكلَّفين بامتثالهم الأوامر والنواهي، وتكرار الاختبار خصوصاً في أمرهم بما كانوا منهيِّين عنه، ونهيهم عما كانوا مأمورين به، فإن الانقياد في حالة التغيير أدلُّ على الإيمان والطاعة، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ}.

وبناء على ذلك:

فالنسخ ثابت عند جمهور الفقهاء، وأما قول الأستاذ الفاضل الذي قال: النسخ يناقض قول الله عز وجل: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيد} فهو في غير موضعه، لأن قوله تعالى: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} لا علاقة له بالنسخ، لأن النسخ إبطال لا باطل، فالنسخ حقٌّ وصدق، والباطل ضدُّ الحق. ومعنى الآية: أن هذا القرآن لم يتقدَّمه من كتب الله ما يبطله، ولا يأتيه من بعده ما يبطله. هذا، والله تعالى أعلم.

 

المجيب : الشيخ أحمد شريف النعسان
16191 مشاهدة