448ـ خطبة الجمعة: العفو لا يقتضي الذلة

448ـ خطبة الجمعة: العفو لا يقتضي الذلة

 

 448ـ خطبة الجمعة: العفو لا يقتضي الذلة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عِبَادَ اللهِ، إِنَّ العَفْوَ شِعَارُ الصَّالِحِينَ الأَتْقِيَاءِ ذَوِي الحِلْمِ والأَنَاةِ والنَّفْسِ الرَّضِيَّةِ، لأَنَّ التَّنَازُلَ عن الحَقِّ نَوْعٌ من أَنْوَاعِ إِيثَارِ الآجِلِ على العَاجِلِ، وبَسْطٌ لِخُلُقٍ نَقِيٍّ تَقِيٍّ يَنْفُذُ إلى شِغَافِ قُلُوبِ الآخَرِينَ، فلا يَمْلِكُونَ أَمَامَهُ إلا إِبْدَاءَ نَظْرَةِ إِجْلالٍ وإِكْبَارٍ لِمَنْ هذهِ صِفَتُهُ وهذا دَيْدَنُهُ، وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، إِنَّ العَفْوَ عن الآخَرِينَ لَيْسَ بالأَمْرِ الهَيِّنِ، إذْ لَهُ في النَّفْسِ ثِقَلٌ لا يَتِمُّ التَّغَلُّبُ عَلَيْهِ إلا بِمُصَارَعَةِ حُبِّ الانْتِصَارِ والانْتِقَامِ للنَّفْسِ، ولا يَكُونُ ذلكَ إلا للأَقْوِيَاءِ الذينَ اسْتَعْصَوْا على حُظُوظِ النَّفْسِ ورَغَبَاتِهَا، وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.

ثَنَاءُ اللهِ تعالى على العَافِينَ:

يَا عِبَادَ اللهِ، العَفْوُ عن الآخَرِينَ لَهُ فَضْلٌ عَظِيمٌ وأَجْرٌ كَبِيرٌ، وقَد أَثْنَى اللهُ تعالى على عِبَادِهِ المُتَّقِينَ، وَوَصَفَهُم بِكَظْمِ الغَيْظِ، والعَفْوِ عن النَّاسِ، والإِحْسَانِ إلى الخَلْقِ، وَوَعَدَهُم جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ، قَالَ تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.

روى الإمام أحمد عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظَاً وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ».

وَرُوِيَ عَن أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ اللهَ تعالى يَأْمُرُ مُنَادِيَاً يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُنَادِي: مَن كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ شَيْءٌ فَلْيَقُمْ، فَيَقُومُ أَهْلُ العَفْوِ، فَيُكَافِئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانَ من عَفْوِهِم عن النَّاسِ.

العَفْوُ لا يَقْتَضِي الذِّلَّةَ:

يَا عِبَادَ اللهِ، كَثِيرٌ من النَّاسِ يَظُنُّونَ أَنَّ العَفْوَ والصَّفْحَ والتَّجَاوُزَ والتَّسَامُحَ يَقْتَضِي الضَّعْفَ والذِّلَّةَ، وهذا غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ هُوَ قِمَّةٌ في الشَّجَاعَةِ والامْتِنَانِ وغَلَبَةِ الهَوَى، لا سِيَّمَا إذا كَانَ العَفْوُ عِنْدَ المَقْدِرَةِ على الانْتِصَارِ.

يَقُولُ سَيِّدُنَا الحَسَنُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: لَوْ أَنَّ رَجُلَاً شَتَمَنِي فِي أُذُنِي هَذِهِ، وَاعْتَذَرَ إلَيَّ فِي أُذُنِي الْأُخْرَى، لَقَبِلْتُ عُذْرَهُ.

ويَقُولُ سَيِّدُنَا جَعْفَرُ الصَّادِقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: لَأَنْ أَنْدَمَ عَلَى الْعَفْوِ عِشْرِينَ مَرَّةً، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَنْدَمَ عَلَى الْعُقُوبَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً.

ويَقُولُ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إِذَا أَتَاكَ رَجُلٌ يَشْكُو إِلَيْكَ رَجُلَاً فَقُلْ: يَا أَخِي، اُعْفُ عَنْهُ؛ فَإِنَّ العَفْوَ أَقْرَبُ للتَّقْوَى.

فَإِنْ قَالَ: لا يَحْتَمِلُ قَلْبِيَ العَفْوَ، وَلَكِنْ أَنْتَصِرُ كَمَا أَمَرَنِي اللهُ عزَّ وجلَّ.

فَقُلْ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تُحْسِنُ أَنْ تَنْتَصِرَ، وإلا فَارْجِعْ إلى بَابِ العَفْوِ؛ فَإِنَّهُ بَابٌ وَاسِعٌ، فَإِنَّهُ من عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ على اللهِ، وَصَاحِبُ العَفْوِ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهِ باللَّيْلِ، وَصَاحِبُ الانْتِصَارِ يُقَلِّبُ الأُمُورَ؛ لأَنَّ الفُتُوَّةَ هِيَ العَفْوُ عن الإِخْوَانِ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، ونَحْنُ نَعِيشُ هذهِ الأَزْمَةَ القَاسِيَةَ التي مَزَّقَتِ الأُمَّةَ، وشَتَّتَتْ شَمْلَهَا، وفَرَّقَتْ جَمْعَهَا، وأَضَاعَتْ قُوَّتَهَا وشَبَابَهَا ورِجَالَهَا، وأَوْرَثَتِ التَّحَاقُدَ والتَّحَاسُدَ والتَّبَاغُضَ وقَسْوَةَ القَلْبِ، جَدِيرٌ بِنَا أَنْ نَرْجِعَ إلى الأَخْلاقِ المَرْضِيَّةِ عِنْدَ اللهِ تعالى، وهذا الأَمْرُ لا يُطِيقُهُ إلا مَن آمَنَ باللهِ تعالى واليَوْمِ الآخِرِ.

يَا عِبَادَ اللهِ، بَعْضُ النَّاسِ اليَوْمَ قَد بَلَغَ من القَسْوَةِ مَا لا يُمْكِنُ مَعَهَا أَنْ يَعْفُوَ عَن أَحَدٍ أو يَتَجَاوَزَ عَنْهُ، لا يَرَى في حَيَاتِهِ إلا الانْتِقَامَ والتَّشَفِّي، لَيْسَ إلَّا، مِثَالُهُ مِثَالُ سَمَاءٍ إذا تَغَيَّمَ لَمْ يُرْجَ صَحْوُهُ، وإذا قَدِرَ لا يُنْتَظَرُ عَفْوُهُ، يُغْضِبُهُ الجُرْمُ الخَفِيُّ، ولا يُرْضِيهِ العُذْرُ الجَلِيُّ، يَسْمَعُ بِإِحْدَى أُذُنَيْهِ القَوْلَ فَيَشْتَطُّ غَضَبَاً ويَضْطَرِبُ، ويَحْجُبُ أُذُنَهُ الأُخْرَى عن قَبُولِ الاعْتِذَارِ.

يَا عِبَادَ اللهِ، يَا مَن تَعِيشُونَ هذهِ الأَزْمَةَ القَاسِيَةَ، تَرَاحَمُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ، واعْفُوا واصْفَحُوا عَن بَعْضِكُمُ البَعْضِ، ارْجِعُوا إلى سُنَّةِ نَبِيِّكُم صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

يَا أَيُّهَا المُسِيءُ، أَسْرِعْ للاعْتِذَارِ وطَلَبِ السَّمَاحِ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَكَ مَلَكُ المَوْتِ، وعِنْدَهَا تَنْدَمُ ولا يَنْفَعُكَ النَّدَمُ.

ويَا أَيُّهَا المُسَاءُ إِلَيْهِ، اِقْبَلِ عُذْرَ من اعْتَذَرَ إِلَيْكَ، ولا تَحْرِمْ نَفْسَكَ نِعْمَةَ الوُرُودِ على حَوْضِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، روى الحاكم عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «وَمَن أَتَاهُ أَخُوهُ مُتَنَصِّلَاً ـ مُعْتَذِرَاً ـ فَلْيَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ، مُحِقَّاً كَانَ أَوْ مُبْطِلَاً، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَرِدْ عَلَيَّ الحَوْضَ».

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 15/شوال/1435هـ، الموافق: 31/ تموز/ 2015م

 2015-07-31
 8126
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

21-03-2024 590 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 590
14-03-2024 930 مشاهدة
904ـ خطبة الجمعة: حافظوا على الطاعات والعبادات

فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ عَامِلٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهُ هَدَفٌ يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا. وَقِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ تَأْتِي ... المزيد

 14-03-2024
 
 930
08-03-2024 857 مشاهدة
903ـ خطبة الجمعة: استقبل شهر رمضان بالأمور الآتية

هَا نَحْنُ نَسْتَقْبِلُ شَهْرَ الصَّوْمِ، وَأَنْعِمْ بِالصَّوْمِ عِبَادَةً، بِهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتُ، وَتَكْفِيرُ الخَطِيئَاتِ، وَكَسْرُ الشَّهَوَاتِ، وَتَكْثِيرُ الصَّدَقَاتِ، وَوَفْرَةِ الطَّاعَاتِ، وَشُكْرُ عَالِمِ الخَفِيَّاتِ، وَالانْزِجَارُ ... المزيد

 08-03-2024
 
 857
09-02-2024 2550 مشاهدة
902ـ خطبة الجمعة: حاله صلى الله عليه وسلم في شعبان

إِنَّ المُؤْمِنَ لَيَتَقَلَّبُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَمُدُّ اللهُ تعالى لَهُ في أَجَلِهِ، وَكُلَّ يَوْمٍ يَبْقَاهُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ غَنِيمَةٌ لَهُ لِيَتَزَوَّدَ مِنْهُ لِآخِرَتِهِ، وَيَحْرُثَ فِيهِ مَا اسْتَطَاعَ، ... المزيد

 09-02-2024
 
 2550
02-02-2024 2241 مشاهدة
901ـ خطبة الجمعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾

لِنَكنْ جَمِيعًا عَلَى يَقِينٍ أَنَّنَا سَنَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾. أَلَا وَإِنَّ الخَيْرَ كُلَّ الخَيْرِ في الجَنَّةِ، وَإِنَّ الشَّرَّ كُلَّ ... المزيد

 02-02-2024
 
 2241
25-01-2024 1483 مشاهدة
900ـ خطبة الجمعة: صورة من صور الحياء (2)

مَنْ فَقَدَ الحَيَاءَ فَقَدَ كُلَّ شَيْءٍ، وَصَارَ مُجَرَّدًا مِنْ كُلِّ خُلُقٍ نَبِيلٍ فَاضِلٍ، فَاقِدُ الحَيَاءِ مَمْقُوتٌ خَائِنٌ لَا رَحْمَةَ عِنْدَهُ، بَلْ في غَالِبِ الأَمْرِ الأَعَمِّ تَجِدُهُ مَلْعُونًا عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الخَلْقِ، ... المزيد

 25-01-2024
 
 1483

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3153
المكتبة الصوتية 4762
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411940120
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :