64ـ نحو أسرة مسلمة: ما هو المطلوب منا في أيام عشر ذي الحجة؟

64ـ نحو أسرة مسلمة: ما هو المطلوب منا في أيام عشر ذي الحجة؟

 

مقدمة الدرس:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فبمناسبة دخول اليوم الأول من أيام عشر ذي الحجة فمن الجدير بالذكر أن نتحدَّث عن هذه الأيام المباركة التي فيها نفحات من ربنا عز وجل، كما جاء عند الطبراني قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٌ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا، فَلا تَشْقَوْنَ بَعْدَهَا أَبَدًا). فنسأل الله تعالى نفحة من نفحاته لا نشقى بعدها أبداً.

خاصية هذا العشر:

هذه الأيام العشر مع لياليها لها خصوصية كبرى عند ربنا عز وجل، لأنها امتازت عن غيرها باجتماع أمهات العبادة فيها، ففيها الصلاة وفيها الصيام وفيها الصدقة وفيها الحج، وهذا لا يكون إلا في هذه الأيام ونراه مجسَّداً في الحجاج، ولخصوصية هذه الأيام والليالي أقسم بها مولانا عز وجل فقال تعالى: {وَالْفَجْر * وَلَيَالٍ عَشْر}. فالله تعالى أقسم بفجر يوم عرفة، وبهذه الليالي التي سبقت يوم عرفة، والله تعالى لا يقسم إلا بمعظَّم.

فالربُّ العَدْلُ تبارك وتعالى أقسم بهذا الزمن المعظَّم بأنه بالمرصاد لكل الأمم اللاحقة للأمم السابقة التي أساءت لأنبيائه وأوليائه، حيث أهلك السابقين وهو على إهلاك اللاحقين المسيئين لأوليائه وأحبابه لقادر، فمتى وصلت أمة إلى مثل ما وصلت إليه الأمم السابقة أهلكها الله بحكمته وعدله، ضمن سنته العامة التي لا تبديل لها ولا تحويل.

فلِعِظَمِ هذه الليالي والأيام أقسم بها مولانا عز وجل، وبعد ذلك نبَّهنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أهمية هذه الأيام فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري عن ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا، قالَ: قالَ رسُولُ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: (ما مِنْ أَيامٍ العَمَلُ الصَّالحُ فِيها أَحَبُّ إِلى الله مِنْ هذِهِ الأَيَّامِ ـ يعني: أَيامَ العشرِ ـ، قالوا: يا رسول الله وَلا الجهادُ في سبِيلِ الله؟ قالَ: ولا الجهادُ في سبِيلِ الله، إِلاَّ رَجُلٌ خَرجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَم يَرجِعْ منْ ذلك بِشَيءٍ).

فالله تعالى أقسم بها ورسول الله صلى الله عليه وسلم رغَّبنا بكثرة العمل الصالح فيها بهذا الحديث الشريف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي القرآن ومثله معه.

الربط بين أول سورة الفجر وآخرها:

أيها الإخوة: الشيء الذي يجب علينا أن نتنبَّه إليه هو الربط بين أول سورة الفجر وآخرها، فالله تعالى أقسم في صدر هذه السورة بقوله: {وَالْفَجْر * وَلَيَالٍ عَشْر}. وقال في آخرها: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ * وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَد * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَد * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}. والنبي صلى الله عليه وسلم قال لنا: (ما مِنْ أَيامٍ العَمَلُ الصَّالحُ فِيها أَحَبُّ إِلى الله مِنْ هذِهِ الأَيَّامِ يعني: أَيامَ العشرِ، قالوا: يا رسول الله وَلا الجهادُ في سبِيلِ الله؟ قالَ: ولا الجهادُ في سبِيلِ الله، إِلاَّ رَجُلٌ خَرجَ بِنَفْسِهِ، وَمَالِهِ فَلَم يَرجِعْ منْ ذلك بِشَيءٍ) رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما.

فجدير بنا أن نربط بين هذه الأمور، القسم بها من ربنا، وطلب العمل الصالح فيها من نبينا صلى الله عليه وسلم، وتمني العبد الكافر يوم القيامة لو أنه قدّمَ لحياته الباقية من حياته الفانية.

أتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما سمعوا القسم بها من ربنا، وسمعوا ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في العمل بها، أقبلوا في هذه الأيام على العمل الصالح متنافسين فيه تقرباً إلى الله تعالى، وطمعاً في أن يكونوا من أصحاب النفوس المطمئنة التي قال فيها مولانا عز وجل: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}.

الفارق بين عمل العبد وعمل الحر:

أيها الإخوة: تعالوا لنقف أمام قول الله عز وجل: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ * وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَد * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَد}.

يعطينا مولانا صورة من صور أرض المحشر حيث يؤتى بجهنم التي آمنا بها غيباً، وسوف نراها عياناً يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى}. سوف نراها عياناً بعد الإيمان بها غيباً، وقال تعالى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِين}. وكيف يؤتى بها إلى أرض المحشر يقول صلى الله عليه وسلم: (يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا) رواه مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

العبد الكافر يقول في أرض المحشر: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}. لأنه ما كان مؤمناً بيوم القيامة، وما كان مؤمناً بيوم الحشر والنشر بعد البعث، كان شعاره: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}. أو كان شعاره: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِين}. لذلك ترى العبد الكافر أفعالُه أفعالُ الأحرار لا أفعالُ العباد من العبيد، ولو وقف لحظة مع نفسه بصدق لرأى نفسه عبداً لله إن شاء وإن أبى، وليس حُرّاً، ومن عرف نفسه عبداً كانت تصرفاته تصرفات العباد من العبيد، الذين كان شعارهم: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين}. كان شعارهم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير}.

ينسى العبد الكافر حقيقة العبودية لله عز وجل، مع أنه منغمس في العبودية من فرقه إلى قدمه إن شاء أو أبى، ألم يقل الله عز وجل: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}. هذا وصف الجميع بدون استثناء، حاكم أو محكوم، غني أو فقير، سليم أو مريض، قوي أو ضعيف، ذكر أو أنثى...

فالمؤمن بعبوديته لله عز وجل أفعاله أفعال العبيد الذين يحاولون دائماً وأبداً إرضاء سيدهم، لأنهم على يقين أنهم لله راجعون، وأنهم مسؤولون، أما العبد الذي يظن نفسه أنه حر وليس عبداً لله فترى أفعاله أفعال الأحرار الذين ينطلقون من نفوسهم الأمارة بالسوء وأهوائهم الزائفة بدون قيد ولا شرط، لا يُحِلُّ حلالاً ولا يُحَرِّم حراماً.

هذا العبد والله سيندم يوم القيامة إذا لم يتب إلى الله تعالى، وسوف يقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}.

الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية:

ومن خلال قول هذا العبد: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}. نعلم بأن هذه الحياة الدنيا حياة قصيرة زائلة لا خلود فيها، وهي جسر لدار الإقامة، ولو قورنت مع الحياة الآخرة فإنها لا تستحق أن توصف بالحياة، ما قيمة هذه الحياة سنوات معدودة، ربما لا تتجاوز السبعين بجانب حياة لها بداية وليس لها نهاية؟ لذلك فالحياة الحقيقية هي في الدار الآخرة، كما قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون}.

صاحب هذه الدار حُرٌّ أم عبد؟

أيها الإخوة: كان يعيش في بغداد رجل معروف يقال له: بشر.

وكان ممن يشار إليه بالبنان، وحدث يوماً أن كان الإمام الكاظم، ماراً من أمام بيت بشر، وكانت أصوات اللهو والطرب تملأ المكان، فصادف أن فتحت جارية باب الدار لإلقاء بعض الفضلات، وحين رمت بها في الطريق سألها الإمام قائلاً: يا جارية! هل صاحب هذه الدار حر أم عبد؟! فأجابته الجارية وهي مستغربة سؤاله: هذا بشر رجل معروف بين الناس، وقالت: بل هو حر!! فقال الإمام : صدقتِ، لو كان عبداً لخاف من مولاه. الإمام قال هذه الكلمة وانصرف.

فعادت الجارية إلى الدار وكان بشر جالساً إلى مائدة الخمر، فسألها: ما الذي أبطأك؟ فنقلت له ما دار بينها وبين الإمام، وعندما سمع ما نقلته من قول الإمام: صدقتِ، لو كان عبداً لخاف من مولاه. اهتز هزةً عنيفةً أيقظته من غفلته، وأيقظته من نومته، نومة الغفلة عن الله.

ثم سأل بشر الجاريةَ عن الوجهة التي توجَّه إليها الإمام، فأخبرته، فانطلق يعدو خلفه، حتى أنَّه نسي أن ينتعل حذاءه، وكان في الطريق يحدِّث نفسه بأن هذا الرجل هو الإمام موسى بن جعفر، وفعلاً ذهب إلى منزل الإمام، فتاب على يده واعتذر وبكى، ثم هوى على يدي الإمام يقبلها وهو يقول: سيدي أريد من هذه الساعة أن أصبح عبداً، ولكن عبداً لله، لا أريد هذه الحرية المذلَّة التي تأسر الإنسانية فيّ، وتطلق العنان للشهوة الحيوانية. لا أريد حرية السعي وراء الجاه والمنصب، لا أريد حرية الخوض في مستنقع الذنوب وأغدو أسيراً لها. لا أريد أن تؤسر فيّ الفطرة السليمة والعقل السليم. من هذه الساعة أريد أن أصبح عبداً لله، ولله وحده، حراً تجاه غيره.

وتاب بشر على يد الإمام الكاظم. ومنذ تلك اللحظة هجر الذنوب ونأى عنها، وأتلف كل وسائل الحرام، وأقبل على الطاعة والعبادة وأصبح من علماء المسلمين. من هذه القصة عرف ببشر الحافي.

بعد سماع قصة بشر الحافي رضي الله عنه ليسأل كل واحد منا نفسه هل أفعالنا أفعال الأحرار أم أفعال العبيد لله عز وجل؟

اعمل ما شئت فإنك مجزي به:

أيها الإخوة: أعطانا الله تعالى حرية الاختيار في الأفعال اختباراً وابتلاءً، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعمل ما شئت فإنك مجزي به) رواه الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنه.

ولكن تذكَّر أيها العبد المخيَّر بأن الجزاء من جنس العمل، قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}. وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَاد}. تذكَّر أيها العبد المختار بأن عملك سيعرض عليك يوم القيامة، قال تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}.

فإما أن تقول: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيه}. وإما أن يقول العبد: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه}. ويقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}.

ما هي نتيجة المتحسر؟ نتيجته قول الله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَد * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَد}.

أما العبد الذي قام بوظيفة العبودية لله عز وجل، وكانت تصرفاته تصرفات العباد من العبيد فنتيجته: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}.

يا أيها الإخوة الكرام: نرجع إلى ما بدأنا به حديثنا، الليالي العشر أقسم بها مولانا تبارك وتعالى، وحرَّضنا النبي صلى الله عليه وسلم على العمل الصالح فيها، حتى لا نقول مقولة ذلك الرجل: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}. وحتى نسمع قول الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}.

كيفية الوصول إلى درجة النفس المطمئنة؟

قد يسأل أحدنا: كيف يصل الإنسان إلى هذه الدرجة بحيث تصبح نفسه مطمئنة؟

الجواب على ذلك من خلال قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب}. فبذكر الله تطمئن القلوب، وعلى رأس ذكر الله تلاوة القرآن العظيم، ثم بعد ذلك التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وكلما أكثر الإنسان من ذكر الله تعالى كلما ازداد قلبه اطمئناناً، ولذلك ينبغي علينا أن نكثر من ذكر الله تعالى، عند طعامك اذكر الله تعالى، وعند شرابك، وعند دخولك البيت، وعند خروجك منه، عند الدخول لقضاء الحاجة، وعند الخروج، حتى عندما يأتي الرجل أهله عليه أن يذكر الله تعالى، وبعد ذكر الله اشكر الله تعالى الذي وفَّقك للذكر.

تعلَّمْ ذكر الله من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يذكر الله على سائر أحواله، كما جاء في الحديث الشريف الذي يرويه الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الله عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ).

وإذا كنت لا تعرف أنواع الذكر فعليك بكتاب الأذكار للإمام النووي الذي جمع فأوعى، حيث تتعلَّم ذكر الله تعالى في سائر الأحوال لتنال هذه الدرجة درجة الطمأنينة التي حُرِمها أكثر الناس بسبب الغفلة عن الله عز وجل.

نتائج اطمئنان القلب:

اطمئنان القلب له نتائج دنيوية وأخروية بفضل من الله عز وجل.

أولاً: صاحب النفس المطمئنة لا يتكدَّر في دنياه، لأنه بكثرة ذكر الله تعالى يقف على حقيقة الإيمان بأن الفاعل الحقيقي إنما هو الله تعالى، ويترسَّخ في قلبه قول النبي صلى الله عليه وسلم (واعلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَو اجتَمعتْ عَلَى أَنْ ينْفعُوكَ بِشيْءٍ، لَمْ يَنْفعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَد كَتَبَهُ الله لَكَ، وإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوك بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بَشَيْءٍ قد كَتَبَهُ الله عليْكَ، رُفِعَتِ الأقْلامُ، وجَفَّتِ الصُّحُفُ) رواهُ التِّرمذيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهمَا.

فبذكر الله يطمئن قلبه في الدنيا وبذلك يعيش سعيداً، ونحن نذكر قول الله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلاَّ الْمُصَلِّين}. الذي يمسُّه الشر يكون جزوعاً، والذي يمسه الخير يكون منوعاً، هذا هو الاضطراب في حياته، ولكن الله استثنى من ذلك: {إِلاَّ الْمُصَلِّين}. والصلاة هي عين الذكر الذي يطمئن القلب به، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي}.

ثانياً: صاحب النفس المطمئنة آمنٌ عند سكرات الموت، حيث تتلقاه الملائكة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُون * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيم}. فعند سكرات الموت تُطَمْئِنُه الملائكة الكرام.

ثالثاً: صاحب النفس المطمئنة في أرض المحشر آمنٌ مطمئن من فزع يوم القيامة، قال تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُون}.

رابعاً: صاحب النفس المطمئنة آمنٌ بإذن الله تعالى عند الحساب، وخاصة بعد سماعه قول الله تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُون}. فيرى نفسه مع أهل الإيمان.

خامساً: صاحب النفس المطمئنة بعد الحساب آمنٌ بإذن الله تعالى حيث يقول على رؤوس الأشهاد: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيه * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيه}.

سادساً: صاحب النفس المطمئنة يزداد طمأنينة عند دخوله الجنة بإذن الله تعالى عندما تتلقاه الملائكة بقولهم: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِين}. وبقوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}.

ويزاد اطمئناناً أكثر عندما يُذبح الموت بين الجنة والنار كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} وَهَؤُلاءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا {وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}) رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ما هو المطلوب منا في هذه الأيام العشر؟

أيها الإخوة الكرام: فما هو المطلوب منا في هذه الأيام العشر مع لياليها؟ الجواب على ذلك من حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما مِنْ أَيامٍ العَمَلُ الصَّالحُ فِيها أَحَبُّ إِلى الله مِنْ هذِهِ الأَيَّامِ ـ يعني: أَيامَ العشرِ ـ، قالوا: يا رسول الله وَلا الجهادُ في سبِيلِ الله؟ قالَ: ولا الجهادُ في سبِيلِ الله، إِلاَّ رَجُلٌ خَرجَ بِنَفْسِهِ، وَمَالِهِ فَلَم يَرجِعْ منْ ذلك بِشَيءٍ) رواه البخاري عن ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا . فالمطلوب هو الإكثار من العمل الصالح فيها، وعلى رأس هذه الأعمال الصالحة:

1ـ الصيام، لما رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى الله أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ).

فعلينا بصيام هذه الأيام وخاصة في أيام الشتاء التي طال ليلها وقصر نهارها، فهي غنيمة باردة، كما جاء في الحديث الشريف عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ الْجُمَحِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ) رواه الإمام أحمد.

قيام الليل، لما رواه الترمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ لِلإِثْمِ).

3ـ صلاة العشاء والفجر في جماعة، لما رواه الإمام مسلم عن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ قَالَ: (دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْمَسْجِدَ بَعْدَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ فَقَعَدَ وَحْدَهُ، فَقَعَدْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا بْنَ أَخِي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ).

4ـ صلة الأرحام والإحسان لمن أساء إليك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلاوة القرآن.....

5ـ وآخر وصية أوصي بها نفسي وإياكم التخلُّق بالأخلاق الحسنة مع نسائكم، وذلك لوصية النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول ُ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: (اسْتوْصُوا بِالنِّساءِ خيْراً، فإِنَّ المرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوجَ ما في الضِّلعِ أَعْلاهُ، فَإِنْ ذَهبتَ تُقِيمُهُ كَسرْتَهُ، وإِنْ تركتَهُ لمْ يزلْ أَعوجَ، فاستوْصُوا بِالنِّسَاءِ) متفقٌ عليه.

أسأل الله تعالى أن يوفِّقنا للإكثار من العمل الصالح في هذه الأيام لنكون من الفائزين يوم القيامة. آمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

**        **     **

 

 2009-11-18
 4440
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  نحو أسرة مسلمة

28-01-2018 4038 مشاهدة
200ـ نحو أسرة مسلمة: اللَّهُمَّ فهمنيها

لِتَحْقِيقِ السَّعَادَةِ في حَيَاتِنَا الأُسَرِيَّةِ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ القُرْآنِ العَظِيمِ تَعَامُلَاً صَحِيحَاً، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتِّلَاوَةِ مَعَ التَّدَبُّرِ، قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ... المزيد

 28-01-2018
 
 4038
21-01-2018 4868 مشاهدة
199ـ نحو أسرة مسلمة :مفتاح سعادتنا بأيدينا

كُلَّمَا تَذَكَّرْنَا يَوْمَ الحِسَابِ، يَوْمَ العَرْضِ عَلَى اللهِ تعالى، يَوْمَ نَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى حُفَاةً عُرَاةً غُرْلَاً، وَكُلَّمَا تَذَكَّرْنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَنَعِيمَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ، ... المزيد

 21-01-2018
 
 4868
14-01-2018 3486 مشاهدة
198ـنحو أسرة مسلمة : بعد كل امتحان ستعلن النتائج

صَلَاحُ أُسَرِنَا لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا عَرَفَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الغَايَةَ مِنْ وُجُودِهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ الكَثِيرُ مِنَ الأَزْوَاجِ مِمَّنْ دَخَلَ الدُّنْيَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ لَا يَدْرِي وَلَا يَعْلَمُ لِمَاذَا ... المزيد

 14-01-2018
 
 3486
08-01-2018 4079 مشاهدة
197ـنحو أسرة مسلمة: وصية الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لنا

القُرْآنُ العَظِيمُ الذي أَكْرَمَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَاصْطَفَانَا لِوِرَاثَتِهِ هُوَ مَصْدَرُ سَعَادَتِنَا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَمَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ في حَيَاتِهِ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَعَلَيْهِ ... المزيد

 08-01-2018
 
 4079
31-12-2017 4089 مشاهدة
196ـ نحو أسرة مسلمة :دمار الأسر بسبب الفسق والفجور

إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ شَقَاءِ البُيُوتِ، وَكَثْرَةِ الخِلَافَاتِ بَيْنَ الأَزْوَاجِ، المَعَاصِيَ وَالمُنْكَرَاتِ، التي تُنَكِّسُ الرُّؤُوسَ في الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، وَالتي تُسْلِمُ إلى مُقَاسَاةِ العَذَابِ الأَلِيمِ في الدُّنْيَا قَبْلَ ... المزيد

 31-12-2017
 
 4089
24-12-2017 3866 مشاهدة
195ـنحو أسرة مسلمة : أين بيوتنا من تلاوة القرآن؟

سِرُّ سَعَادَتِنَا في حَيَاتِنَا الزَّوْجِيَّةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَحَوُّلِنَا مِنَ الشَّقَاءِ إلى السَّعَادَةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ هِدَايَتِنَا مِنَ الضَّلَالِ إلى الهُدَى القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَمَاسُكِ أُسَرِنَا ... المزيد

 24-12-2017
 
 3866

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3153
المكتبة الصوتية 4762
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411947386
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :