438ـ خطبة الجمعة: «ويؤخر أهل الحقد كما هم»

438ـ خطبة الجمعة: «ويؤخر أهل الحقد كما هم»

 

 438ـ خطبة الجمعة: «ويؤخر أهل الحقد كما هم»

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، الحِقْدُ مَرَضٌ عُضَالٌ من أَمْرَاضِ القَلْبِ، يُخْشَى مَعَهُ أَنْ يَتَسَرَّبَ الإِيمَانُ من هذا القَلْبِ المَرِيضِ، الحِقْدُ نَزْغٌ من عَمَلِ الشَّيْطَانِ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إلا من خَفَّتْ أَحْلامُهُم وطَاشَتْ عُقُولُهُم، الحِقْدُ يُغْضِبُ الرَّبَّ جَلَّ جَلالُهُ، ويُودِي بِصَاحِبِهِ إلى الخُسْرَانِ المُبِينِ في الدُّنيَا الآخِرَةِ.

يَا عِبَادَ اللهِ، الحَاقِدُ قَلِقُ النَّفْسِ دَائِمَاً، لا يَهْدَأُ لَهُ بَالٌ، الحَاقِدُ سَاقِطُ الهِمَّةِ، ضَعِيفُ النَّفْسِ، وَاهِنُ العَزْمِ، كَلِيلُ اليَدِ.

الحَاقِدُ رَجُلٌ مُضَلَّلٌ ضَائِعٌ، مُخْطِئٌ في تَقْدِيرِهِ، فَهُوَ مَحْصُورُ التَّفْكِيرِ في الدُّنيَا ومَتَاعِهَا، الحَاقِدُ جَاهِلٌ بِرَبِّهِ وبِسُنَنِهِ في هذا الكَوْنِ، لأَنَّ للهِ تعالى حِكَمَاً لا تَظْهَرُ في التَّوِّ واللَّحْظَةِ، الحِقْدُ يُظْهِرُ عُيُوبَ الإِنسَانِ، ويَكْشِفُ عن الدَّاءِ الدَّفِينِ فِيهِ.

«وَيُؤَخِّرُ أَهْلَ الْحِقْدِ كَمَا هُمْ»:

يَا عِبَادَ اللهِ، هَذِهِ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَهرِ شَعْبَانَ قَد أَظَلَّتْنَا، فَهَل انْتَبَهْنَا إِلَى قُلُوبِنَا؟ روى البيهقي عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها قَالَتْ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مِن اللَّيْلِ يُصَلِّي، فَأَطَالَ السُّجُودَ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ قَدْ قُبِضَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُمْتُ حَتَّى حَرَّكْتُ إِبْهَامَهُ فَتَحَرَّكَ فَرَجَعْتُ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِن السُّجُودِ وَفَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَوْ يَا حُمَيْرَاءُ، ظَنَنْتِ أَنَّ النَّبِيَّ خَاسَ بِكِ؟».

قُلْتُ: لَا واللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَكِنِّي ظَنَنْتُ أَنَّكَ قُبِضْتَ لِطُولِ سُجُودِكَ.

قَالَ: «أَتَدْرِينَ أَيَّ لَيْلَةٍ هَذِهِ؟».

قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: «هَذِهِ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَطَّلِعُ عَلَى عِبَادِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِلْمُسْتَغْفِرِينَ، وَيَرْحَمُ الْمُسْتَرْحِمِينَ، وَيُؤَخِّرُ أَهْلَ الْحِقْدِ كَمَا هُمْ».

وفي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ لَهُ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «إذا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ من شَعْبَانَ اطَّلَعَ اللهُ إلى خَلْقِهِ، فَيَغْفِرُ للمُؤْمِنِ، ويُمْلِي للكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الحِقْدِ بِحِقْدِهِم حَتَّى يَدَعُوهُ».

الحِقْدُ وَصْفُ المُنَافِقِينَ:

يَا عِبَادَ اللهِ، الحِقْدُ يُثِيرُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ والإِضْرَارَ بالنَّاسِ لِغَيْرِ ذَنْبٍ جَنَوْهُ، وقد بَيَّنَ اللهُ تعالى بِأَنَّ الحِقْدَ هوَ من وَصْفِ المُنَافِقِينَ، ولَيسَ من وَصْفِ المُؤْمِنِينَ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾. وعَضُّ الأَنَامِلِ عَادَةُ النَّادِمِ الأَسِيفِ العَاجِزِ.

يَا عِبَادَ اللهِ، المُؤْمِنُ يَغْبِطُ ولا يَحْسُدُ، المُؤْمِنُ لَيسَ بِحَقُودٍ، روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «ثَلاثٌ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ لَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ باللهِ شَيْئَاً، وَلَمْ يَكُنْ سَاحِرَاً يَتْبَعُ السَّحَرَةَ، وَلَمْ يَحْقِدْ عَلَى أَخِيهِ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، مَن أَرَادَ حُسْنَ الخَاتِمَةِ، من أَرَادَ أَنْ يَلْقَى اللهَ عزَّ جلَّ وهوَ رَاضٍ عَنهُ، ومن أَرَادَ أَنْ يَحْظَى بِمَعِيَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَعَلَيهِ بِسَلامَةِ الصَّدْرِ.

روى الترمذي عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «يَا بُنَيَّ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ، يَا بُنَيَّ، وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ».

ويَقُولُ زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: دُخِلَ على أَبِي دُجَانَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَهُوَ مَرِيضٌ وَكَانَ وَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ، فَقِيلَ لَهُ: مَا لِوَجْهِكَ يَتَهَلَّلُ؟

فَقَالَ: مَا مِن عَمَلِي شَيْءٌ أَوْثَقُ عِنْدِي من اثْنَتَيْنِ:

أَمَّا إِحْدَاهُمَا فَكُنْتُ لا أَتَكَلَّمُ فِيمَا لا يَعْنِينِي.

وَأَمَّا الأُخْرَى فَكَانَ قَلْبِي للمُسْلِمِينَ سَلِيمَاً.

يَا عِبَادَ اللهِ، نَحنُ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ في هذهِ الأَزمَةِ إلى سَلامَةِ القَلْبِ، ونَزْعِ الحِقْدِ مِنهُ، لَعَلَّ اللهَ تعالى يُطْفِئُ نَارَ هذهِ الحَرْبِ عَنَّا.

اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بذلكَ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

 

الجمعة: 11/شعبان /1435هـ، الموافق: 29/أيار / 2015م

 2015-05-29
 1559
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 129 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 129
12-04-2024 751 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 751
09-04-2024 588 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 588
04-04-2024 702 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 702
28-03-2024 605 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 605
21-03-2024 1060 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1060

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413060191
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :