35ـ نحو أسرة مسلمة: درِّبوا أولادكم على خلق كظم الغيظ

35ـ نحو أسرة مسلمة: درِّبوا أولادكم على خلق كظم الغيظ

 

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فمن الواجب علينا أن ندرِّب أبناءنا على خلقٍ كريمٍ هو سببٌ من أسباب نجاتنا يوم القيامة، وسببٌ من أسباب دخولنا جنةً عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين كما قال تعالى، هذا الخلق هو كظم الغيظ.

الله عز وجل جعلنا فتنةً لبعضنا البعض، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}. ولهذا جعل الحقُّ تعالى الناسَ متفاوتين في أخلاقهم اختباراً وابتلاءً وهو ناظر ماذا يفعلون؟

أخرج الإمام الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا صَلاةَ الْعَصْرِ بِنَهَارٍ ثُمَّ قَامَ خَطِيبًا فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلا أَخْبَرَنَا بِهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، وَكَانَ فِيمَا قَالَ: (أَلا إِنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى، فَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا. أَلا وَإِنَّ مِنْهُمْ الْبَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ، وَمِنْهُمْ سَرِيعُ الْغَضَبِ سَرِيعُ الْفَيْءِ، فَتِلْكَ بِتِلْكَ، أَلا وَإِنَّ مِنْهُمْ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الْفَيْءِ، أَلا وَخَيْرُهُمْ بَطِيءُ الْغَضَبِ سَرِيعُ الْفَيْءِ، أَلا وَشَرُّهُمْ سَرِيعُ الْغَضَبِ بَطِيءُ الْفَيْءِ. أَلا وَإِنَّ مِنْهُمْ حَسَنَ الْقَضَاءِ حَسَنَ الطَّلَبِ، وَمِنْهُمْ سَيِّئُ الْقَضَاءِ حَسَنُ الطَّلَبِ، وَمِنْهُمْ حَسَنُ الْقَضَاءِ سَيِّئُ الطَّلَبِ، فَتِلْكَ بِتِلْكَ، أَلا وَإِنَّ مِنْهُمْ السَّيِّئَ الْقَضَاءِ السَّيِّئَ الطَّلَبِ، أَلا وَخَيْرُهُمْ الْحَسَنُ الْقَضَاءِ الْحَسَنُ الطَّلَبِ، أَلا وَشَرُّهُمْ سَيِّئُ الْقَضَاءِ سَيِّئُ الطَّلَبِ، أَلا وَإِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ، فَمَنْ أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَلْصَقْ بِالأَرْضِ).

توجهات قرآنية:

أيها المربي الحريص على سلامتك وسلامة أولادك دنيا وأخرى، خذ بخير التوجيهات من كتاب الله عز وجل، ومن سنَّة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أولاً: قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِين * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين}.

تدبَّروا هذه الآية، يقول الله تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ}. سارع إلى أسباب المغفرة في هذه الحياة الدنيا، لأنك لا تدري متى ينتهي أجلك، ولا تجعل الفرصة تفوتك بموتك، فمن أسباب هذه المغفرة كظم الغيظ، والعفو عمن أساء إليك، والإحسان إليه، كما قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين}.

ثانياً: قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرين * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُون * إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون}. تدبَّر هذه الآية: أمرك الله تعالى بالصبر، فإن صبرت على أذى الخلق فإن الله معك، ولن يتخلَّى عنك، لذلك جاء من بعد ذلك قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير}. بعد إيذاء أهل مكة والطائف مع الصبر من النبي صلى الله عليه وسلم جاء قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}.

اربط بين التكليف والجزاء عليه، لأنه من عرَفَ الجزاء والأجرَ على العمل هان عليه العمل، فإن كان كظم الغيظ نتيجته مغفرةٌ للذنوب، وجناتٌ تجري من تحتها الأنهار مع الخلود فيها أبد الآبدين فهو تكليفٌ سهل على العقلاء.

وإن كان الصبر على إساءة المسيء نتيجته كرامةٌ من الكرامات يغدقها الله تعالى على عبده الصابر فهو تكليف سهل على العقلاء.

توجيهات نبوية:

أولاً: عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ الله مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله) رواه ابن ماجه. يجب أن تأخذ جرعة غيظ وتكظمها ابتغاء وجه الله تعالى، لا من أجل أن يقال عنك أنك حليم وصاحب خلق حسن.

ثانياً: عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ) رواه الترمذي. هناك من يكظم غيظه لأنه لا يستطيع نفاذه، وهذا يجب عليه الصبر، أما إن استطاع أن ينفذ غيظه فعليه بالحلم، فالحلم يكافيه ربنا عز وجل على رؤوس الخلائق جميعاً يوم القيامة.

ثالثاً: عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقوم يضطربون فقال: (ما هذا؟ فقالوا: يا رسول الله فلان الصريع ما يصارع أحداً إلا صرعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أدلُّكم على من هو أشدُّ منه؟ رجل ظلمه رجلٌ فكظم غيظه فغلبه وغلبَ شيطانَه وغلب شيطانَ صاحبه) رواه ابن حبان. الشديد هو الذي يكظم غيظه ويغلب شيطانه وشيطانَ صاحبه، لأن الشيطانين اتفقا على المؤمن لإلقاء العداوة والبغضاء بينه وبين أخيه، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء}. فكن على حذر منه عند الإساءة إليك.

رابعاً: عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ؟ قَالَ: قُلْنَا: الَّذِي لا يُولَدُ لَهُ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ بِالرَّقُوبِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا. قَالَ: فَمَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟ قَالَ: قُلْنَا: الَّذِي لا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ، قَالَ: لَيْسَ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ) رواه مسلم.

الرَّقوب عند العرب من لا ولد له، ومعنى الحديث: إنكم تعتقدون أن الرقوبَ المحزونَ هو المصاب بموت أولاده، وليس هو كذلك شرعاً، بل هو من لم يمت أحد من أولاده في حياته، فيحتسبه عند الله، ويكتب الله له ثواب مصيبته، وثواب صبره عليه.

خامساً: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كُنَّ فيه آواه الله في كنفه، وستر عليه برحمته، وأدخله في محبته، قيل: وما هن يا رسول الله ؟ قال: من إذا أُعطيَ شكر، وإذا قدر غفر، وإذا غضِب فَتَرَ) رواه البيهقي.

سادساً: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دفع غضبه دفع الله عنه عذابه، ومن حفظ لسانه ستر الله عورته) رواه الطبراني.

لولا يوم القيامة لكان غير ما ترون:

أيها الإخوة الكرام، هذا سيدنا عمر رضي الله عنه يقول: (من اتقى الله لم يشف غيظه، ومن خاف الله لم يصنع كلَّ ما يريد، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون) رواه البيهقي في الشعب.

وجسَّد سيدنا عمر رضي الله عنه كلامه تجسيداً عملياً، جاء في صحيح البخاري عَبْدَ الله بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: (قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ، وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنِ أَخِيهِ: يَا بْنَ أَخِي هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَتَسْتَأْذِنَ لِي عَلَيْهِ؟ قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ لِعُيَيْنَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: يَا بْنَ الْخَطَّابِ وَالله مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ، فَقَالَ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الله تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ}. وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ، فَوَالله مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ الله). تصوَّرْ هؤلاء الرجال واجعل نفسك في ميزان صحيح أين أنت منهم؟ من يجترئ أن يقول لك مثل هذا القول وأنت سيِّد في مكانك الذي أقامك الله فيه؟

لا يليق بالعبد الذي يفكِّر في آخرته أن يؤخذ بكلمة، ليكن مُحلِّقاً إلى القمَّة حيث لا يستثار، فإذا أثير كظم غيظه عندما يُذَكَّر بالله تعالى.

تصوَّر هؤلاء الرجال الذي جعلوا بطانتهم أهلَ القرآن العظيم، حفظةَ كتاب الله تعالى، ليذكِّروهم في ساعات الشدَّة بالله، وإذا ذُكِّر بالله يكون وقَّافاً عند كتاب الله عز وجل لا يتعدَّى حده.

هكذا يكون المصلحون:

أيها الإخوة: مهمَّتُنا الإصلاح لا الإفساد، مهمَّتنا سلامة الجميع من العواقب الوخيمة إنْ في الدنيا وإنْ في الآخرة، مهمَّتنا إنقاذُ الناس من سخط الله عز وجل.

انظروا إلى أسوتنا وقدوتنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال لنا فيه مولانا عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا}. وكما قال سيدنا عمر رضي الله عنه: (ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون).

فيا من يفكر في الآخرة اسمع هاتين القصتين:

الأولى: رُوي أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستعينه في شيء، فأعطاه شيئاً، ثم قال: أحْسَنْتُ إلَيْكَ؟ قال: لا، ولا أَجْمَلت.

قال: فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم: أن كفُّوا. ثم قام فدخل منزله، ثم أرسل إلى الأعرابي فدعاه إلى البيت فزاده شيئاً، فرضي فقال: (إنَّكَ جِئْتَنَا فَسَأَلْتَنَا فَأَعْطَيْنَاكَ، وقُلْتَ مَا قُلْتَ، وفِي أنْفُسِ المُسْلِمِينَ شَيءٌ مِن ذَلكَ، فَإنْ أحْبَبْتَ فَقُلْ بَيْن أيْدِيهِم مَا قُلتَ بَينَ يَدَيَّ، حَتَّى يَذْهَبَ منْ صُدُورِهِم مَا فِيْهَا عَلَيكَ).

قال: نعم. فلما كان الغداةُ أو العشيُّ جاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ صَاحِبَكُم هذا كَانَ جَائِعاً، فَسَأَلَنَا فَأَعْطَيْنَاه، فَقَالَ مَا قَالَ، وإنَّا دَعَوْنَاه إلى البَيْتِ فأعْطَيْنَاه، فَزَعَمَ أنَّه قَدْ رَضِيَ، أكَذاكَ؟). قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إنَّ مَثَلي ومَثَلَ هذا الأعْرَابِيَّ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ لَه نَاقَةٌ فَشَرَدَتْ عَلَيه، فاتَّبَعَها النَّاسُ فَلَم يَزيْدُوهَا إلا نُفُوراً، فَنَاداهُم صَاحِبُ النَّاقَةِ: خَلُّوا بَيْنِي وبَينَ نَاقَتِي فَأَنا أرْفَقُ بِهَا، فَتَوَجَّه لَهَا صَاحِبُ النَّاقَةِ بينَ يَدَيْهَا فأَخَذَ لَهَا مِنْ قُمَامِ الأرْضِ، فَجَاءَتْ فاسْتَنَاخَتْ، فَشَدَّ عَلَيها رَحْلَها واسْتَوَى عَلَيها، وإنِّي لَوْ تَرَكْتُكُم حِينَ قَالَ الرَّجُلُ ما قَالَ، فَقَتَلْتُمُوه دَخَلَ النَّارَ) رواه البزار وأبو الشيخ.

الثانية: عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: (لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ، فَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ، قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ) رواه البخاري.

هذا يكون من يفكِّر في العقبة الكؤود:

أيها الإخوة: من يفكِّر في الآخرة وشدائدها، ومن يفكِّر في عَرَصات يوم القيامة، ومن يفكِّر في تطاير الصحف يوم القيامة، ومن يفكِّر في الصراط والمرور عليه، ومن يفكِّر في الميزان، ومن يفكِّر في هذه العقبات يسهل عليه كظمُ الغيظ.

هذا سيدنا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وقال له رجل: أنت الذي نفاك معاوية من الشام، ولو كان فيك خير ما نفاك! فقال: يا بن أخي إن ورائي عقبة كؤوداً، إن نجوتُ منها لم يضرني ما قلته، وإن لم أنج منها فأنا شرٌّ مما قلت.

بحقٍّ أيها الإخوة من لا يكظمُ غيظه في ساعة الشدة أين الخيرُ الذي هو فيه؟ خيرُك الحقيقي يظهر في ساعة الشدَّة، فأثبت سيدنا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه لهذا الرجل أنَّ فيه خيراً، لا كما يدَّعي أنه لا خير فيه.

وبحقٍّ أيها الإخوة إذا لم ينجُ العبد يوم القيامة فأيُّ خيرٍ فيه؟ ولكن إن نجا يوم القيامة وفاز وزُحْزِحَ عن النارِ وأُدخِل الجنة فأيُّ شرٍّ فيه؟

شَتَمَ رَجُلٌ عُمَرَ بْنَ ذَرٍّ فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا لا تُغْرِقَنَّ فِي شَتْمِنَا، وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا، فَإِنَّا لا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى الله فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ الله فِيهِ. رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب.

سبحان الله هكذا تكون الرجال، لأنه لا يليق بالكامل أن ينزل إلى مستوى الناقص، وهذا من صفات عباد الرحمن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا}. لأن الكامل كالبحر لا تعكِّره جيفة.

موقف ثانٍ لأبي ذرٍّ رضي الله عنه:

وجاء غلام لأبي ذر وقد كسر رجل شاة له، فقال له: من كسر رجل هذه؟ قال: أنا فعلته عمداً لأغيظك، فتضربني، فتأثم. فقال: لأغيظنَّ من حرَّضك على غيظي، فأعتقه. رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق.

أيها الإخوة: هل نحن على حذر في ساعة الغضب عند الشدائد من المنزلق الشديد، لأن العبد في ساعة الغضب قد يخرج عن طوره، ويصبح ظالماً بعد أن كان مظلوماً.

لا حاجة لنا في مقاولتك:

من سيرة سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أنه قام رجل إليه ـ وقد ولي الخلافة ـ فكلَّمه بكلام أحفظه وأغضبه، حتى همَّ به عمر، ثم إنَّه أمسك نفسه وقال للرجل: أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً، قم عافاك الله، لا حاجة لنا في مقاولتك. رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق.

خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:

أيها الإخوة: لندرِّب أبناءنا على خُلُق كظم الغيظ من خلال سلوكنا، لنبدأ بالتدرُّب على كظم الغيظ من الدائرة الضيقة، ومنها إلى الأوسع حتى تعمَّ المجتمع كله.

درِّب نفسك على كظم الغيظ مع زوجتك وأولادك فلا تخرج عن طورك، درِّب نفسك على كظم الغيظ مع جيرانك، مع عمالك، مع موظفيك، مع كلِّ من تلقاه، وأنت تستحضر العقبةَ الكؤود أن تجتازها بسلام، لتسمعَ الملائكةَ تقول لك يوم القيامة إن شاء الله تعالى: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار}.

اللهم أكرمنا بذلك، اللهم حسِّن أخلاقنا ويسِّر أرزاقنا واستر أعراضنا وألهمنا رشدنا. آمين يا رب العالمين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

**     **     **

 

 2009-02-11
 1785
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 

التعليقات [ 1 ]

محمد
 2009-03-09

اللهم ارزقنا التقوى والعفاف والغنى واجعلنا على أتقى قلب رجل في أمة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)

 

مواضيع اخرى ضمن  نحو أسرة مسلمة

28-01-2018 4165 مشاهدة
200ـ نحو أسرة مسلمة: اللَّهُمَّ فهمنيها

لِتَحْقِيقِ السَّعَادَةِ في حَيَاتِنَا الأُسَرِيَّةِ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ القُرْآنِ العَظِيمِ تَعَامُلَاً صَحِيحَاً، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتِّلَاوَةِ مَعَ التَّدَبُّرِ، قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ... المزيد

 28-01-2018
 
 4165
21-01-2018 5029 مشاهدة
199ـ نحو أسرة مسلمة :مفتاح سعادتنا بأيدينا

كُلَّمَا تَذَكَّرْنَا يَوْمَ الحِسَابِ، يَوْمَ العَرْضِ عَلَى اللهِ تعالى، يَوْمَ نَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى حُفَاةً عُرَاةً غُرْلَاً، وَكُلَّمَا تَذَكَّرْنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَنَعِيمَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ، ... المزيد

 21-01-2018
 
 5029
14-01-2018 3621 مشاهدة
198ـنحو أسرة مسلمة : بعد كل امتحان ستعلن النتائج

صَلَاحُ أُسَرِنَا لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا عَرَفَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الغَايَةَ مِنْ وُجُودِهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ الكَثِيرُ مِنَ الأَزْوَاجِ مِمَّنْ دَخَلَ الدُّنْيَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ لَا يَدْرِي وَلَا يَعْلَمُ لِمَاذَا ... المزيد

 14-01-2018
 
 3621
08-01-2018 4216 مشاهدة
197ـنحو أسرة مسلمة: وصية الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لنا

القُرْآنُ العَظِيمُ الذي أَكْرَمَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَاصْطَفَانَا لِوِرَاثَتِهِ هُوَ مَصْدَرُ سَعَادَتِنَا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَمَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ في حَيَاتِهِ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَعَلَيْهِ ... المزيد

 08-01-2018
 
 4216
31-12-2017 4238 مشاهدة
196ـ نحو أسرة مسلمة :دمار الأسر بسبب الفسق والفجور

إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ شَقَاءِ البُيُوتِ، وَكَثْرَةِ الخِلَافَاتِ بَيْنَ الأَزْوَاجِ، المَعَاصِيَ وَالمُنْكَرَاتِ، التي تُنَكِّسُ الرُّؤُوسَ في الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، وَالتي تُسْلِمُ إلى مُقَاسَاةِ العَذَابِ الأَلِيمِ في الدُّنْيَا قَبْلَ ... المزيد

 31-12-2017
 
 4238
24-12-2017 4026 مشاهدة
195ـنحو أسرة مسلمة : أين بيوتنا من تلاوة القرآن؟

سِرُّ سَعَادَتِنَا في حَيَاتِنَا الزَّوْجِيَّةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَحَوُّلِنَا مِنَ الشَّقَاءِ إلى السَّعَادَةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ هِدَايَتِنَا مِنَ الضَّلَالِ إلى الهُدَى القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَمَاسُكِ أُسَرِنَا ... المزيد

 24-12-2017
 
 4026

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412852745
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :