461ـ خطبة الجمعة: إنه الأمل, إنه التفاؤل

461ـ خطبة الجمعة: إنه الأمل, إنه التفاؤل

 

 461ـ خطبة الجمعة: إنه الأمل، إنه التفاؤل

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

هِجْرَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ تُعَلِّمُنَا كَيْفَ يَكُونُ الإِنْسَانُ مُتَفَائِلاً وَصَاحِبَ أَمَلٍ مَعَ وُجُودِ الأَلَمِ، وَتُعَلِّمُنَا كَيْفَ يَظْهَرُ النُّورُ من رَحِمِ الظَّلامِ، وَكَيْفَ يَخْرُجُ الخَيْرُ من قَلْبِ الشَّرِّ، وَكَيْفَ يَنْبَثِقُ الفَجْرُ من كَبِدِ الأَزَمَاتِ، فَلَيْسَ بَعْدَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ إلا انْبِثَاقُ الفَجْرِ، قَالَ تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَاً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَاً﴾. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» رواه الحاكم عن الحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

فَأَبْشِرُوا يَا عِبَادَ اللهِ، وَأَمِّلُوا، وَعُودُوا إلى اللهِ تعالى، وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ العَظِيمَ، وَتُوبُوا إِلَيْهِ، وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدَاً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ.

«مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا»:

يَا عِبَادَ اللهِ، اِجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ على قَتْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَلَكِنَّهَا فَشِلَتْ، وَانْبَلَجَ الأَمَلُ من قَلْبِ ظُلْمَةٍ سَوْدَاءَ، فَخَرَجَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من بَيْنِ أَظْهُرِهِم، وَقَد ذَرَّ التُّرَابَ فَوْقَ رُؤُوسِهِم.

يَمْضِي سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَحُثُّ الخُطَى مَعَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ حَتَّى وَصَلَ إلى جَبَلِ ثَوْرٍ، وَهُوَ جَبَلٌ شَامِخٌ، وَعْرُ الطَّرِيقِ، صَعْبُ المُرْتَقَى، فَحُفِيَتْ قَدَمَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَهُوَ يَرْتَقِيهِ، وَيَصِلُ المُطَارِدُونَ إلى بَابِ الغَارِ، وَيَسْمَعُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ والصِّدِّيقُ وَقْعَ أَقْدَامِهِم.

روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَأَنَا فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا.

فَقَالَ: «مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا».

يَا عِبَادَ اللهِ، لَقَد غَرَسَ الأَمَلَ مَرَّةً أُخْرَى في قَلْبِ المِحْنَةِ، في سَاعَةِ القَلَقِ والتَّوَجُّسِ والاضْطِرَابِ والخَوْفِ «مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا». وَرَجَعَ المُشْرِكُونَ بَعْدَ أَنْ كَانَ بَيْنَهُم وَبَيْنَ مَطْلُوبِهِم خُطُوَاتٍ.

ثَبَاتُ المُؤْمِنِ يَتَجَلَّى في المَوَاقِفِ الحَرِجَةِ اعْتِمَادَاً مِنْهُ على اللهِ تعالى، وَيَقِينَاً مِنْهُ بِأَنَّ اللهَ تعالى لَنْ يَتَخَلَّى عَنْهُ في السَّاعَاتِ الحَرِجَةِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.

«كَيْفَ بِكَ إِذَا لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى؟»:

يَا عِبَادَ اللهِ، نَحْنُ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ في هذهِ الظُّرُوفِ القَاسِيَةِ أَنْ نَقْرَأَ سِيرَةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، لِنَرَى فِيهَا حَقِيقَةَ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾؟

يَا عِبَادَ اللهِ، مَرَّةً أُخْرَى يَزْرَعُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الأَمَلَ في نُفُوسِ الأُمَّةِ إِذَا كَانَتْ مُتَوَكِّلَةً على اللهِ تعالى، يَزْرَعُ في نُفُوسِهَا الأَمَلَ في وَسَطِ الأَلَمِ.

خَرَجَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من الغَارِ، بَعْدَ أَنْ سَلَّمَهُ اللهُ تعالى من المُشْرِكِينَ الذينَ وَصَلُوا إلى بَابِ الغَارِ، وَيَلْحَقُ بِهِم سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ طَامِعَاً في جَائِزَةِ قُرَيْشٍ مُؤَمِّلَاً أَنْ يَنَالَ مِنْهَا مَا عَجَزَتْ قُرَيْشٌ كُلُّهَا، فَطَفِقَ يَشْتَدُّ حَتَّى دَنَا مِنْهُمَا، وَسَمِعَ قِرَاءَةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ.

فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ».

فَسَاخَتْ قَوَائِمُ فَرَسِهِ إلى بَطْنِهَا في أَرْضٍ صَلْدٍ، وَوَثَبَ عَنْهَا وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَد عَلِمْتُ أَنَّ هذا عَمَلُكَ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يُنْجِيَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَوَاللهِ لَأُعَمِيَنَّ على مَن وَرَائِي من الطَّلَبِ، وهذهِ كِنَانَتِي فَخُذْ مِنْهَا سَهْمَاً، فَإِنَّكَ سَتُمُرُّ بِإِبِلِي وَغَنَمِي بِمَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا فَخُذْ مِنْهَا حَاجَتَكَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «لا حَاجَةَ لِي فِيهَا» وَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ وَرَجَعَ إلى أَصْحَابِهِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يا عباد الله، لا يَلِيقُ بالإِنْسَانِ المُؤْمِنِ الذي عَرَفَ رَبَّهُ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، أَنْ يَعِيشَ حَيَاةَ اليَأْسِ والقُنُوطِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَعِيشَ حَيَاةَ الوَاثِقِ بِرَبِّهِ القَائِلِ: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَاً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَاً﴾. بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَعِيشَ حَيَاةَ المُتَفَائِلِ، لا المُتَشَائِمِ، فهذا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ لِسُرَاقَةَ الذي لَحِقَهُ، وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ المُطَارَدُ: ««كَيْفَ بِكَ إِذَا لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى؟».

فَيَقُولُ لَهُ: سِوَارَيْ كِسْرَى بْنِ هُرمُزَ؟

قَالَ: «نَعَم».

يَا عِبَادَ اللهِ، إِنَّهُ الإِيمَانُ، إِنَّهُ الأَمَلُ، إِنَّهُ التَّفَاؤُلُ، إِنَّهُ التَّصْدِيقُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿واللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾. وبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئَاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ واللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، عَلَيَّ وَعَلَيْكُم بِدُعَاءِ عَطَاءٍ الخُرَاسَانِيِّ: اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا يَقِينَاً مِنْكَ حَتَّى تُهَوِّنَ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، وَحَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ لا يُصِيبُنَا إلا مَا كَتَبْتَ عَلَيْنَا، وَلا يُصِيبُنَا مِنْ هذا الرِّزْقِ إلا مَا قَسَمْتَ لَنَا.

يَا رَبِّ زِدْ فِي إِيمَانِنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 10/ محرم /1437هـ، الموافق: 23/تشرين الأول / 2015م

 2015-10-23
 1439
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 31 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 31
12-04-2024 657 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 657
09-04-2024 560 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 560
04-04-2024 679 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 679
28-03-2024 569 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 569
21-03-2024 1001 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1001

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412781651
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :