636ـ خطبة الجمعة: الابتلاء نعمة عظيمة

636ـ خطبة الجمعة: الابتلاء نعمة عظيمة

 

636ـ خطبة الجمعة: الابتلاء نعمة عظيمة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا عِبَادَ اللهِ: الإِنْسَانُ المُؤْمِنُ بِاللهِ تعالى، وَالمُؤْمِنُ بِقَدَرِهِ وَبِاليَوْمِ الآخِرِ لَا تُغَيِّرُ ثَوَابِتَهُ مِحْنَةٌ مُزَلْزِلَةٌ، وَلَا حَادِثَةٌ مُدَوِّيَةٌ، لِأَنَّهُ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ تعالى، وَلِأَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللهِ تعالى، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ تعالى كَفَاهُ، وَهُوَ حَسْبُهُ.

العَبْدُ المُؤْمِنُ بِاللهِ تعالى وَقَضَائِهِ وَيَوْمِ القِيَامَةِ، لَا يَفْرَحُ بِمَا أُوتِيَ، وَلَا يَأْسَى عَلى مَا فَاتَ وَلَا يَيْأَسْ مِما هُوَ آتٍ، لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِمَّنْ قَالَ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ﴾. فَهُوَ لَا يَكْرَهُ المُلِمَّاتِ الوَاقِعَةَ، لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئَاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. فَلَرُبَّ أَمْرٍ يَكْرَهُهُ العَبْدُ وَفِيهِ نَجَاتُهُ، وَلَرُبَّ أَمْرٍ يُحِبُّهُ وَفِيهِ عَطَبُهُ.

الابْتِلَاءُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنَ النِّعَمِ العَظِيمَةِ التي لَا يَعْرِفُ الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ قِيمَتَهَا، نِعْمَةُ الابْتِلَاءِ، فَالابْتِلَاءُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ يَمُنُّ اللهُ تعالى بِهَا عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، وَكُلَّمَا كَانَ المُؤْمِنُ إلى اللهِ تعالى أَقْرَبَ، قَدْ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ البَلَاءُ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ اللهِ تعالى مِنَ المُقَرَّبِينَ.

الابْتِلَاءُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ إِذَا اسْتَقْبَلَهُ المُؤْمِنُ بِالصَّبْرِ وَالاحْتِسَابِ عِنْدَ اللهِ تعالى، وَنَظَرَ إِلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ مُحِبٍّ لِمَحْبُوبِهِ، لِمَا روى الترمذي عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟

قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبَاً اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ».

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرَاً يُصِبْ مِنْهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

الابْتِلَاءُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ إِذَا صَبَرَ العَبْدُ وَاحْتَسَبَ، لِأَنَّهُ بِقَدْرِ الابْتِلَاءَاتِ تَرْتَفِعُ الرُّتَبُ، وَتَعْلُو الدَّرَجَاتُ في الجَنَّةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا صَاحِبَ الابْتِلَاءِ، كُنْ مُتَفَائِلَاً:

يَا عِبَادَ اللهِ: قُولُوا لِصَاحِبِ الابْتِلَاءِ: كُنْ مُتَفَائِلَاً وَشَاكِرَاً عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالمِحَنِ، لِأَنَّ الشَّدَائِدَ وَالمِحَنَ تَكْشِفُ طَبَائِعَ النَّاسِ وَمَعَادِنَهُمْ، وَلَوْلَا الشَّدَائِدُ لَمَا ظَهَرَتْ طَبَائِعُ النَّاسِ وَمَعَادِنُهُمْ، بَلْ يَبْقَى حَالُهُمْ مَسْتُورَاً.

بِالشَّدَائِدِ وَالابْتِلَاءَاتِ يَظْهَرُ المُسْتَقِيمُ مِنَ المُنْحَرِفِ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾. فَالشَّدَائِدُ وَالابْتِلَاءَاتُ تُظْهِرُ طَبِيعَةَ المُؤْمِنِ الذي يَقُولُ: إِلَهِي أَنْتَ مَقْصُودِي، وَرِضَاكَ مَطْلُوبِي؛ فَلَا يُغَيِّرُ وَلَا يُبَدِّلُ قَيْدَ أُنْمُلَةٍ، كَمَا تُظْهِرُ الدَّعِيَّ غَيْرَ الصَّادِقِ في الْتِزَامِهِ.

يَا صَاحِبَ الابْتِلَاءِ، لَا تَجْزَعْ:

يَا عِبَادَ اللهِ: قُولُوا لِصَاحِبِ الابْتِلَاءِ: لَا تَجْزَعْ لِحَوادِثِ الدَّهْرِ، لَا تَجْزَعْ، لِأَنَّ الجَزَعَ لَا يَرُدُّ المُصِيبَةَ بَلْ يُضَاعِفُهَا، وَلَا يُزِيلُ الهَمَّ بَلْ يَزِيدُهُ.

لَا تَجْزَعْ، لِأَنَّ الجَزَعَ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِ.

لَا تَجْزَعْ، لِأَنَّ الجَزَعَ لَا يُرْضِي الرَّبَّ تَبَارَكَ وتعالى، بَلْ يُرْضِي الشَّيْطَانَ.

لَا تَجْزَعْ، لِأَنَّ الجَزَعَ لَا يَسُرُّ الصَّدِيقَ، بَلْ يَسُرُّ العَدُوَّ.

لَا تَجْزَعْ، لِأَنَّ القَدَرَ وَقَعَ، فَإِنْ رَضِيتَ كُنْتَ عِنْدَ اللهِ مَحْمُودَاً، وَإِنْ لَمْ تَرْضَ ـ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ كُنْتَ عِنْدَ اللهِ مَذْمُومَاً.

لَا تَجْزَعْ، لِأَنَّ الجَزَعَ قَدْ يَكُونُ سَبَبَاً في الرِّدَّةِ، وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى، هَلْ نَسِيتَ أَيُّهَا المُؤْمِنُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَـسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ المُبِين﴾؟

لَا تَجْزَعْ وَلَكَ رَبٌّ عَظِيمٌ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لَا تَقُلْ: يَا رَبِّ إِنَّ الكَرْبَ عَظِيمٌ، وَلَكِنْ قِفْ سَحَرَاً وَقُلْ: يَا كَرْبُ لِيَ رَبٌّ عَظِيمٌ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: قُولُوا لِصَاحِبِ الابْتِلَاءِ: لَا تَنْظُرْ إلى ما أُخِذَ مِنْكَ، بَلِ انْظُرْ إلى مَا أَبْقَى اللهُ تعالى لَكَ، هَذَا سَيِّدُنَا عُرْوَةُ بْنُ الزَّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بُتِرَتْ رِجْلُهُ، وَفَقَدَ وَلَدَهُ، فَقَالَ: إِنْ أَخَذَ اللهُ عُضْوَاً فَقَدْ تَرَكَ أَعْضَاءً، وَإِنْ أَخَذَ وَلَدَاً فَقَدْ تَرَكَ أَوْلَادَاً.

لَا تَنْظُرْ إلى مَا أُخِذَ مِنْكَ، وَلَكِنْ انْظُرْ إلى مَا أَبْقَى اللهُ لَكَ، أَلَمْ يُبْقِ لَكَ لِسَانَاً ذَاكِرَاً، وَقَلْبَاً شَاكِرَاً، وَعَيْنَاً دَامِعَةً؟ أَلَمْ يُبْقِ لَكَ الإِيمَانَ الذي هُوَ سِرُّ سَعَادَتِكَ؟ أَلَمْ يَشْرَحْ صَدْرَكَ لِلْإِسْلَامِ؟ أَلَمْ يُبْقِ لَكَ الطَّاعَةَ التي هِيَ سَبَبٌ لِدُخُولِكَ الجَنَّةَ؟

أَمَّا أَنْتُمْ يَا أَصْحَابَ النِّعَمِ، يَا مَنْ تَرَوْنَ أَهْلَ الابْتِلَاءِ، تَسَاءَلُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَنْفُسِكُمْ: هَلْ أَنْتُمْ تَسْتَغِلُّونَ نِعْمَةَ اللهِ تعالى عَلَيْكُمْ فَتَكُونُونَ سَبَبَاً في تَفْرِيجِ كُرَبِهِمْ؟

فَرِّجْ يَا أَخِي كُرْبَةً عَنْ أَخِيكَ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، يُفَرِّجِ اللهُ عَنْكَ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، فَرِّجْ عَنْهُ مَا اسْتَطَعْتَ، وَاغْتَنِمْ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ قَبْلَ تَحَوُّلِهَا عَنْكَ، أَو تَحَوُّلِكَ عَنْهَا.

اللَّهُمَّ فَرِّجْ كَرْبَ كُلِّ مَكْرُوبٍ، وَاجْعَلْنَا سَبَبَاً لِتَفْرِيجِ كُرُوبِهِمْ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 12/ جمادى الأولى /1440هـ، الموافق: 18/ كانون الثاني / 2019م

 2019-01-18
 4245
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 38 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 38
12-04-2024 660 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 660
09-04-2024 560 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 560
04-04-2024 680 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 680
28-03-2024 570 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 570
21-03-2024 1001 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1001

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412807590
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :