303ـ كلمة الأسبوع: هل ينطبق علينا وصف المهاجرين؟

303ـ كلمة الأسبوع: هل ينطبق علينا وصف المهاجرين؟

 

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

لقدِ انطوى عامٌ هِجريٌّ كاملٌ من أعمارِنا، وهوَ شاهدٌ على أعمالِنا، اِنطوى هذا العامُ بالأعمالِ التي صَدَرت منَّا وهيَ مَحصِيَّةٌ علينا، قال تعالى:  ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾. وما ذاكَ إلا لِعرضِها علينا يومَ القيامةِ، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ﴾. ثمَّ يُقالُ لكلِّ عبدٍ فينا: ﴿اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾. فبأيِّ شيءٍ سيقضي كلُّ واحدٍ منَّا على نفسِهِ؟ ﴿بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه﴾.

صنِّف نفسَكَ:

يا عبادَ الله، عندما يأتي رأسُ السَّنةِ الهِجريَّةِ على الأمَّةِ المحمَّديَّةِ، الكلُّ يبدأ بذِكرِ الهِجرةِ النَّبويَّةِ الشَّريفةِ، وبذكرِ هِجرةِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهُم إلى المدينةِ المنوَّرةِ، وبذكرِ الأنصارِ الذين استقبلوا إخوانَهُمُ المهاجرين، ويترنَّمُ بالآياتِ الكريمةِ التي تتحدَّثُ عن المهاجرينَ والأنصارِ، وذلك من خلالِ قولِهِ تباركَ وتعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾.

ويقولُ كلُّ واحدٍ منَّا هؤلاءِ همُ المُهاجِرونَ الذينَ شَهِدَ اللهُ تعالى لهُم بالصِّدقِ، وهؤلاءِ همُ الأنصارُ الذينَ شَهِدَ اللهُ تعالى لهُم بالفلاحِ، والكثيرُ منَّا لا يُتابِعُ الآياتِ الكريمةِ التي جاءت بعدَ ذِكرِ المُهاجِرينَ والأنصارِ، حيثُ يقولُ اللهُ تبارَكَ وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم﴾.

يا عبادَ الله، لِيَسألْ كلُّ واحِدٍ منَّا نفسهُ هل ينطبقُ علينا وصفُ المُهاجِرينَ؟ هل فيه وصفُ المهاجرين؟

وصفُ المهاجرين:

يا عبادَ الله، لقد أُخرِجَ المُهاجِرونَ من دِيارِهِم وأموالِهِم من غيرِ ذنبٍ إلا أنَّهُم آمنوا بربِّهِم، كما قال تعالى: ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بالله رَبِّكُمْ﴾. وكما قال تعالى: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَن يُؤْمِنُوا بالله الْعَزِيزِ الْحَمِيد﴾.

ما أخرِجوا من دِيارِهِم وأموالِهِم بسببِ المُوبِقاتِ من كُفرٍ وسبٍّ للذَّاتِ الإِلهيَّةِ، وسبٍّ للمقامِ المُحمَّديِّ، ولا بسببِ الرِّبا وانتشارِ الرِّشوَةِ والزِّنا، ولا بسببِ سُفورِ نسائِهِم واختلاطِ الرِّجالِ بالنِّساءِ، ولا بسبَبِ تركِهِمُ الصَّلاةَ والصِّيامَ والزَّكاةَ، بل أُخرِجوا بسبَبِ إيمانِهِمُ الصَّادقِ، حيث تطابَقت أفعالُهم مع إيمانِهم.

يا عبادَ الله، لقد وَصَفَهُمُ اللهُ تعالى:

أولاً: بقوله تعالى: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّن الله وَرِضْوَاناً﴾. يبحثونَ ويطلبونَ من الله تعالى أن يُعامِلَهُم بالفضلِ لا بالعَدلِ، لأنَّهُم عَرَفوا بأنَّ الإيمانَ نِعمةٌ من الله تعالى عليهِم، وعَرَفوا بأنَّ الإسلامَ نِعمةٌ من الله تعالى عليهم، فما كانَ إيمانُهُم وشرحُ صُدورِهِم للإسلامِ إلا بفضلٍ من الله تعالى، ألم يقل الله تعال لهم: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُون﴾؟  ألم يقل الله تعال لهم: ﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾؟ فأيُّ مَثوبةٍ يطلُبونَها من الله تعالى على عَمَلِهِمُ الصَّالحِ الذي هوَ نِعمةٌ من الله تعالى عليهم يستحقُّ الشُّكرَ عليها؟

لقد عَرَفوا من سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وُجوبَ الطَّاعةِ، ووُجوبَ امتِثالِ الأمرِ، بفعلِ المأموراتِ وبتركِ المحظوراتِ، ثمَّ السُّؤالَ لله تعالى أن يُعامِلَهُم بالفضلِ، وذلكَ من خلالِ بيانِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لهم بقوله: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَداً الْجَنَّةَ عَمَلُهُ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ» رواه الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها.

يا عبادَ الله، المهاجرونَ التَزموا دِينَ الله تعالى، وأُخرِجوا من دِيارِهِم وأموالِهِم بغيرِ حقٍّ فَصَبروا وطَلَبوا من الله تعالى أن يُعامِلَهُم بالفضلِ، وأن ينالوا منه الرِّضا، أن ينالوا منه نظرةَ رِضا، وكأنَّ لسانَ حالِهِم يقولُ:

فَلَيتَكَ تحــلو والحياةُ مَــريرةٌ     ***     وَلَيتَكَ تَرضى والأنامُ غِضابُ

وَلَيتَ الذي بيني وبينَكَ عامِرٌ     ***     وبيني وبينَ الـعالمينَ خَــرابُ

ثانياً: وَصَفَهُمُ اللهُ تعالى بقوله: ﴿وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾. مع الشِّدَّةِ التي مرَّت عليهم، مع الظُّلمِ الذي وَقَعَ عليهم، مع إخراجِهِم من دِيارِهِم وأموالِهِم، مع التَّفريقِ بينَهُم وبينَ أُصولِهِم وفُروعِهِم وأزواجِهِم، ونُصرةُ الله تعالى لهم كانت بالتِزامِ القرآنِ العظيمِ بتحليلِ حلالِهِ وبتحريمِ حرامِهِ، ونُصرةُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بتطبيقِ سُنَّتِهِ مع هذهِ الشِّدَّةِ والابتِلاءاتِ.

يا عبادَ الله، هكذا كانَ وصفُهُم فاستحقُّوا شهادةَ الله تعالى لهم بقوله: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون﴾. وهذا خَبَرٌ من الله تعالى لا يقبلُ النَّسخَ.

خاتمةٌ نسألُ اللهَ تعالى حسنها:

يا عبادَ الله، أينَ نحنُ من هؤلاءِ الصَّادقين؟ أينَ نحنُ من الالتزامِ بكتابِ الله تعالى وبسُنَّةِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ أينَ نحنُ من الإخلاصِ في الأعمالِ؟ أينَ نحنُ من رجائنا لله تعالى أن يُعامِلَنا بالفضلِ بعدَ الاستقامةِ؟ أينَ نحنُ من نُصرةِ الله تعالى ورسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الشَّدائِدِ والمِحَنِ؟

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 9/محرم/1433هـ، الموافق: 23/تشرين الثاني/ 2012م

 2012-11-23
 73368
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 133 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 133
12-04-2024 759 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 759
09-04-2024 589 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 589
04-04-2024 703 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 703
28-03-2024 606 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 606
21-03-2024 1061 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1061

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413107277
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :