439ـ خطبة الجمعة: حتى تكون حياتك مستقرة

439ـ خطبة الجمعة: حتى تكون حياتك مستقرة

 

 439ـ خطبة الجمعة: حتى تكون حياتك مستقرة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، لا يَتِمُّ إِيمَانُ العَبدِ حَتَّى يُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ أَنَّهُ من اللهِ تعالى، وأَنَّهُ لا يَكُونُ شَيْءٌ في الكَوْنِ كُلِّهِ إلا مَا قَدَّرَهُ اللهُ تعالى.

كُلُّ مَا يَجْرِي في هذا الكَوْنِ بِشَكْلٍ عَامٍّ، وفي حَيَاةِ الإِنسَانِ بِشَكْلٍ خَاصٍّ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ في تَصَوُّرِ الإِنسَانِ أَنَّهُ آتٍ من عِنْدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فَهُوَ الذي خَلَقَ وبَرَأَ وقَدَّرَ، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ في تَصَوُّرِهِ أَنَّهُ آتٍ من عِنْدِ غَيْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ.

المُؤْمِنُ الحَقُّ هوَ الذي أَيْقَنَ بِأَنَّهُ مَا من شَيْءٍ في هذا الوُجُودِ يَجْرِي إلا بِأَمْرِ اللهِ تعالى، لأَنَّهُ يَعْتَقِدُ اعْتِقَادَاً جَازِمَاً بِأَنَّ المُتَصَرِّفَ الوَحِيدَ في هذا الوُجُودِ هوَ اللهُ تعالى وَحْدَهُ.

صِلَةُ المُؤْمِنِ بِكِتَابِ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ:

يَا عِبَادَ اللهِ، مَن حَقَّقَ صِلَتَهُ بِكِتَابِ اللهِ عزَّ وجلَّ زَادَ إِيمَانُهُ باللهِ تعالى، وزَادَ إِيمَانُهُ بِأَنَّ مُقَدِّرَ الأَشْيَاءِ إِنَّمَا هوَ اللهُ عزَّ وجلَّ، قَالَ تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾.

وقَالَ تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

وقَالَ تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾.

وقَالَ تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابَاً مُؤَجَّلَاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾.

وقَالَ تعالى: ﴿اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾.

وقَالَ تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ* وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾.

حَتَّى تَكُونَ حَيَاتُكَ مُسْتَقِرَّةً:

يَا عِبَادَ اللهِ، مَن أَرَادَ أَنْ تَكُونَ حَيَاتُهُ مُسْتَقِرَّةً، فَعَلَيهِ بالإِيمَانِ بالقَضَاءِ والقَدَرِ، مَن أَرَادَ أَنْ تَكُونَ حَيَاتُهُ مُسْتَقِرَّةً، فَعَلَيهِ أَنْ يَأْخُذَ بالأَسْبَابِ، ثمَّ لِيَتَوَكَّلْ على رَبِّ الأَرْبَابِ، ومَن تَأَمَّلَ حَيَاةَ الهَادِي البَشِيرِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَإِنَّهُ يَجِدُ حَيَاتَهُ مُسْتَقِرَّةً آمِنَةً، حَيَاةٌ فِيهَا الإِيمَانُ وفِيهَا العَمَلُ، حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ لَيسَ فِيهَا أَمْرَاضٌ عَصِيَّةٌ ولا تَعَبٌ ولا أَحْزَانٌ تَفُتُّ عَضُدَ الإِنسَانِ.

لقد قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في أَحْلِكَ الظُّرُوفِ: «إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنْ عَافِيَتُك هِيَ أَوْسَعُ لِي».

وقَالَ: «يَا زَيْدُ، إنَّ اللهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرْجَاً وَمَخْرَجَاً، وَإِنَّ اللهَ نَاصِرٌ دِينَهُ، وَمُظْهِرٌ نَبِيَّهُ».

وأَرْسَلَ لابْنَتِهِ عِنْدَمَا وَقَعَ وَلَدُهَا في سِيَاقِ المَوْتِ: «إِنَّ للهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّىً، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» رواه الإمام البخاري عَن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

إِنَّهَا حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ آمِنَةٌ بِبَرَكَةِ الإِيمَانِ بالقَضَاءِ والقَدَرِ.

سَلَفُنَا الصَّالِحُ وإِيمَانُهُم بالقَضَاءِ والقَدَرِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، سَلَفُنَا الصَّالِحُ عِنْدَمَا آمَنُوا بالقَضَاءِ والقَدَرِ، عَاشُوا عِيشَةَ السُّعَدَاءِ، فهذا سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَقُولُ عَن نَفْسِهِ: مَا أَصْبَحَ لي هَوَىً في شَيْءٍ سِوَى مَا قَضَى اللهُ عزَّ وجلَّ.

وهَل تَعْلَمُونَ لماذا وَصَلَ إلى هذا المَقَامِ؟ لأَنَّهُ كَانَ يَدْعُو مَا عَلَّمَنَا إِيَّاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ رَضِّنِي بِمَا قَضَيْتَ لِي، وَعَافِنِي فِيمَا أَبْقَيْتَ حَتَّى لا أُحِبَّ تَعْجِيلَ مَا أَخَّرْتَ، ولا تَأْخِيرَ مَا عَجَّلْتَ» رواه ابنُ السُّنِّيِّ عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.

يَا عِبَادَ اللهِ، يَقُولُ سَيِّدُنَا الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يُصْبِحُ المُؤْمِنُ حَزِينَاً، وَيُمْسِي حَزِينَاً، وَيَنْقَلِبُ في النَّوْمِ، وَيَكْفِيهِ مَا يَكْفِي العُنَيْزَةَ. اهـ. رواه البيهقي. فلماذا الأَحْزَانُ والأَكْدَارُ؟

ويَقُولُ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: يا ابْنَ آدَمَ، لا تَأْسَفْ على مَفْقُودٍ لا يَرُدُّهُ عَلَيكَ الفَوْتُ، ولا تَفْرَحْ بِمَوْجُودٍ لا يَتْرُكُهُ في يَدَيْكَ المَوْتُ. رواه البيهقي.

لا تَحْزَنْ يَا عِبْدَ اللهِ على مَا فَاتَ، فَهُوَ لَنْ يَأْتِيكَ أَبَدَاً، ولا تَفْرَحْ بِشَيْءٍ مَوْجُودٍ، لأَنَّ المَوْتَ أَمَامَكَ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، مَن آمَنَ باللهِ تعالى، وآمَنَ بالقَضَاءِ والقَدَرِ اسْتَرَاحَ، وإلا شَقِيَ ولَنْ يَأْتِيَهُ إلا مَا قُدِّرَ لَهُ، والعَاقِلُ البَصِيرُ هوَ الذي يَعْرِفُ ذلكَ.

اللَّهُمَّ رَضِّنَا بِقَضَائِكَ، وبَارِكْ لَنَا فِيمَا قَدَّرْتَهُ لَنَا، حَتَّى لا نُحِبَّ تَعْجِيلَ مَا أَخَّرْتَ، ولا تَأْخِيرَ مَا عَجَّلْتَ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 18/شعبان /1435هـ، الموافق: 5/ حزيران / 2015م

 2015-06-05
 2410
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 27 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 27
12-04-2024 652 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 652
09-04-2024 557 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 557
04-04-2024 678 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 678
28-03-2024 568 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 568
21-03-2024 1000 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1000

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412758257
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :