557ـ خطبة الجمعة: عقل صريح ونقل صحيح لا يتعارضان
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، كَمَا كَانَ يَنْزِلُ بِالقُرْآنِ العَظِيمِ، قَالَ تعالى مُبَيِّنَاً هَذَا: ﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمَاً﴾. قَالَ تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.
وَقَدْ أَكَّدَ هَذَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ، وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ، وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ، إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ» رواه أبو داود عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
تَقْدِيمُ النَّقْلِ عَلَى العَقْلِ:
يَا عِبَادَ اللهِ: مَنْ أَرَادَ سَلَامَةَ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ للهِ تعالى، وَلِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يُسَلِّمَ للِكِتَابِ وَالسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، وَأَنْ لَا يَعْتَرِضَ عَلَيْهَا بِالشُّكُوكِ وَالشُّبَهِ وَالتَّأْوِيلَاتِ الفَاسِدَةِ، أَو أَنْ يَقُولَ: العَقْلُ لَا يَقْبَلُ مَا ثَبَتَ بِالنَّقْلِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: وَاللهِ مُسْتَحِيلٌ وَأَلْفُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يَتَعَارَضَ العَقْلُ مَعَ مَا ثَبَتَ بِالنَّقْلِ، مُسْتَحِيلٌ وَأَلْفُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يَتَعَارَضَ العَقْلُ المُنْصِفُ البَعِيدُ عَنِ الاسْتِكْبَارِ وَالعِنَادِ وَالاسْتِعْلَاءِ مَعَ مَا ثَبَتَ بِالنَّقْلِ.
الوَاجِبُ عَلَى المُسْلِمِ الذي يُرِيدُ سَلَامَةَ دِينِهِ كَمَالُ التَّسلِيمِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يَتَلَقَّى خَبَرَهُ بِالقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى حَذَرٍ مِنْ تَقْدِيمِ آرَاءِ الرِّجَالِ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالنَّقْلِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: دِينُنَا هُوَ اتِّبَاعٌ وَتَسْلِيمٌ ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً﴾. وَلَوْ كَانَ العَبْدُ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا بِمَا يَقْبَلُهُ عَقْلُهُ لَمَا دَخَلَ في دِينِ اللهِ تعالى، لِأَنَّ العُقُولَ مُخْتَلِفَةٌ، عَقْلٌ لَا يَقْبَلُ بِعَذَابِ القَبْرِ فَيُنْكِرُهُ، وَعَقْلٌ لَا يَتَصَوَّرُ نُزُولَ الوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ فَيُنْكِرُهُ، وَعَقْلٌ لَا يَتَصَوَّرُ الإِسْرَاءَ وَالمِعْرَاجَ فَيُنْكِرُهُ، وَعَقْلٌ لَا يَتَصَوَّرُ الرَّسُولَ مِنَ البَشَرِ فَيُنْكِرُهُ، وَعَقْلٌ لَا يَتَصَوَّرُ وُجُودَ الجِنِّ وَالمَلَائِكَةِ فَيُنْكِرُ ذَلِكَ، وَعَقْلٌ لَا يُصَدِّقُ الحَدِيثَ الشَّرِيفَ فَيُنْكِرُهُ، وَعَقْلٌ يَقُولُ: لَا دَاعِيَ للسُّنَّةِ فَالقُرْآنُ يَكْفِينَا فَيُنْكِرُ السُّنَّةَ؛ كَمْ وَكَمْ مِنْ آرَاءَ تُوَاجِهُ دِينَ اللهَ تعالى؟
فَالمُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي يُدَقِّقُ في النَّقْلِ الصَّادِقِ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَيُؤْمِنُ وَيُصَدِّقُ وَإِنْ خَالَفَ العَقْلَ إِذَا ثَبَتَ النَّقْلُ، وَكَمَا قُلْتُ: مُسْتَحِيلٌ وَأَلْفُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يَتَنَاقَضَ العَقْلُ مَعَ النَّقْلِ الصَّحِيحِ.
عَقْلٌ صَرِيحٌ وَنَقْلٌ صَحِيحٌ لَا يَتَعَارَضَانِ:
يَا عِبَادَ اللهِ: العَقْلُ الصَّرِيحُ وَالنَّقْلُ الصَّحِيحُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ، وَأَيُّ عَقْلٍ يَكُونُ حَاكِمَاً عَلَى كَلَامِ اللهِ تعالى، وَكَلَامِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهُمَا المَحْفُوظَانِ؟
يَا عِبَادَ اللهِ: نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى إِيمَانٍ كَامِلٍ كَإِيمَانِ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، مَا كَانَ أَحَدُهُمْ يُحَكِّمُ عَقْلَهُ في كَلَامِ اللهِ تعالى، وَلَا في كَلَامِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَانَ شِعَارُهُمْ إِنْ كَانَ قَالَهَا فَقَدْ صَدَقَ.
روى الإمام الحاكم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَسْجِدِ الْأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَعَى بِذَلِكَ رِجَالٌ مِنَ الُمشرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ.
قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟
قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ.
قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟
قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لَأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ؛ فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ.
يَا عِبَادَ اللهِ: شِعَارُ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ إِنْ كَانَ قَالَهَا فَقَدْ صَدَقَ، قَبِلَ العَقْلُ أَمْ لَمْ يَقْبَلْ، لِأَنَّ العُقُولَ مَحْدُودَةٌ وَمُتَفَاوِتَةٌ؛وَلَا يُمكِنُ تَحكِيمُ العَقلِ فِي الأُمُورِ الغَيبِيَةِ لِأَنَّهَا خَارِجَ طَاقَةِ العَقلِ؛ فَشِعَارُ المُؤْمِنِ إِنْ صَحَّ النَّقْلُ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا؛ وَكَلِمَةُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَحْفَظُهَا الجَمِيعُ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ. رواه أبو داود.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: رَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:
تَمَسَّكْ بِـحَـبْلِ اللهِ وَاتَّبِـعِ الْهُدَى *** وَلَا تَـكُ بِـدْعِـيَّاً لَـعَـلَّـكَ تُفْلِحُ
وَلُذْ بِكِتَابِ اللهِ وَالـسُّـنَـنِ الَّتِي *** أَتَتْ عَنْ رَسُولِ اللهِ تَنْجُو وَتَرْبَحُ
وَدَعْ عَنْكَ آرَاءَ الرِّجَالِ وَقَوْلَهُمْ *** فَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ أَزْكَـى وَأَشْـرَحُ
لِيَحْذَرِ المُسْلِمُ مِنْ غِوَايَةِ تَحْكِيمِ العَقْلِ في النَّصِّ الثَّابِتِ، فَيَقُولُ: السَّنَدُ صَحِيحٌ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ النَّظَرِ في المَتْنِ؛ وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِ هَذَا العَبْدِ يَقُولُ: اعرِضُوا كَلَامَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى العَقلِ، فإِنْ قَبِلَهُ فَخُذُوهُ، وَإِلَّا فَدَعُوهُ.
آرَاؤُنَا وَعُقُولُنَا غَيْرُ مَعْصُومَةٍ، أَمِنَ المَعْقُولِ أَنْ تَكُونَ حَاكِمَةً عَلَى كَلَامِ المَعصُومِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
يَا رَبِّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا وَعُقُولَنَا، وَاجْعَلْنَا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 12/ ذو القعدة /1438هـ، الموافق: 4/ آب / 2017م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد
هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد
هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد
شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد
لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد