مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم
84ـ من حكم ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الحِكْمَةُ نِعْمَةٌ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ تعالى يُسْبِغُهَا اللهُ تعالى على مَنْ أَحَبَّ مِنْ عِبَادِهِ، وَهِيَ أَعْظَمِ المِنَحِ وَالعَطَايَا لِمَنْ يَدْعُو إلى اللهِ تعالى، فَالسَّعِيدُ مِنَ العِبَادِ وَالدُّعَاةِ خَاصَّةً مَنْ رَزَقَهُ اللهُ تعالى الحِكْمَةَ، لِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى قَالَ لِسَيِّدِ العُبَّادِ وَالدُّعَاةِ: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا رَزَقَ اللهُ تعالى العَبْدَ الحِكْمَةَ، فَإِنَّهَا تَمْنَعُهُ مِنْ أَخْلَاقِ الأَرْذَالِ، لِأَنَّ الحِكْمَةَ في أَصْلِهَا وَضَعُ الأَشْيَاءِ في مَوَاضِعِهَا، وَالحِكْمَةُ تَسْتَجْلِبُ الخَيْرَ الكَثِيرَ، قَالَ تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرَاً كَثِيرَاً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. فَالخَيْرُ الكَثِيرُ يَجْلِبُهُ صَوَابُ القَوْلِ وَسَدَادُ الرَّأْيِ، مَعَ مَا يَكْتُبُ اللهُ تعالى مِنْ هِدَايَةٍ وَتَوْفيقٍ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِمَّنْ آتَاهُ اللهُ تعالى الحِكْمَةَ سَيِدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَهُ: «اللَّهُمَّ آتِهِ الْحِكْمَةَ» رواه الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ.
مِنْ حِكَمِ سَيِّدِنَا عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ عَاشَ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً، مَلَأَ فِيهَا الدُّنْيَا عِلْمَاً وَفِقْهَاً وَتُقَىً وَحِكْمَةً، فَقَدَّمَ صَالِحَاً، وَتَرَكَ ذِكْرَاً صَالِحَاً، تَرَكَ للأُمَّةِ كَنْزَاً عَظِيمَاً؛ مِنْ حِكَمِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
1ـ لَوْ أَنَّ العُلَمَاءَ أَخَذُوا العِلْمَ بِحَقِّهِ لَأَحَبَّهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالمَلَائِكَةُ وَالصَّالِحُونَ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَهَابَهُمُ النَّاسُ، لِفَضْلِ العِلْمِ وَشَرَفِهِ. /رواه ابن عساكر.
2ـ مَنْ حَلُمَ سَادَ، وَمَنْ تَفَهَّمَ ازْدَادَ. /كتاب أَنْسَابِ الأَشْرَافِ.
3ـ إِيَّاكَ وَالْكَلَامَ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ، فَإِنَّهُ فَضْلٌ، وَلَا آمَنُ عَلَيْكَ فِيهِ مِنَ الوِزْرِ، وَإِيَّاكَ فِي الْكَلَامِ فِيمَا يَعْنِيكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ؛ فَرُبَّ مُسْلِمٍ تَقِيٍّ قَدْ تَكَلَّمَ بِمَا يَعْنِيهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَتَعِبَ؛ وَلا تُمَارِ سَفِيهَاً وَلَا حَلِيمَاً، فَإِنَّ السَّفِيهَ يُؤْذِيكَ، وَإِنَّ الْحَلِيمَ يُقْلِيكَ، وَاذْكُرْ أَخَاكَ فِي غِيبَتِهِ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَذْكُرَكَ بِهِ، وَدَعْهُ مِمَّا تُحِبُّ أَنْ يَدَعَكَ مِنْهُ. /كتاب أنساب الأشراف.
4ـ لِجَلِيسِي عِنْدِي ثَلاثٌ: إِذَا أَقْبَلَ رَحَّبْتُ بِهِ، وَإِذَا قَعَدَ أَوْسَعْتُ لَهُ، وَإِذَا تَحَدَّثَ أَنْصَتُّ لِحَدِيثِهِ وَاسْتَمَعْتُ مِنْهُ. / كتاب أَنْسَابِ الأَشْرَافِ.
5ـ خُذِ الْحِكْمَةَ مِمَّنْ سَمِعْتَ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالحِكْمَةِ وَلَيْسَ بِحَكِيمٍ، فَتَكُونُ كَالرَّمْيَةِ خَرَجَتْ مِنْ غَيْرِ رَامٍ. /كتاب صفة الصفوة.
6ـ لَأَنْ أَعُولَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ المُسْلِمِينَ شَهْرَاً أَوْ جُمُعَةً أَوْ مَا شَاءَ اللهُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حَجَّةٍ بَعْدَ حَجَّةٍ، وَلَطَبَقٌ بِدَانقٍ أُهْدِيهِ إِلَى أَخٍ لِي فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ دِينَارٍ أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. /صفة الصفوة.
7ـ إِنْ كُنْتُ لَأَسْأَلُ عَنِ الْأَمْرِ الْوَاحِدِ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. /كتاب البداية والنهاية.
8ـ يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ، لَا تَأْمَنْ عَاقِبَةَ ذَنْبِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ نَفْسِهِ، فَإِنَّ عَدَمَ اسْتِحْيَائِكَ مِمَّنْ عَلَى يَمِينِكَ وَعَلَى شِمَالِكَ وَأَنْتَ تَقْتَرِفُ الذَّنْبَ لَا يَقِلُّ عَنِ الذَّنْبِ.
وَإِنَّ ضَحِكَكَ عَنْدَ الذَّنْبِ وَأَنْتَ لا تَدْرِي مَا اللهُ صَانِعٌ بِكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ.
وَإِنَّ حُزْنَكَ عَلَى الذَّنْبَ إِذَا فَاتَكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ.
وَإِنَّ خَوْفَكَ مِنَ الرِّيحِ إِذَا حَرَّكَتْ سِتْرَكَ وَأَنْتَ تَرْتَكِبُ الذَّنْبِ مَعَ كَوْنِكَ لَا يَضْطَرِبُ فُؤَادُكَ مِنْ نَظَرِ اللهِ إِلَيْكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ.
يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ، مَا كَانَ ذَنْبُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَابْتَلَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِجَسَدِهِ وَمَالِهِ إِنَّمَا كَانَ ذَنْبُهَ أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِ مِسْكِينٌ لِيَدْفَعَ عَنْهُ الظُّلْمَ فَلَمْ يُعِنْهُ. /كتاب موارد الظمآن.
9ـ قَالَ جُنْدُبُ لابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَوْصِنِي بِوَصِيَّةٍ.
قَالَ: أُوصِيكَ بِتَوْحِيدِ اللِه، وَالعَمَلِ لَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ كُلَّ خَيْرٍ أَنْتَ آتِيهِ بَعْدَ هَذِهِ الخِصَالِ مِنْكَ مَقْبُولٌ، وَإِلَى اللهِ مَرْفُوعٌ.
يَا جُنْدُبُ، إِنَّكَ لَنْ تَزْدَادَ مِنْ يَوْمِكَ إِلَّا قُرْبَاً، فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَأَصْبِحْ في الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ مُسَافِرٌ، فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِ القُبُورِ، وَابْكِ على ذَنْبِكَ، وَتُبْ مِنْ خَطِيئَتِكَ، وَلْتَكُنِ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيْكَ مِنْ شِسْعِ نَعْلَيْكَ-مَا يُشَّدُ بِهِ النَّعْلُ-، وَكَأَنْ قَدْ فَارَقْتَهَا، وَصِرْتَ إلى عَدْلِ اللهِ، وَلَنْ تَنْتَفِعَ بِمَا خَلَّفْتَ، وَلَنْ يَنْفَعَكَ إِلَّا عَمَلُكَ. /رواه ابن عساكر.
وَقَالَ ابْنُ بُرَيْدَةَ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ آخِذَاً بِلِسَانِهِ وَهُوَ يَقُولُ: وَيْحَكَ، قُلْ خَيْرَاً تَغْنَمْ، أَوِ اسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ، وَإِلَّا فَاعْلَمْ أَنَّكَ سَتَنْدَمْ.
فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، لِمَ تَقُولُ هَذَا؟!
قَالَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ الإِنْسَانَ لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ أَشَدُّ حَنْقَاً-حِقْدَاً- أَوْ غَيْظَاً يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْهُ عَلَى لِسَانِهِ إِلَّا قَالَ بِهِ خَيْرَاً أَوْ أَمْلَى بِهِ خَيْرَاً. /رواه ابن عساكر.
10ـ لَا يَتِمُّ المَعْرُوفُ إِلَّا بِثَلَاثَةٍ: تَعْجِيلِهِ، وَتَصْغِيرِهِ عِنْدَهُ، وَسَتْرِهِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا عَجَّلَهُ هَيَّأَهُ، وَإِذَا صَغَّرَهُ عَظَّمَهُ، وَإِذَا سَتَرَهُ فَخَّمَهُ. /رواه ابن عساكر.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَالِمَاً عَامِلَاً تَقِيَّاً نَقِيَّاً، حَرِيصَاً على آخِرَتِهِ، وَلِشِدَّةِ إِيمَانِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا سَقَطَ فِي عَيْنَيْهِ المَاءُ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ عَيْنَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تَسْتَلْقِي سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَا تُصَلِّي إِلَّا مُسْتَلْقِيَاً.
فَكَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُصَلِّيَ لَقِيَ اللهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. رواه البيهقي عَنْ عِكْرِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَعَطَّفَ قَلْبَهُ الشَّرِيفَ عَلَيْنَا، وَحَشَرَنَا مَعَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ تَحْتَ لِوَاءِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الخميس: 9/ ربيع الأول /1438هـ، الموافق: 8/كانون الأول / 2016م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى الوُقُوفِ أَمَامَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ... المزيد
الحِرْصُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالأَوْلَادِ مَطْلَبٌ مِنْ مَطَالِبِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ الأَبَوَيْنِ مَسْؤُولَانِ عَنِ الذُّرِّيَّةِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً وَقُودُهَا النَّاسُ ... المزيد
إِنَّ اللهَ تعالى سَيَسْأَلُ عَنْ صُحْبَةِ سَاعَةٍ، فَهَلِ الوَاحِدُ مِنَّا حَرِيصٌ عَلَى صَاحِبِهِ يُذَكِّرُهُ بِاللهِ تعالى؟ لِأَنَّ الذي يَصْطَفي لِنَفْسِهِ صَاحِبَاً فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُبِّهِ لِصَاحِبِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ صَاحِبَهُ في ... المزيد
لَقَدْ طَبَعَ اللهُ تعالى الإِنْسَانَ عَلَى حُبِّ المَالِ، وَجَعَلَهُ مِنِ زِينَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابَاً وَخَيْرٌ ... المزيد
إِنَّ حُبَّ اللهِ تعالى، وَحُبَّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِيَانِ للإِنْسَانِ الكَمَالَ وَالشَّرَفَ وَالعِزَّةَ وَالرِّفْعَةَ وَالمَكَانَةَ، بَلْ يُعْطِيَانِ الُمؤْمِنَ القُدْرَةَ ... المزيد
زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَعُدَّةُ الزَّمَانِ بَعْدَ اللهِ تعالى الشَّبَابُ النَّاشِؤُونَ في طَاعَةِ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، الذينَ تَكَادُ أَنْ لَا تَعْرِفَ لَهُمْ زَلَّةً، أَو تُعْهَدَ عَنْهُمْ صَبْوَةٌ، الذينَ يَتَسَابَقُونَ في مَيَادِينِ ... المزيد