604ـ خطبة الجمعة: عرفتم فالزموا

604ـ خطبة الجمعة: عرفتم فالزموا

 

604ـ خطبة الجمعة: عرفتم فالزموا

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: مَا أَقْصَرَ الأَيَّامَ، وَمَا أَسْرَعَ مُرُورَهَا وَانْقِضَاءَهَا، بِالأَمْسِ كُنَّا نَقُولُ مَتَى يَدْخُلُ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَهَا هُوَ دَخَلَ وَخَرَجَ، وَكَأَنَّ شَيْئَاً لَمْ يَكُنْ، وَهَكَذَا سُنَّةُ اللهِ تعالى في خَلْقِهِ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ شَيْءٍ بِدَايَةٌ وَنِهَايَةٌ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾.

هَا هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَدْ رَحَلَ وَهُوَ حُجَّةٌ وَشَاهِدٌ لِبَعْضِنَا، وَحُجَّةٌ وَشَاهِدٌ عَلَى الآخَرِينَ، هَا هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَدْ رَحَلَ بِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِ بَعْضِ خَلْقِ اللهِ تعالى، وَبِبُعْدِ بَعْضِهِمْ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى حَتَّى يَتُوبُوا، وَأَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ لَا يَمُوتُوا حَتَّى يَتُوبُوا.

عَرَفْتُم فَالْزَمُوا:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا مَنْ رَحَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ عَنْكُمْ، وَهُوَ شَاهِدٌ وَحُجَّةٌ لَكُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى، حَيْثُ أُمِرْتُمْ بِالصِّيَامِ فَصُمْتُمْ، وَأُمِرْتُمْ بِالقِيَامِ فَقُمْتُمْ، وَأَطَعْتُمْ رَبَّكُمْ، وَقَبَضْتُمْ جَوَائِزَكُمْ، اسْتَغِلُّوا بَقِيَّةَ أَيَّامِ عُمُرِكُم في الطَّاعَاتِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾.

فَيَا مَنْ صَامَ وَأَحْسَنَ الصَّوْمَ، تَابِعْ صِيَامَ الأَيَّامِ المَسْنُونَةِ بَعْدَ رَمَضَانَ، وَقُلْ: يَا رَمَضَانُ، جَزَاكَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ خَيْرَ الجَزَاءِ، حَيْثُ دَرَّبْتَنَا شَهْرَاً كَامِلَاً عَلَى الصِّيَامِ.

وَيَا مَنْ قَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ، تَابِعِ القِيَامَ بَعْدَ رَمَضَانَ، وَقُلْ: يَا رَمَضَانُ، جَزَاكَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ خَيْرَ الجَزَاءِ، حَيْثُ دَرَّبْتَنَا شَهْرَاً كَامِلَاً عَلَى القِيَامِ.

وَيَا مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ في شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ، وَأَحْسَنَ التِّلَاوَةَ وَأَكْثَرَ مِنْهَا، تَابِعْ بَعْدَ رَمَضَانَ تِلَاوَةَ القُرْآنِ، وَقُلْ: يَا رَمَضَانُ، جَزَاكَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ خَيْرَ الجَزَاءِ، حَيْثُ دَرَّبْتَنَا شَهْرَاً كَامِلَاً عَلَى تِلَاوَةِ كِتَابِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ.

وَيَا مَنْ بَذَلَ وَأَحْسَنَ العَطَاءَ في شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَكْثَرَ مِنْهُ، تَابِعْ بَعْدَ رَمَضَانَ البَذْلَ وَالعَطَاءَ، وَقُلْ: يَا رَمَضَانُ، جَزَاكَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ خَيْرَ الجَزَاءِ، حَيْثُ دَرَّبْتَنَا شَهْرَاً كَامِلَاً عَلَى البَذْلِ وَحُسْنِ العَطَاءِ.

يَا مَنْ رَحَلَ عَنْكَ شَهْرُ رَمَضَانَ وَقَدْ وَدَّعْتَهُ وَدَاعَ الحَبِيبِ للحَبِيبِ، وَعَاهَدتَ اللهَ تعالى عَلَى الاسْتِقَامَةِ عَلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ في شَهْرِ رَمَضَانَ أَقُولُ لَكَ: أَبْشِرْ بِالخَيْرِ العَظِيمِ إِنْ دَاوَمْتَ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْمَعْ إلى حَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى البيهقي عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟».

قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنَاً حَقَّاً.

قَالَ: «انْظُرْ مَا تَقُولُ، إِنَّ لِكُلُّ حَقٍّ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟».

قَالَ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزَاً، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا.

قَالَ: «يَا حَارِثَةُ، عَرَفْتَ فَالْزَمْ» ـ قَالَهَا ثَلَاثَاً ـ.

فَيَا مَنْ ذُقْتُم لَذَّةَ العُبُودِيَّةِ للهِ تعالى، عَرَفْتُم فَالْزَمُوا، يَا مَنْ شَرَحَ اللهُ صُدُورَكُمْ للإِسْلَامِ، وَحَبَّبَ إلى قُلُوبِكُمُ الإِيمَانَ، وَعِشْتُم نَفَحَاتِ رَمَضَانَ، فَأَشْرَقَتْ أَرْوَاحُكُمْ، وَصَفَتْ سَرَائِرُكُمْ، وَزَكَتْ نُفُوسُكُمْ، عَرَفْتُم فَالْزَمُوا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَنِيئَاً لِمَنْ عَرَفَ فَالْتَزَمَ، هَنِيئَاً لِمَنْ سَمِعَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾ هَنِيئَاً لِمَنْ سَمِعَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾.

هَنِيئَاً لَكُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْتِ، عِنْدَمَا يُقَالُ لِأَحَدِكُمْ: «انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدَاً مِنَ الجَنَّةِ» رواه الشيخان عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

هَنِيئَاً لَكُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى في أَرْضِ المَحْشَرِ، عِنْدَمَا يَقُولُ أَحَدُكُمْ: ﴿هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ فَيُقَالُ لَكُمْ: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾.

وَيُقَالُ لَكُمْ: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورَاً﴾.

وَيُقَالُ لَكُمْ: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾.

هَنِيئَاً لَكُمْ يَا أَهْلَ الاسْتِقَامَةِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ عِنْدَمَا تَقُولُونَ: ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾.

وَعِنْدَمَا تَقُولُونَ: ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾.

يَا رَبِّ، أَكْرِمْنَا بِالاسْتِقَامَةِ حَتَّى نَلْقَاكَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 1/ شوال /1439هـ، الموافق: 15/ حزيران / 2018م

 2018-06-14
 2011
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

21-03-2024 599 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 599
14-03-2024 939 مشاهدة
904ـ خطبة الجمعة: حافظوا على الطاعات والعبادات

فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ عَامِلٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهُ هَدَفٌ يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا. وَقِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ تَأْتِي ... المزيد

 14-03-2024
 
 939
08-03-2024 859 مشاهدة
903ـ خطبة الجمعة: استقبل شهر رمضان بالأمور الآتية

هَا نَحْنُ نَسْتَقْبِلُ شَهْرَ الصَّوْمِ، وَأَنْعِمْ بِالصَّوْمِ عِبَادَةً، بِهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتُ، وَتَكْفِيرُ الخَطِيئَاتِ، وَكَسْرُ الشَّهَوَاتِ، وَتَكْثِيرُ الصَّدَقَاتِ، وَوَفْرَةِ الطَّاعَاتِ، وَشُكْرُ عَالِمِ الخَفِيَّاتِ، وَالانْزِجَارُ ... المزيد

 08-03-2024
 
 859
09-02-2024 2551 مشاهدة
902ـ خطبة الجمعة: حاله صلى الله عليه وسلم في شعبان

إِنَّ المُؤْمِنَ لَيَتَقَلَّبُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَمُدُّ اللهُ تعالى لَهُ في أَجَلِهِ، وَكُلَّ يَوْمٍ يَبْقَاهُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ غَنِيمَةٌ لَهُ لِيَتَزَوَّدَ مِنْهُ لِآخِرَتِهِ، وَيَحْرُثَ فِيهِ مَا اسْتَطَاعَ، ... المزيد

 09-02-2024
 
 2551
02-02-2024 2244 مشاهدة
901ـ خطبة الجمعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾

لِنَكنْ جَمِيعًا عَلَى يَقِينٍ أَنَّنَا سَنَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾. أَلَا وَإِنَّ الخَيْرَ كُلَّ الخَيْرِ في الجَنَّةِ، وَإِنَّ الشَّرَّ كُلَّ ... المزيد

 02-02-2024
 
 2244
25-01-2024 1483 مشاهدة
900ـ خطبة الجمعة: صورة من صور الحياء (2)

مَنْ فَقَدَ الحَيَاءَ فَقَدَ كُلَّ شَيْءٍ، وَصَارَ مُجَرَّدًا مِنْ كُلِّ خُلُقٍ نَبِيلٍ فَاضِلٍ، فَاقِدُ الحَيَاءِ مَمْقُوتٌ خَائِنٌ لَا رَحْمَةَ عِنْدَهُ، بَلْ في غَالِبِ الأَمْرِ الأَعَمِّ تَجِدُهُ مَلْعُونًا عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الخَلْقِ، ... المزيد

 25-01-2024
 
 1483

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3153
المكتبة الصوتية 4762
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411952097
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :