330ـ خطبة الجمعة: محنة الطائف محنة كاشفة

330ـ خطبة الجمعة: محنة الطائف محنة كاشفة

 

 مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبادَ الله، أَساسُ التَّفاؤُلِ الثِّقَةُ بالله تعالى والرِّضا بِقَضائِهِ، وغِذاءُ التَّفاؤُلِ عِلمُ المُؤمنِ بأنَّهُ لن يُصيبَهُ إلا ما كَتَبَ اللهُ تَعالى له، لِذلكَ هوَ لا يَتَعَلَّقُ بالأَحوالِ ـ معَ الأخْذِ بالأسبابِ ـ بل يَتَعَلَّقُ بِمُحَوِّلِ الأَحوالِ.

المُؤمنُ مُتفائِلٌ حتَّى ولو نَزَلَت به الشَّدائِدُ والمِحَنُ والمصائِبُ، مُتفائِلٌ معَ العَمَلِ على دَفْعِ ما يَستَطيعُ دَفْعَهُ من ابتلاءاتٍ ومَصائِبَ وشَدائِدَ، مُتفائِلٌ لأنَّهُ على يقينٍ بأنَّ كُلَّ مِحنَةٍ وراءَها مِنحَةٌ، وأنَّهُ لا تَخلو مُصيبَةٌ من غَنيمَةٍ.

لذلكَ نهى سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عن سَبِّ الحُمَّى، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام مسلم عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ ـ أَوْ أُمِّ الْمُسَيَّبِ ـ فَقَالَ: «مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ ـ أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيَّبِ ـ تُزَفْزِفِينَ؟». أي: تَتَحَرَّكِينَ حَرَكَةً شَدِيدَةً، أو تَرتَعِدين.

قَالَتْ: الْحُمَّى لَا بَارَكَ اللهُ فِيهَا.

فَقَالَ: «لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ».أي: يُخَلِّصُ رَديئَهُ من جَيِّدِهِ.

المِحنَةُ كاشِفَةٌ لما يَنطَوي عليهِ الإنسانُ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لا تَتَشاءَموا من المِحَنِ، ولا يَضِقْ صَدرُكُم منها، لأنَّ المِحنَ كاشِفَةٌ لما يَنطَوي عليهِ الإنسانُ، فإنَّها تُظهِرُ مَعدِنَهُ، إنْ خيراً فَخَيرٌ، وإنْ شرَّاً فَشَرٌّ، وكُلُّنا يَعلَمُ بأنَّ سيِّدَنا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قد انطَوى وجُبِلَ على خُلُقِ الرَّحمَةِ والأخلاقِ الحَميدَةِ، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم﴾. وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين﴾.

فكيفَ تَظهَرُ هذهِ الرَّحمَةُ وتِلكَ الأَخلاقُ لَولا المِحَنُ!؟

مِحنَةُ الطَّائِفِ كَشَفَت ما انطَوى عليهِ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: نحنُ نَعيشُ في شَهرِ رَجَب المُبارك، الذي كَانَ يَدعُو النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عندَ غُرَّتِهِ بقولِهِ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبَ وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغنَا رَمَضَانَ» رواه الطبراني في الأوسط عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

هذا الشَّهرُ العَظيمُ المبارَكُ الذي يُذَكِّرُنا بِلَيلَةِ الإِسراءِ والمِعرَاجِ، يُذَكِّرُنا بهذهِ المِنحَةِ العَظيمَةِ التي أكرَمَ اللهُ تعالى بها سيِّدَنا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ونَحنُ نَعلَمُ بأنَّ المِنَحَ في الغَالِبِ لا تَكونُ إلا بَعدَ المِحَنِ، فما هيَ المِحنَةُ التي سَبَقَت هذهِ المِنحَةَ؟

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: هذهِ المِنحَةُ العَظيمَةُ جَاءَت بَعدَ مِحَنٍ عَظيمَةٍ، وكانَت بِدايَةُ هذهِ المِحَنِ بعدَ قولِهِ تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين﴾. فأنذَرَ عَشيرَتَهُ، فإذا بعمِّهِ أبي لهبٍ يقولُ له: تَبَّاً لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا. رواه الإمام البخاري.

ثمَّ بَدَأتِ المِحَنُ تَشتَدُّ وتَشتَدُّ حتَّى حُوصِرَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في شِعبِ أبي طَالبٍ ثَلاثَ سَنواتٍ.

وبعدَ أن خَرَجَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من الشِّعبِ تُوُفِّيَ عَمُّهُ أبو طالبٍ الذي كانَ حِصناً مَنيعاً يَحتَمي به رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من كُبَراءِ وسُفَهاءِ قُرَيشٍ، وبَعدَ وَفاتِهِ بِشَهرَينِ أو ثَلاثَةٍ تُوُفِّيَت أمُّنا السَّيِّدَةُ الجَليلَةُ خَديجَةُ الكُبرى رَضِيَ اللهُ عنها، التي كانَت وَزيرَةَ صِدقٍ لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، والتي كانَت تَحِنُّ عليهِ وتُؤازِرُهُ في أَحرَجِ الأوقاتِ، وتُعِينُهُ على إِبلاغِ رِسالَتِهِ، وتُواسِيهِ بِنَفسِها ومَالِها، والتي قالَ في حَقِّها سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَبْدَلَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ» رواه الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها.

في وَسَطِ هذا الحُزنِ، فَقْدِ العَمِّ والزَّوجَةِ، توالَتِ المَصائِبُ على سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من قَومِهِ، فازدادَ غَمَّاً على غَمٍّ حتَّى يَئِسَ منهُم،

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: عندَها فَكَّرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أن يَخرُجَ من مكَّةَ المكَرَّمَةَ إلى الطَّائِفِ لِيَدعُوَ النَّاسَ إلى الله تعالى، وقد اختارَها سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لأنَّهُ كانَت له مكانَةً في نُفوسِ العَرَبِ، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم﴾. والمَقصودُ بالقَريَتَينِ، مَكَّة أو الطَّائف، وهيَ تَبعُدُ عن مَكَّةَ المكَرَّمَةَ مئة كِيلو متر.

خَرَجَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ماشِياً على قَدَمَيهِ بدونِ رَاحِلَةٍ، وبِدُونِ صُحبَةٍ لَه من كِبارِ الصَّحابَةِ كسيِّدِنا أبي بكرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما، ومعَهُ مولاهُ زيدُ بنُ حارِثَةَ ـ الذي كانَ يَبلُغُ من العُمُرِ أربعينَ عاماً ـ.

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: وَصَلَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الطَّائِفَ بعدَ أنْ قَطَعَ مَسافَةَ مئة كيلو متر على قَدَمَيهِ الشَّريفَتَينِ بينَ الجِبالِ والوِديانِ، وعَمَدَ إلى ثلاثَةِ إخوَةٍ من رُؤَساءِ ثقيفٍ، عبدِ ياليلَ، ومسعودٍ، وحبيبٍ، أبناءِ عَمرو بنِ عُمَيرِ الثَّقفيِّ، فَجَلَسَ إليهِم ودَعاهُم إلى الله تعالى.

فقالَ لهُ عبد ياليل: أنَّهُ سَيَمْرُطُ ـ سَيُمَزِّقُ ـ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إنْ كَانَ اللهُ أرسَلَهُ.

وقالَ لهُ مسعودٌ: أَمَا وَجَدَ اللهُ أَحَداً يُرْسِلُهُ غَيْرَك.

وقالَ لهُ حبيبٌ: والله لَا أُكَلّمُك أَبَداً، لَئِنْ كُنْتَ رَسُولاً مِنْ الله كَمَا تَقُولُ لَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَراً مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْك الْكَلَامَ، وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى الله مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلّمَكَ.

فقالَ لهُمُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إذَا فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنِّي».

فقالوا لهُ: اُخرُج من بلادِنا، وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ.

فلمَّا أرادَ الخُروجَ تَبِعَهُ السُّفَهاءُ والعَبيدُ يَسُبُّونَهُ ويَرمونَهُ بالحِجارَةِ، حَتَّى سالَ الدَّمُ من قَدَمَيهِ الشَّريفَتَينِ، وخُضِبَ نعلاهُ الشَّريفانِ بالدِّماءِ الطَّاهِرَةِ، وزَيدٌ رَضِيَ اللهُ عنهُ يَقيهِ بِنَفسِهِ، حتَّى دَخَلَ إلى بُستانِ ابني رَبيعَةَ، وهُنا انكَشَفَ ما طُوِيَ بِسَيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: مِحنَةُ الطَّائِفِ كَشَفَت لنا الحقيقَةَ التي طُوِيَت عليها شَخصِيَّةُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أولاً: حِرصُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على رِضا الله تعالى:

نعم أيُّهَا الإخوَةُ الكرام، لقد كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَريصاً كُلَّ الحِرصِ على رِضا الله تعالى، وكانَ لا يَعبأُ بالشَّدائِدِ ما دامَ ربُّنا عزَّ وجلَّ راضياً عنهُ، وتَجَلَّى هذا في دُعائِهِ الشَّريفِ الذي رواه الطبراني في الدعاء عن عبد الله بن جعفر رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أن يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ، أَوْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ».

لقد أوضَحَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بقولِهِ: «لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى» بأنَّ المهِمَّ هوَ رِضا الله تعالى، فإن لمْ تَكُنْ هذهِ الشَّدائِدُ مَظهَراً من مَظاهِرِ الغَضَبِ الإلهيِّ، فلا إشكالَ ولا حَرَجَ، ولكنَّ العافِيَةَ هيَ الأوسَعُ له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

ثانياً: رَحمَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بمن آذاهُ، حيثُ صَدَقَ فيهِ قولُ الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين﴾. والرَّحمَةُ لا تُنزَعُ إلا من شَقِيٍّ.

هذهِ الرَّحمَةُ ظَهَرَت، عندما جاءَهُ مَلَكُ الجِبالِ لِيُطبِقَ عليهِمُ الجَبَلَينِ، كما جاء في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام البخاري عن عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟

قَالَ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ ذَلِكَ، فمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ».

فأَبَى سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أشَدَّ الإِباءِ، وما هَذا إلا من رَحمَتِهِ التي جَبَلَهُ اللهُ تعالى عليها.

فلئن يَئِسَ من إيمانِ الآباءِ فلن ييأسَ من إيمانِ الأبناءِ، وتَجَلَّى هذا من خِلالِ قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً».

ثالثاً: تَفاؤُلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بأولادِ هؤلاءِ المشرِكينَ:

نعم أيُّهَا الإخوَةُ الكرام، المِحَنُ والشَّدائِدُ ما زادَتِ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلا تَفاؤُلاً، وتَجَلَّى هذا عندما قالَ لهُ زيدُ بنُ حارِثَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: كَيْفَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَخْرَجُوك؟ ـ يَعْنِي قُرَيْشاً ـ

فَقَالَ: «يَا زَيْدُ، إنَّ اللهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرْجاً وَمَخْرَجاً، وَإِنَّ اللهَ نَاصِرٌ دِينَهُ، وَمُظْهِرٌ نَبِيَّهُ». الطبقات الكبرى لابن سعد.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لا تَيأسوا ولا تَقنَطوا من رحمَةِ الله تعالى، وانظُروا إلى هذهِ الأزمَةِ بأنَّها لَهَبٌ تُظهِرُ معادِنَ النَّاسِ، فهل نحنُ نُفَكِّرُ ونُسرِعُ إلى رَضا الله تعالى، ونقولُ كما قال سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى»؟ أم البعضُ سَخِطَ على الله تعالى والعِياذُ بالله تعالى؟

وهل نحنُ مُتَراحِمونَ فيما بينَ بعضِنا البعضِ؟ أم نُزِعَتِ الرَّحمَةُ من قُلوبِنا على بعضِنا البعضِ؟

وهل نحنُ مُتَفائِلونَ بأنَّ اللهَ تعالى  سَيَكشِفُ هذهِ الغُمَّةَ؟ أم مُتَشائِمونَ يائِسونَ قانِطونَ من رحمَةِ الله تعالى، لا قَدَّرَ اللهُ تعالى؟ وصِفَةُ اليأسِ والقُنوطِ ليسَت من صِفَةِ المؤمنِ.

أرجو اللهَ تعالى كَشْفَ هذهِ الغُمَّةِ عاجِلاً غيرَ آجِلٍ. آمين.

 

أقولُ هَذا القَولَ، وأَستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 22/رجب/1434هـ، الموافق: 31/أيار/ 2013م

 2013-05-31
 11021
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 18 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 18
12-04-2024 637 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 637
09-04-2024 549 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 549
04-04-2024 678 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 678
28-03-2024 568 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 568
21-03-2024 1000 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1000

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412730181
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :