382ـ خطبة الجمعة: توقع حتى لا تتوجع

382ـ خطبة الجمعة: توقع حتى لا تتوجع

 

 382ـ خطبة الجمعة: توقع حتى لا تتوجع

 مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عباد الله، هذهِ الحَياةُ الدُّنيا مَليئَةٌ بالحَوَادِثِ والفَوَاجِعِ، مَليئَةٌ بالأمراضِ والقَوَاصِمِ، فَبَينَما يَسْعَدُ الإنسانُ بِقُربِ عَزيزٍ أو حَبيبٍ، إذ هوَ يُفَاجَأُ ويُفجَعُ بِخَبَرِ وَفَاتِهِ وارتِحَالِهِ عن الدُّنيا.

يَسْعَدُ الإنسانُ في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا في صِحَّةٍ وعَافِيَةٍ وسَلامَةٍ وسَعَةِ رِزقٍ، وإذ هوَ يُفَاجَأُ ويُفجَعُ بِمَرَضٍ يُكَدِّرُ حَياتَهُ، ويُقعِدُهُ في فِرَاشِهِ، أو بِضَياعِ مَالِهِ، فَيُفسِدُ عَلَيهِ مُخَطَّطاتِهِ في حَياتِهِ الدُّنيا.

يا عباد الله، هذهِ الحَياةُ الدُّنيا مَليئَةٌ بالمِنَحِ والمِحَنِ، ومَليئَةٌ بالأفراحِ والأتراحِ، هذهِ الحَياةُ الدُّنيا آمالٌ بَعدَ آلامٍ، وآلامٌ بَعدَ آمالٍ، هذهِ الحَياةُ الدُّنيا صَفْوٌ وكَدَرٌ، هذهِ الحَياةُ الدُّنيا فَرَحٌ وتَرَحٌ.

يا عباد الله، لا تَطمَعوا بِضَحِكٍ فيها إلا بَعدَ بُكاءٍ، ولا تَنَعُّمٍ إلا بَعدَ تَنَغُّصٍ، ولا بِسَعَادَةٍ إلا بَعدَ حُزنٍ، هَيهاتَ أن يَضحَكَ فيها من لا يَبكي، أو أن يَتَنَعَّمَ فيها من لم يَتَنَغَّصْ، أو أن يَسْعَدَ فيها من لم يَحزَنْ.

لَيسَ لنا إلا الصَّبرَ:

يا عباد الله، يا من تَعيشُونَ هذهِ الأزمَةَ والشِّدَّةَ والكَربَ والبَلاءَ العَظيمَ، اِعلَموا أنَّهُ لا يَسَعُنا إلا الصَّبرُ والمُصَابَرَةُ، فقد جَرَّبَ العَارِفونَ بالله تعالى، وجَرَّبَ المُجَرِّبونَ فما وَجَدوا شَيئاً أنفَعَ من الصَّبرِ والمُصَابَرَةِ، فبالصَّبرِ تُدَاوَى جَميعُ الأُمورِ، وهوَ لا يُدَاوَى بِغَيرِهِ.

يا عباد الله، لِنَسمَعْ أمرَ الله تعالى لنا في القُرآنِ العَظيمِ، لِنَسمَعْ يا من تَقولونَ: لقد اختَنَقنا، لِنَسمَعْ إلى إرشادِ الله تعالى لنا في هذهِ الأزمَةِ وهوَ يُخَاطِبُنا بِوَصْفِ الإيمانِ فَيَقولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾. لقد أمَرَنا اللهُ عزَّ جلَّ بالصَبرِ وجَعَلَهُ من أسبابِ العَونِ على الشَّدَائِدِ، وبَيَّنَ للصَّابِرِينَ أنَّ لَهُم مَعِيَّةً إلهِيَّةً خَاصَّةً بِهِم.

يا عباد الله، لقد أخبَرَنا مَولانا عزَّ جلَّ في كِتابِهِ العَظيمِ مُؤَكِّداً بأنَّ الحَياةَ الدُّنيا مَليئَةٌ بالمُنَغِّصاتِ، مَليئَةٌ بالابتِلاءاتِ، وإن طَلَبتَ غَيرَ ذلكَ في الحَياةِ الدُّنيا فقد أخطَأتَ الطَّريقَ، قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾. أكَّدَ ذلكَ رَبُّنا عزَّ وجلَّ بِواوِ القَسَمِ، ولامِ التَّأَكيدِ، والنُّونِ المُشَدَّدَةِ، فَلَيسَ لكَ اختِيارٌ،ولا يَسَعُكَ إلا الصَّبرُ والمُصَابَرَةُ، لأنَّكَ ما خُلِقتَ في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا إلا للابتلاءِ، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾. فالعَطاءُ فيها ابتلاءٌ، والمَنعُ فيها ابتلاءٌ.

البِشَارَةُ للصَّابِرِينَ:

يا عباد الله، عِندَما نُبتَلَى بالمَصَائِبِ كما نَرَى ونَسمَعُ ونُشَاهِدُ ونُحِسُّ، لا يَسَعُنا إلا الصَّبرُ الذي أمَرَنا اللهُ عزَّ وجلَّ به، وهوَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ بَعدَ أن أمَرَنا بالصَّبرِ أطلَقَ البُشرَى للصَّابِرِينَ، فقال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ *  أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

الأسبابُ التي تُعينُ على الصَّبرِ:

يا عباد الله، قد يَقولُ قَائِلٌ: نَسمَعُ كَثيراً عن الصَّبرِ والمُصَابَرَةِ من طُلَّابِ العِلمِ والعُلَماءِ والخُطَباءِ، ولكن هل هُناكَ أسبابٌ تُعينُ العَبدَ على الصَّبرِ والمُصَابَرَةِ؟

نَعَم، هُناكَ أسبابٌ تُعينُ العَبدَ على الصَّبرِ والمُصَابَرَةِ، حتَّى لا يَجمَعَ مَعَ مُصيبَتِهِ التي وَقَعَت عَلَيهِ بِدونِ اختِيارِهِ مُصيبَةً أُخرَى باختِيارِهِ، ألا وهيَ تَضييعُ أجرِ الصَّابِرِينَ.

يا عباد الله، من الأسبابِ التي تُعينُ العَبدَ على الصَّبرِ والمُصَابَرَةِ:

أولاً: تَوَقَّعْ حتَّى لا تَتَوَجَّعْ:

يا عباد الله، طَبيعَةُ الحَياةِ الدُّنيا أنَّها مُتَقَلِّبَةٌ، ولن يَدومَ فيها حَالٌ، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء واللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾. طَبيعَتُها الابتِلاءُ ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾. فَتَوَقَّعْ حتَّى لا تَتَوَجَّعْ، فمن كَانَ على بَصِيرَةٍ من أمرِهِ استَرَاحَ.

يا عباد الله، هَيِّئوا أنفُسَكُم للمَصَائِبِ قَبلَ وُقُوعِها، لأنَّهُ من كَانَ مُتَوَقِّعاً فلن يَكونَ مُتَوَجِّعاً، فالحَياةُ الدُّنيا إلى زَوالٍ، لَيسَ فيها خُلودٌ، والآجالُ فيها مُنصَرِمَةٌ، والمُدَّةُ فيها مُنقَضِيَةٌ، فَأَعِدُّوا للمَصَائِبِ قَلباً صَبوراً، فقد كَانَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَبوراً، وما رَأَتْهُ الأُمَّةُ في الأزَماتِ والشَّدَائِدِ والكُروبِ يَائِساً قَنُوطاً، حَاشاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بل كَانَ على العَكسِ من ذلكَ تَماماً، فما زَادَتْهُ الشَّدَائِدُ والمِحَنُ إلا ثِقَةً بالله تعالى.

يا عباد الله، من كَانَ مُتَوَقِّعاً فلن يَكونَ مُتَوَجِّعاً، فَتَوَقَّعوا النِّقَمَ بَعدَ النِّعَمِ، والمِحَنَ بَعدَ المِنَحِ، والذُّلَّ بَعدَ العِزِّ، لأنَّ طَبيعَةَ الحَياةِ الدُّنيا أنَّها مُتَقِلِّبَةٌ.

ثانياً: الإيمانُ بالقَضَاءِ والقَدَرِ صَمَّامُ أمانٍ:

يا عباد الله، الإيمانُ بالقَضَاءِ والقَدَرِ صَمَّامُ أمانٍ بإذنِ الله تعالى من الصَّدَماتِ والنَّكساتِ، قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ﴾.

القَدَرُ إذا كَانَ مُبرَماً لا يُرَدُّ لا يُؤَجَّلُ، والمُؤمِنُ بالقَضَاءِ والقَدَرِ هوَ أقَلُّ النَّاسِ تَأَثُّراً في الشَّدَائِدِ والأزَماتِ، وأَقَلُّهُم جَزَعاً واضطِراباً وقَلَقاً، لأنَّهُ على يَقينٍ بالحَدِيثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام أحمد عَن ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «وَلَوْ أَنْفَقْتَ جَبَلَ أُحُدٍ ذَهَباً فِي سَبِيلِ الله عَزَّ وَجَلَّ مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ، حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَدَخَلْتَ النَّارَ». لأنَّهُ على يَقينٍ بأنَّهُ لا يُعطِي ولا يَمنَعُ، ولا يَخفِضُ لا يَرفَعُ إلا اللهُ تعالى ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

يا عباد الله، لِنَنظُرْ إلى تَوجِيهِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لأُمِّ المُؤمِنينَ أُمِّ حَبيبَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، كما يَروي الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئاً قَبْلَ حِلِّهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئاً عَنْ حِلِّهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ، أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ، كَانَ خَيْراً وَأَفْضَلَ».

يا عباد الله، لا تَتَوَقَّعوا دَوامَ القُربِ مِمَّن تُحِبُّونَ، ولا دَوامَ النِّعَمِ في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الحاكم عن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قال: جَاءَ جِبريلُ عَلَيهِ السَّلامُ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فقال: يا مُحَمَّدُ، عِشْ ما شِئتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحبِبْ من أَحبَبتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ.

ولكن سَلُوا اللهَ تعالى أن يَجعَلَ قُبُورَنا رَوضَةً من رِيَاضِ الجَنَّةِ، سَلُوا اللهَ تعالى أن يُعِيذَنا جَميعاً من عَذابٍ في القَبرِ، وعَذابٍ في النَّارِ، لأنَّ الشَّقَاءَ كُلَّ الشَّقاءِ إذا دَخَلَ العَبدُ النَّارَ وسَمِعَ المُنادي يُنادي: يَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ.

ثالثاً: تَذَكَّروا ما أعَدَّ اللهُ تعالى لأصحَابِ الابتِلاءاتِ:

يا عباد الله، تَذَكَّروا ما أعَدَّ اللهُ تعالى لأصحَابِ الابتِلاءاتِ من أجرٍ عَظيمٍ، تَذَكَّروا مَحْوَ السَّيِّئاتِ، ورَفعَ الدَّرَجاتِ، وحُسنَ الخَلَفِ والعِوَضِ من الله تعالى، فمن عَرَفَ أجرَ الصَّابِرِينَ عِندَ الله تعالى عَشِقَ الصَّبرَ، ورُبَّما أن يُخطِئَ البَعضُ فَيَسألَ اللهَ تعالى الابتِلاءاتِ.

يا عباد الله، لا تَسألُوا اللهَ تعالى البَلاءَ، ولكن سَلُوهُ العَافِيَةَ، فإذا وَقَعَ البَلاءُ فاصبِروا، وتَذَكَّروا أجرَ الصَّابِرِينَ عِندَ الله عزَّ وجلَّ.

روى الشيخان عن عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟

قُلْتُ: بَلَى.

قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَت النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ لِي.

قَالَ: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ».

فَقَالَتْ: أَصْبِرُ.

فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ؛ فَدَعَا لَهَا.

يا عباد الله، اِمرَأَةٌ سَوداءُ رُبَّما لا يُؤبَهُ لها، ولكن كَانَت صَاحِبَةَ قَلبٍ عَامِرٍ بالإيمانِ، مُطمَئِنٍّ رَاضٍ بِقَضَاءِ الله تعالى وَقَدَرِهِ، ومن كَانَ هكذا قَلبُهُ كَانَ مَحبوباً عِندَ الله عزَّ وجلَّ، لأنَّ اللهَ تعالى لا يَنظُرُ إلى الصُّوَرِ والأجسادِ، ولكن يَنظُرُ إلى القُلوبِ والأعمالِ.

يا عباد الله، اُنظُروا إلى فِقهِ هذهِ المَرأَةِ، عِندَما قالَ لها سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ». فَقَالَتْ: أَصْبِرُ.

لأنَّها عَلِمَت بأنَّ النِّعَمَ لو كُلِّلَ بها العَبدُ في الحَياةِ الدُّنيا فهيَ إلى زَوالٍ، وبأنَّ العُمُرَ مَهما طَالَ فلا بُدَّ من دُخولِ القَبرِ، ثمَّ الانتِقالُ من دَارِ الفَناءِ إلى دَارِ البَقاءِ حَيثُ: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾.

لقد طَمِعَت هذهِ المَرأَةُ بِدَارِ البَقاءِ، طَمِعَت بأن تَكونَ من أهلِ الجَنَّةِ، طَمِعَت بِجَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ والأرضُ أعِدَّت للمُتَّقينَ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يا عباد الله، ألا تُريدونَ جَنَّةً عَرْضُها السَّماواتُ والأرضُ؟ ألا تُريدونَ أن تَتَلَقَّاكُمُ المَلائِكَةُ قائِلينَ لَكُم: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾؟ ألا تُريدونَ جَنَّةً أعظَمُ نَعيمٍ فيها النَّظَرُ إلى وَجْهِ الله الكَريمِ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾؟

يا عباد الله، لقد شَاءَ رَبُّنا عزَّ وجلَّ أن يُضَيَّقَ عَلَينا، لقد شَاءَ اللهُ تعالى أن يُصَبَّ عَلَينا البَلاءُ صَبَّاً، فَعَلَينا أن نُرَاجِعَ الحِسَاباتِ بَينَنا وبَينَ أنفُسِنا، ونَحنُ نَتَذَكَّرُ قَولَ الله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾.

يا عباد الله، عَلَينا بالتَّوبَةِ الصَّادِقَةِ النَّصُوحِ من جَميعِ الذُّنوبِ والخَطَايا، ثمَّ بَعدَ ذلكَ لِنَصبِرْ ولنُصَابِرْ أيَّامَ الشَّدَائِدِ والمِحَنِ، ونَحنُ نَتَذَكَّرُ بأنَّ هذهِ الابتِلاءاتِ سَبَبٌ لِمَحْوِ السَّيِّئاتِ، ولِرَفعِ الدَّرَجاتِ، فلا تَضِقْ صُدُورُنا.

ثمَّ لِنُكثِرْ من الدُّعاءِ: اللَّهُمَّ اجعَلنا من الشَّاكِرِينَ عِندَ الرَّخاءِ، ومن الصَّابِرِينَ عِندَ البَلاءِ، ومن الرَّاضِينَ بِمُرِّ القَضَاءِ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 17/رجب/1435هـ، الموافق: 16/أيار/ 2014م

 2014-05-16
 47864
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 133 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 133
12-04-2024 758 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 758
09-04-2024 589 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 589
04-04-2024 703 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 703
28-03-2024 606 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 606
21-03-2024 1061 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1061

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413092510
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :