26ـ من وصايا الصالحين: صفة الإمام العادل

26ـ من وصايا الصالحين: صفة الإمام العادل

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

كتبَ عمرُ بن عبد العزيزِ رضي الله عنه لما وُلِّي الخلافةَ إلى الحسنِ بن أبي الحسنِ البصري، أن يكتبَ إليه بصفةِ الإمامِ العادلِ، فكتب إليه الحسنُ رحمه الله:

اعلمْ يا أميرَ المؤمنينَ، أن اللهَ جعلَ الإمامَ العادلَ قِوامَ كلِّ مائل، وقَصْدَ كلِّ جائر، وصلاحَ كلِّ فاسد، وقوةَ كلِّ ضعيف، ونَصَفَةَ كلِّ مظلوم، ومَفْزَعَ كلِّ ملهوف.

والإمامُ العَدْلُ يا أميرَ المؤمنينَ كالراعي الشَّفيقِ على إبلِهِ، الرَّفيقِ بها، الذي يَرْتادُ لها أطيبَ المراعي، ويَذُودُها عن مَرَاتِعِ الهَلَكَةِ، ويحميها من السِّباعِ، ويَكُنُّها من أذى الحرِّ والقرِّ.

والإمامُ العَدْلُ يا أميرَ المؤمنينَ كالأبِ الحاني على وَلَدِهِ، يسعى لهمْ صِغاراً، ويعلِّمُهم كِباراً؛ يكتسبُ لهم في حياته، ويدَّخرُ لهم بعدَ مماته.

والإمامُ العَدْلُ يا أميرَ المؤمنينَ كالأمِّ الشَّفِيقةِ البَرَّةِ الرَّفِيقَةِ بولَدِها، حملتْهُ كُرهاً، ووضعتْهُ كُرهاً، وربَّته طِفلاً تسهرُ بسَهَرِهِ، وتسكُنُ بسُكُونِهِ، تُرضِعُهُ تارةً وتفطِمُهُ أخرى، وتفرحُ بعافيتِهِ، وتغتمُّ بشِكَايَتِه.

والإمامُ العدلُ يا أميرَ المؤمنينَ وصيُّ اليتامى، وخازنُ المساكين، يُرَبِّي صغيرَهم، ويَمُونُ كبيرَهم.

والإمامُ العدلُ يا أميرَ المؤمنينَ كالقلبِ بينَ الجوارحِ، تَصْلُحُ الجوارحُ بصلاحِهِ، وتَفْسُدُ بفسادِهِ.

والإمامُ العدلُ يا أميرَ المؤمنينَ هو القائمُ بينَ اللهِ وبينَ عبادِهِ، يسمعُ كلامَ اللهِ ويُسْمِعُهُم، وينظرُ إلى اللهِ ويُرِيهِمْ، ويَنْقادُ إلى اللهِ ويقودُهُمْ.

فلا تكنْ يا أميرَ المؤمنينَ فيما ملَّكَكَ اللهُ عزَّ وجلَّ كعبدٍ ائتمنَهُ سيِّدُهُ، واسْتَحْفَظَهُ مالَهُ وعِيالَهُ، فبَدَّدَ المالَ وشَرَّدَ العيالَ، فأَفْقَرَ أهلَهُ وفَرَّقَ مالَهُ.

واعلمْ يا أميرَ المؤمنينَ أنَّ الله أنزلَ الحُدودَ ليَزْجُرَ بها عن الخبائثِ والفَواحِشِ، فكيفَ إذا أتاها مَنْ يَلِيها! وأنَّ اللهَ أنزلَ القِصاصَ حياةً لعبادِهِ، فكيف إذا قَتَلَهُمْ مَنْ يَقْتَصُّ لهمْ!

واذكرْ يا أميرَ المؤمنينَ الموتَ وما بعده، وقِلَّةَ أشياعِكَ عِندَهُ، وأنصارِكَ عليهِ، فتَزَوَّدْ لهُ ولما بعدَهُ من الفَزَعِ الأكبرِ.

واعلمْ يا أميرَ المؤمنينَ أنَّ لكَ مَنْزِلاً غيرَ مَنْزِلِكَ الذي أنتَ فيه، يَطولُ فيهِ ثَوَاؤُكَ، ويُفارِقُكَ أحِبَّاؤكَ، يُسْلِمونَكَ في قَعْرِهِ فريداً وحيداً؛ فتزوَّدْ لهُ ما يَصْحَبُكَ يومَ يَفِرُّ المرءُ من أخيهِ، وأمِّهِ وأبيه، وصاحِبَتِهِ وبنيه.

واذكرْ يا أميرَ المؤمنينَ {إذا بُعْثِرَ ما في القبورِ * وحُصِّلَ ما في الصدورِ}، فالأسرارُ ظاهرةٌ، والكتابُ لا يُغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أَحْصاها.

فالآنَ يا أميرَ المؤمنينَ وأنتَ على مَهَلٍ، قبلَ حلولِ الأجَلِ، وانقطاعِ الأَمَلِ.

لا تحكمْ يا أميرَ المؤمنينَ في عبادِ اللهِ بحُكْمِ الجاهلينَ، ولا تَسْلُكْ بهمْ سبيلَ الظالمينَ، ولا تُسَلِّطْ المستكبرينَ على المستَضْعَفِينَ؛ فإنهمْ لا يَرْقُبُونَ في مؤمنٍ إِلًّا ولا ذِمَّةً، فَتَبُوءَ بأوزارِكَ مع أوزارِكَ، وتَحْمِلَ أثقالَكَ معَ أثقالِكَ. ولا يَغُرَّنَّكَ الذينَ يتنعَّمونَ بما فيهِ بؤسُكَ، ويأكلونَ الطيِّباتِ في دُنياهُمْ بإذهابِ طيِّباتِكَ في آخرتِكَ. و لا تنظرْ إلى قُدرتِكَ اليومَ، ولكن انظرْ إلى قدرتِكَ غداً وأنتَ مأسورٌ في حبائلِ الموتِ، وموقوفٌ بينَ يديِ اللهِ في مَجْمَعٍ منَ الملائكةِ والنبيِّينَ والمرسلينَ، وقدْ عَنَتِ الوجوهُ للحَيِّ القيومِ.

إني يا أميرَ المؤمنينَ، وإنْ لم أبلُغْ بعِظَتِي ما بَلَغَهُ أولو النُّهى منْ قبلي، فلَمْ آلُكَ شَفَقَةً ونُصْحاً، فأَنْزِلْ كتابي إليكَ كمُداوي حبيبِهِ يسقيهِ الأدويةَ الكريهةَ لما يرجو لهُ في ذلك منَ العافيةِ والصِّحَّةِ. والسلامُ عليكَ يا أميرَ المؤمنينَ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ.

 

الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  من وصايا الصالحين

05-03-2020 4782 مشاهدة
47ـ وصية أبي الدرداء (4)

لَقَدْ كَانَ الصَّحْبُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عَلَى حَذَرٍ شَدِيدٍ مِنَ الصَّغَائِرِ فَضْلاً عَنَ الكَبَائِرِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ ... المزيد

 05-03-2020
 
 4782
27-02-2020 3776 مشاهدة
46ـ وصية أبي الدرداء (3)

مَا أَجْمَلَ الصَّاحِبَ الصَّالِحَ، وَالأَخَ النَّاصِحَ، مَا أَجْمَلَ مَنْ يُذَكِّرُكَ بِاللهِ تعالى، وَيُذَكِّرُكَ بِالمَهَمَّةِ التي خُلِقْتَ مِنْ أَجْلِهَا، مَا أَجْمَلَ مَنْ يُذَكِّرُكَ بِحَقِيقَةِ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا. مَا أَكْرَمَ ... المزيد

 27-02-2020
 
 3776
21-02-2020 2962 مشاهدة
45ـ وصية أبي الدرداء (2)

إِنَّ مِمَّا يُرَقِّقُ الطِّبَاعَ؛ وَيَعِظُ الْقُلُوبَ ويُشَنِّفُ الأَسْمَاعَ؛ وَيَدْعُو أَصْحَابَهَا إِلَى الاتِّبَاعِ، مَا جَاءَ فِي وَصَايَا السَّلَفِ؛ التِي هِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَوَاعِظِ التُّحَفِ، وَحَسْبُنَا مِنْ وَصَايَا السَّلَفِ ... المزيد

 21-02-2020
 
 2962
06-02-2020 4742 مشاهدة
44ـ وصية أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

إِنَّ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَمِنْ مِيزَاتِهَا التي خَصَّهَا اللهُ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ... المزيد

 06-02-2020
 
 4742
30-01-2020 5081 مشاهدة
43ـ وصية أبي الدرداء لأهل دمشق

طُولُ الأَمَلِ دَاءٌ عُضَالٌ، وَمَرَضٌ مُزْمِنٌ، وَمَتَى تَمَكَّنَ مِنَ القَلْبِ فَسَدَ مِزَاجَهُ، وَصَعُبَ عِلَاجُهُ، وَلَمْ يُفَارِقْهُ دَاءٌ، وَلَا نَجَعَ فِيهِ دَوَاءٌ، بَلْ أَعْيَا الأَطِبَّاءَ، وَيَئِسَ مِنْ بُرْئِهِ الحُكَمَاءُ وَالعُلَمَاءُ، ... المزيد

 30-01-2020
 
 5081
25-10-2014 17037 مشاهدة
42ـ من وصايا الصالحين: وصية سيدنا عمر لأبي موسى الأشعري رَضِيَ اللهُ عَنهُما

فَإِنَّ لِلنَّاسِ نَفْرَةً عَنْ سُلْطَانِهِمْ، فَأَعُوذُ باللهِ أَنْ يُدْرِكَنِي وَإِيَّاكَ عَمْيَاءُ مَجْهُولَةٌ، وَضَغَائِنُ مَحْمُولَةٌ، فَأَقِمِ الْحُدُودَ وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. ... المزيد

 25-10-2014
 
 17037

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3153
المكتبة الصوتية 4762
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411965118
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :