143ـ كلمة شهر محرم 1440: الوقت حياة الإنسان
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَحْنُ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ، بَيْنَ أَجَلٍ قَدْ مَضَى لَا نَدْرِي مَا اللهُ صَانِعٌ فِيهِ، وَبَيْنَ أَجَلٍ قَدْ بَقِيَ لَا نَدْرِي مَا اللهُ قَاضٍ وَمُقَدِّرٌ فِيهِ، فَالعَاقِلُ مَنْ أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَمِنْ دُنْيَاهُ لِآخِرَتِهِ، وَمِنْ فَرَاغِهِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَغِلَ، لِأَنَّهُ لَا حِيلَةَ بَعْدَ المَوْتِ، وَمَا بَعْدَ المَوْتِ إِلَّا جَنَّةٌ أَو نَارٌ.
المَوْتُ بَـابٌ وَكُـلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ *** فَلَيْتَ شِعْرِي بَعْدَ البَابِ مَا الدَّارُ
الدَّارُ جَنَّاتُ عَدْنٍ إِنْ عَمِلْتَ بِمَا *** يُرْضِي الإِلَهَ وَإِنْ خَـالَـفْتَ فَالنَّارُ
هُمَا مَحَـلَّانِ مَـا للنَّاسِ غَـيْـرُهُمَا *** فَـانْـظُرْ لِـنَفْسِكَ مَاذَا أَنْـتَ تَخْـتَارُ
الوَقْتُ حَيَاةُ الإِنْسَانِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: العَاقِلُ مَنْ تَفَكَّرَ في أَمْرِهِ، وَرَأَى أَنَّ مُضِيَّ الأَيَّامِ مُؤْذِنٌ بِقُرْبِ رَحِيلِهِ، طَالَ العُمُرُ أَمْ قَصُرَ، فَاحْتَاطَ لِأَمْرِهِ، وَاجْتَهَدَ في يَوْمِهِ، وَاسْتَعَدَّ لِغَدِهِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾.
مَا الوَقْتُ إِلَّا حَيَاةُ الإِنْسَانِ وُعُمُرُهُ الذي هُوَ أَنْفَاسٌ تَتَرَدَّدُ، وَآمَالُهُ التي تَضِيعُ إِذَا لَمْ تَتَحَدَّدْ، الوَقْتُ ثَمِينٌ وَنَفِيسٌ، وَمَا مَضَى فَلَنْ يَعُودَ، فَهَلَّا تَنَبَّهْنَا لِأَعْمَارِنَا؟!
الغَافِلُ مَنْ بَاعَ وَقْتَهُ الذي هُوَ أَغْلَى شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَبْخَسِ الأَثْمَانِ، فَالوَقْتُ مُنْصَرِمٌ بِنَفْسِهِ، مُنْقَضٍ بِذَاتِهِ، وَمَنْ غَفَلَ عَنْ تَدَارُكِهِ ضَاعَتْ أَيَّامُهُ وَأَوْقَاتُهُ، وَعَظُمَتْ حَسَرَاتُهُ، يَنْقَضِي العُمُرُ بِمَا فِيهِ فَلَا يَعُودُ إِلَّا أَثَرُهُ، فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ مَا يَعُودُ عَلَيْكَ مِنْ أَثَرِ عُمُرِكَ، وَكَمْ هُوَ الفَارِقُ بَيْنَ مَا يُقَالُ للسُّعَدَاءِ، وَمَا يُقَالُ للأَشْقِيَاءِ؟
مَنِ اسْتَغَلَّ أَنْفَاسَ عُمُرِهِ في طَاعَةِ مَوْلَاهُ عَزَّ وَجَلَّ، قِيلَ لَهُ: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾.
وَأَمَّا مَنْ ضَيَّعَ عُمُرَهُ في اللَّهْوِ وَالغَفْلَةِ وَالإِعْرَاضِ عَنِ اللهِ تعالى، فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: ﴿ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ﴾.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِكُلِّ عَبْدٍ مُفَرِّطٍ يَوْمَانِ يَنْدَمُ فِيهِمَا عَلَى مَا ضَيَّعَ مِنْ أَوْقَاتِهِ، وَيَطْلُبُ الإِمْهَالَ، اليَوْمُ الأَوَّلُ عِنْدَ الاحْتِضَارِ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. وَيَقُولُ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾. فَيَكُونُ الجَوَابُ: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسَاً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
أَمَّا اليَوْمُ الثَّانِي في الآخِرَةِ، عِنْدَمَا يَدْخُلُ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ، وَيُسْمَعُ النِّدَاءُ: يَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، عِنْدَ ذَلِكَ يَصْرُخُ مَعَ الصَّارِخِينَ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، قَالَ تعالى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحَاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَدَّعْنَا عَامَاً هِجْرِيَّاً مَضَى مِنْ أَعْمَارِنَا، وَهَا نَحْنُ نَسْتَقْبِلُ عَامَاً جَدِيدَاً، فَالعَاقِلُ مِنَّا مَنْ حَافَظَ عَلَى الأَوْقَاتِ، وَاسْتَثْمَر العُمُرَ، وَهَذَا الأَمْرُ يَحْتَاجُ إلى حَزْمٍ وَعَزْمٍ وَهِمَّةٍ وَقُوَّةٍ وَإِرَادَةٍ.
أَمَّا البَطَالَةُ وَالكَسَلُ فَهِيَ دَاءٌ وَبِيلٌ وَمَرَضٌ خَطِيرٌ، وَمَنْ أَكْثَرَ الرُّقَادَ عُدِمَ المُرَادَ، وَمَنْ دَامَ كَسَلُهُ خَابَ أَمَلُهُ.
يَا مَنْ ضَيَّعَ عُمُرَهُ في المَلَاهِي وَالمَقَاهِي وَالغَفْلَةِ وَاتِّبِاعِ الشَّهَوَاتِ، وَأَعْرَضَ عَنْ مَوْلَاهُ الجَلِيلِ، لَقَدْ ظَنَنْتَ أَنَّ الحَيَاةَ لَهْوٌ، وَلَكِنْ هَلْ تَظُنُّ أَنَّ المَوْتَ لَهْوٌ؟
لَا تَصْرِفِ الأَيَّامَ بيْنَ الأَوْهَامِ وَالأَحْلَامِ، إِذَا كُنْتَ تَجْهَلُ مِقْدَارَ مَا تُضَيِّعُ مِنَ الزَّمَنِ فَقِفْ عَلَى القُبُورِ مُلْتَمِسَاً مِنْ سُكَّانِهَا بُرْهَةً مِنَ الوَقْتِ، لِتَعْلَمَ مِنْهُمْ بِأَنَّ الوَقْتَ عَزِيزٌ لَا يُمْلَكُ، وَفَائِتٌ لَا يُسْتَدْرَكُ، وَكَمْ مِنْ قَائِلٍ في القَبْرِ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: العُمُرُ الذي مَضَى لَا يَعُودُ، وَمَنْ لَمْ يُشْغِلْ نَفْسَهُ بِالخَيْرِ شَغَلَهُ بِالبَاطِلِ، مَا قِيمَةُ الإِنْسَانِ إِذَا كَانَ وَقْتُهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لَا في أَمْرِ دِينِهِ، وَلَا في أَمْرِ دُنْيَاهُ.
مَا قِيمَةُ الإِنْسَانِ إِذَا ضَيَّعَ فَرَاغَهُ في لَهْوٍ دُونَ فَائِدَةٍ لِدِينِهِ أَو لِدُنْيَاهُ، وَالأَسْوَأُ حَالَاً إِذَا ضَيَّعَ عُمُرَهُ مَعَ مَالِهِ مَعَ صِحَّتِهِ.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ حَافَظَ عَلَى الوَقْتِ، لِأَنَّ مَنْ حَافَظَ عَلَى الوَقْتِ لَا يُدْرِكُهُ المَقْتُ.
وَكُلُّ عَامٍ وَأَنْتُمْ بِخَيْرٍ.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الثلاثاء: 1/ محرم /1440 هـ، الموافق: 9/ أيلول / 2018م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ شَهْرُ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد
أَخْرَجَ الإِمَامُ النَّسَائِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ. قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ ... المزيد
الدُّنْيَا دَارُ عَمَلٍ، وَفُرْصَةُ تَزَوُّدٍ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ، قَالَ تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾. الأَيَّامُ تَتَعَاقَبُ وَتَتَوَالَى، وَهَا نَحْنُ في الشِّتَاءِ، فَلْنَسْمَعْ وَصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ ... المزيد
مَاذَا جَرَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ؟ هَلْ تَفْقِدُ ذَاكِرَتَهَا وَتَجْلِسُ مَعَ عَدُوِّهَا تَبْحَثُ عَنْ سَلَامٍ وَعُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ؟ يَذْبَحُهَا عَدُوُّهَا بِالأَمْسِ، فَتَمُدُّ لَهُ ذِرَاعَ المُصَافَحَةِ اليَوْمَ. يَصْفَعُهَا بِالأَمْسِ، ... المزيد
مَاذَا يَقُولُ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ، وَمَاذَا يَفْعَلُ وَالمَجَازِرُ الدَّمَوِيَّةُ تُرْتَكَبُ عَلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَفي غَزَّةَ خَاصَّةً شَمَلَتِ الشُّيُوخَ وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَالَ الضُّعَفَاءَ وَالآمِنِينَ، وَالعَالَمُ كُلُّهُ ... المزيد
مَا أَجْمَلَ شَهْرَ الرَّبِيعِ الذي وُلِدَ فِيهِ الحَبِيبُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟! حَيْثُ إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ يُذَكِّرُنَا بِفَصْلِ الرَّبِيعِ الذي فِيهِ تَتَفَتَّحُ الأَزْهَارُ، وَتُغَرِّدُ ... المزيد