135ـ كلمة شهر جمادى الأولى 1439: حاجة الأمة إلى خلق الحياء

135ـ كلمة شهر جمادى الأولى 1439: حاجة الأمة إلى خلق الحياء

 

135ـ كلمة شهر جمادى الأولى 1439: حاجة الأمة إلى خلق الحياء

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ أَسَرَّ سَرِيرَةً أَلبَسَهُ اللهُ تعالى رِدَاءَهَا، وَمَن أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِخُلُقِ الحَيَاءِ فَقَدْ أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِخُلُقِ الكِرَامِ، أَهْلِ المُرُوءَةِ وَالشَّرَفِ، وَأَهْلِ الفَضْلِ وَالعَقْلِ؛ وَمَنْ حُرِمَ هَذَا الخُلُقَ فَقَدْ حُرِمَ الخَيْرَ كُلَّهُ.

الحَيَاءُ مِنَ اللهِ تعالى دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الإِيمَانِ، فَعِنْدَمَا تَرَى العَبْدَ يَشْمَئِزُّ مِنْ فِعْلِ مَا لَا يَلِيقُ، فَاعْلَمْ أَنَّ ضَمِيرَهُ حَيٌّ، وَمَعْدِنَهُ نَقِيٌّ، وَعُنْصُرَهُ زَكِيٌّ؛ وَإِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ لَا يَكْتَرِثُ وَلَا يُبَالِي بِمَا يَبْدُرُ مِنْهُ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ امْرُؤٌ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ وَازِعٌ يَمْنَعُهُ مِنَ ارْتِكَابِ المُخَالَفَاتِ وَالكَبَائِرِ، وَاقْتِرَافِ الآثَامِ وَالدَّنَايَا.

الحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: خُلُقُ الحَيَاءِ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ، وَصَاحِبُ هَذَا الخُلُقِ وَجْهُهُ أَكْبَرُ شَاهِدٍ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

لَا تَسْأَلِ المَرْءَ عَنْ خَلَائِقِهِ   ***   فِي وَجْهِهِ شَاهِدٌ مِنَ الْخَبَرِ

وَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ في قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ قَالَ مُخْبِرَاً عَنْهُ وَعَنْ صَاحِبَيْهِ في السِّجْنِ: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾.

روى الشيخان عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ».

وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ، وَالإِيمَانُ فِي الجَنَّةِ، وَالبَذَاءُ مِنَ الجَفَاءِ، وَالجَفَاءُ فِي النَّارِ».

وَقَالَ بَعْضُ الحُكَمَاءِ: مَنْ كَسَاهُ الْحَيَاءُ ثَوْبَهُ لَمْ يَرَ النَّاسُ عَيْبَهُ.

وَقَالَ بَعْضُ البُلَغَاءِ: حَيَاةُ الْوَجْهِ بِحَيَائِهِ، كَمَا أَنَّ حَيَاةَ الْغَرْسِ بِمَائِهِ.

وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:

إذَا قَـلَّ مَاءُ الوَجْهِ قَلَّ حَيَاؤُهُ   ***   وَلَا خَيْرَ فِي وَجْهٍ إذَا قَلَّ مَاؤُهُ

حَيَاؤُك فَاحْفَظْهُ عَلَيْك وَإِنَّمَا   ***   يَـدُلُّ عَلَى فِعْلِ الْكَرِيمِ حَيَاؤُهُ

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَيْسَ لِمَنْ سُلِبَ حَيَاؤُهُ صَادٌّ عَنْ قَبِيحٍ، وَلَا زَاجِرٌ عَنْ مَحْظُورٍ، فَهُوَ يُقْدِمُ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَيَأْتِي مَا يَهْوَى، وَتَحَقَّقَ فِيهِ قَوْلُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِْ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَهَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ لَيْسَ فِيهِ إِغْرَاءٌ لِفِعْلِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ ـ مَعَاذَ اللهِ تعالى ـ بَلْ تَحْرِيضٌ عَلَى تَركِهَا، وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

إذَا لَمْ تَـخْشَ عَـاقِـبَةَ اللَّيَالِي   ***   وَلَمْ تَـسْـتَحِ فَاصْنَعْ مَا  تَشَاءُ

فَلَا وَاللهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَـيْرٌ   ***   وَلَا الـدُّنْـيَا إذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ

يَعِيشُ المَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ   ***   وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ

حَاجَةُ الأُمَّةِ إلى خُلُقِ الحَيَاءِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ الأُمَّةَ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى خُلُقِ الحَيَاءِ، فَالفَسَادُ مَا طَمَّ وَلَا عَمَّ إِلَّا بِسَبَبِ قِلَّةِ الحَيَاءِ مِنَ اللهِ تعالى، وَعَدَمِ التَّحَقُّقِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ».

قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ للهِ.

قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ» رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَقُولُ أَبُو الحَسَنِ المَاوَرْدِيُّ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي المَنَامِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي.

فَقَالَ: اسْتَحِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ؛ ثُمَّ قَالَ: تَغَيَّرَ النَّاسُ.

قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: كُنْتُ أَنْظُرُ إلَى الصَّبِيِّ فَأَرَى مِنْ وَجْهِهِ البِشْرَ وَالحَيَاءَ، وَأَنَا أَنْظُرُ إلَيْهِ الْيَوْمَ فَلَا أَرَى ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ.

ثُمَّ تَكَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَصَايَا وَعِظَاتٍ تَصَوَّرْتُهَا، وَأَذْهَلَنِي السُّرُورُ عَنْ حِفْظِهَا، وَوَدِدْت أَنِّي لَوْ حَفِظْتهَا.

فَلَمْ يَبْدَأْ بِشَيْءٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ بِالْحَيَاءِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَعَلَ مَا سُلِبَهُ الصَّبِيُّ مِنَ البِشْرِ وَالحَيَاءِ سَبَبَاً لِتَغَيُّرِ النَّاسِ، وَخَصَّ الصَّبِيَّ، لِأَنَّ مَا يَأْتِيهِ بِالطَّبْعِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ.

فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ هَدَى أُمَّتَهُ، وَتَابَعَ إنْذَارَهَا، وَقَطَعَ أَعْذَارَهَا، وَأَوْصَلَ تَأْدِيبَهَا، وَحَفِظَ تَهْذِيبَهَا، وَجَعَلَ لِكُلِّ عَصْرٍ حَظَّاً مِنْ زَوَاجِرِهِ، وَنَصِيبَاً مِنْ أَوَامِرِهِ؛ أَعَانَنَا اللهُ عَلَى قَبُولِهَا بِالعَمَلِ، وَعَلَى اسْتِدَامَتِهَا بِالتَّوْفِيقِ. /كَذَا في كِتَابِ أَدَبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُلُّنَا مَوْتَى، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾. فَأَيْنَ الخَائِفُ مِنَ المَوْتِ؟ وَأَيْنَ الخَائِفُ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ؟ وَأَيْنَ الوَجِلُ مِنْ بُعْدِ السَّفَرِ، وَوَحْشَةِ الطَّرِيقِ؟ مَنْ مِنَّا يَحْفَظُ الرَّأْسَ وَمَا وعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَيَذْكُرُ المَوْتَ وَالبِلَى؟

وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حَقَّ الحَيَاءِ مِنْكَ، وَوَفِّقْنَا لِأَنْ نَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَأَنْ نَذْكُرَ المَوْتَ وَالبِلَى. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 1/ جمادى الأولى /1439هـ ، الموافق: 18/كانون الثاني / 2018م

 2018-01-21
 2433
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  كلمة الشهر

13-03-2024 134 مشاهدة
211ـ القرآن أنيسنا

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ شَهْرُ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد

 13-03-2024
 
 134
09-02-2024 443 مشاهدة
210ـ انظر عملك في شهر شعبان

أَخْرَجَ الإِمَامُ النَّسَائِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ. قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ ... المزيد

 09-02-2024
 
 443
13-01-2024 279 مشاهدة
209ـ اغتنام ليل الشتاء

الدُّنْيَا دَارُ عَمَلٍ، وَفُرْصَةُ تَزَوُّدٍ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ، قَالَ تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.  الأَيَّامُ تَتَعَاقَبُ وَتَتَوَالَى، وَهَا نَحْنُ في الشِّتَاءِ، فَلْنَسْمَعْ وَصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ ... المزيد

 13-01-2024
 
 279
14-12-2023 386 مشاهدة
208ـ ماذا جرى لهذه الأمة؟

مَاذَا جَرَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ؟ هَلْ تَفْقِدُ ذَاكِرَتَهَا وَتَجْلِسُ مَعَ عَدُوِّهَا تَبْحَثُ عَنْ سَلَامٍ وَعُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ؟ يَذْبَحُهَا عَدُوُّهَا بِالأَمْسِ، فَتَمُدُّ لَهُ ذِرَاعَ المُصَافَحَةِ اليَوْمَ. يَصْفَعُهَا بِالأَمْسِ، ... المزيد

 14-12-2023
 
 386
16-11-2023 500 مشاهدة
207ـ لا تزال الأمة تبتلى

مَاذَا يَقُولُ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ، وَمَاذَا يَفْعَلُ وَالمَجَازِرُ الدَّمَوِيَّةُ تُرْتَكَبُ عَلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَفي غَزَّةَ خَاصَّةً شَمَلَتِ الشُّيُوخَ وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَالَ الضُّعَفَاءَ وَالآمِنِينَ، وَالعَالَمُ كُلُّهُ ... المزيد

 16-11-2023
 
 500
16-09-2023 526 مشاهدة
205ـ كيف لا نحب الحبيب صلى الله عليه وسلم!

مَا أَجْمَلَ شَهْرَ الرَّبِيعِ الذي وُلِدَ فِيهِ الحَبِيبُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟! حَيْثُ إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ يُذَكِّرُنَا بِفَصْلِ الرَّبِيعِ الذي فِيهِ تَتَفَتَّحُ الأَزْهَارُ، وَتُغَرِّدُ ... المزيد

 16-09-2023
 
 526

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3153
المكتبة الصوتية 4762
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411952270
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :