29ـ نحو أسرة مسلمة: درِّبوا أولادكم على حبِّ خلق العطاء(1)

29ـ نحو أسرة مسلمة: درِّبوا أولادكم على حبِّ خلق العطاء(1)

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

خلاصة الدرس الماضي

فقد ذكرنا في الدرس الماضي ظاهرة السرقة عند الأبناء وعالجنا تلك الظاهرة، وقلنا بأنَّه يجب على الآباء أن يكونوا قدوة للأبناء في الاستقامة في كل شيء، وخاصة في مسألة الرزق أن يكون عن طريق مشروع، وهذا يتطلب منا أن نراقب الله عز وجل في جميع شؤوننا وأحوالنا، وأن نربي أبناءنا على ذلك وأن نستحضر الآخرة أمامنا في سائر أمورنا.

يجب أن نكون على حذر وأن نحذِّر أبناءنا من لقمة الحرام، وذلك للحديث الشريف عن خَوْلَةَ بِنْتِ عامِرٍ الأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ الله بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه البخاري.

وعَنْ أبي مُوسى الأشْعَرِيِّ رضي الله عنْهُ أنَّ النَّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وسَلَّم قال: (لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ أَمِنْ حَلالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ) رواه البخاري.

هؤلاء حريصون على المال من حلال أم من حرام؟ لا إشكال فيه عندهم لأنهم نسوا قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا}.

المال وسيلة وليس بغاية:

أيُّها الإخوة: يجب علينا أن نبحث عن الغاية التي ما بعدها غاية، ألا وهي جنة الله عز وجل، مرضاة الله عز وجل، الغاية التي ما بعدها غاية، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة}. هذه هي الغاية الحقيقية وأما ما عدا ذلك فليس بغاية في حقيقة الأمر، بل هو وسيلة.

لو كان المال غاية لما اشترى الإنسان بالمال شيئاً، ولما أكل بالمال شيئاً، ولما تزوَّج بالمال امرأة، المال وسيلة للوصول إلى غاية في ظاهر الأمر والحقيقة كلها وسائل وليست بغايات.

الطالب في المرحلة الابتدائية غايته أن يأخذ الشهادة، فإذا أخذها أخذ يفكر في الغاية التي تليها وهي الشهادة الإعدادية، فإذا أخذها فكر بالشهادة التي تليها وهي الشهادة الثانوية وهكذا.

يفرح الإنسان إذا حقَّق وسيلة ليصل من ورائها إلى وسيلة ثانية، ومنها إلى ثالثة وهكذا.. ما هي النتيجة؟

النتيجة في الحديث الذي يرويه الصحابي الجليل سهل بن سعد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس) رواه الطبراني. النتيجة ما كنا نظنه غاية كان وسيلة وكل ذلك صار هباءً منثوراً، أما من عرف الغاية الحقيقية: إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي فإنَّه يبذل كلَّ ما كان يظنه غايةً ليجعل منه وسيلة إلى الوصول إلى الغاية الصحيحة التي ما بعدها غاية ألا وهي: {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِين}. ألا وهي: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار}. ألا وهي: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة}.

الحرص إما أن يكون صفة كمال أو نقص:

لا شك بأنَّ من سرق كان حريصاً على عمارة الدنيا الفانية، لأنَّها غايته، ولا شك بأنَّ من تصدق كان حريصاً على عمارة آخرته الباقية لأنَّها غايته، وشتان بين الحريصين، واحد حريص على فانية وفي نهاية المطاف سيكون نادماً، والآخر حريص على باقية وفي نهاية المطاف سيكون سعيداً، فأيُّهما العاقل منهما؟

فمن كان حريصاً على دنيا عاجلة فانية كان حرصه ناقصاً، وكمن كان حريصاً على آخرة باقية كان حرصه كاملاً.

وقد روى البخاري تعليقاً عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (ارْتَحَلَتْ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتْ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلا عَمَلٌ).

لندرِّب أبناءنا على حبِّ خلق العطاء:

لذلك وجب علينا أيُّها الإخوة أن ندرب أبناءنا على خلق حبِّ العطاء حرصاً منا على حياتهم الباقية، بعد أن حذَّرناهم من خلق سيء وهو حب أخذ مال الغير بطريق غير مشروع حرصاً منهم على الحياة الدنيا الفانية.

فمن تصدق كان حريصاً على مستقبله في الآخرة، ومن سرق كان حريصاً على الدنيا الفانية فهذا خاب وخسر، وذاك فاز وربح.

القرآن حرَّضنا على خلق العطاء:

تعالوا أيُها الإخوة لنقرأ آيات من كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تحرِّضنا على خلق العطاء والإنفاق.

أولاً: يقول الله تعالى: {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَل}. أمرٌ من الله تعالى لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمرنا بإقامة الصلاة وبالإنفاق سراً وعلانية ونحن في دار الفناء من أجل الانتفاع بتلك النفقة في دار البقاء حيث لا درهم ولا دينار ولا مال ولا بنون قال تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون *إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيم}.

ثانياً: يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ}. يأمر الله تعالى بالإنفاق في دار الفناء للانتفاع منها في دار البقاء.

ثالثاً: يقول الله تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِين}. لماذا قال فأصدَّق أولاً؟

لأنَّ الإنسان عندما يقع في سياق الموت يُكشف له عن بصره، كما قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد}. فعند ذلك يرى الجنة ويرى النار، وكأنَّ هذا العبد يتذكَّر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) رواه البخاري.

فكن متصدِّقاً ودرِّب ولدك على حب خلق العطاء إذا كان حرصنا على الدار الباقية، وذلك من خلال امتثال أوامر الله عز وجل التي تحضنا على الصدقة.

النبي صلى الله عليه وسلم حَرَّضنا على خلق العطاء:

واسمعوا أيُّها الإخوة بعض أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تحرضنا على خلق العطاء والإنفاق.

أولاً: يقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلا يَقْبَلُ الله إِلا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ الله يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ) رواه البخاري. الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، تصدَّق ولو بشيء قليل على أن يكون من كسب طيب، لأنَّ التصدق بالخبيث لا يكون صدقة، ومن اعتقد بأنَّ الصدقة تصحَّ ولو كانت من كسب خبيث فإنَّه يُخشى على إيمانه من السلب، لأنَّه يتقرب إلى الله تعالى بالكسب الخبيث.

ثانياً: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ الله فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ، الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجلٌ قَلْبهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي الله اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) رواه البخاري. حرَّضنا على الصدقة، على العطاء في دار الفناء من أجل أن ننعم في دار البقاء، وأن يكون العبد تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.

ثالثاً: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (قَالَ الله: أَنْفِقْ يَا بْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ) رواه البخاري. والآمر ضامن، فلا يسعك إلا أن تمتثل أمر الله تعالى، ثم لتعلم علماً جازماً بأنَّ وعده محقق لا يُخلف.

فضائل الصدقة وفوائدها:

أيُّها الإخوة الكرام: علِّموا أولادكم فضائل الصدقة وفوائدها، لأنَّه من عرف الفوائد والفضائل اندفع لتحقيقها، مع أنَّه من اللائق بالمؤمن أن يندفع إلى الصدقة عرف الفضائل والفوائد أم لم يعرف، لأنَّ المؤمن يمتثل أمر الله تعالى عرف العلة والغاية أم لم يعرفها، ولكن من فضل الله علينا أن عرَّفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فضائل وفوائد الصدقة. منها:

أولاً: الصدقة تطفئ غضب الرب جل جلاله:

عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن صدقة السر تطفئ غضب الرب، وإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وإن صلة الرحم تزيد في العمر، وتقي الفقر. وأكثروا من قول: لا حول ولا وقوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة، وإن فيها شفاء من تسعة وتسعين داء، أدناها الهم) رواه الطبراني. من يطيق غضب الرب والعياذ بالله تعالى؟ وصفة الغضب من صفات الجلال التي تقصم الظهور، ولكن بالصدقة سراً يتجلى المولى جل جلاله على عبده بالرضا بعد الغضب.

ثانياً: الصدقة تمحو الخطايا:

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ومن منا لا خطيئة عنده؟ ومن منا ما وقف على حقيقة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطَّاء وخير الخطَّائين التوابون) رواه الحاكم. ما أكثر خطايانا؟

هناك من يقول: أنا ما عندي خطايا، أنا أصوم وأصلي ولا أزني ولا أشرب الخمر.... نعم أنت فعلت ذاك وتركت ذاك، ولكن هل تفقَّدت معاصي اللسان، ومعاصي الأذن، ومعاصي القلب؟ أين أنت من الغيبة والنميمة؟ أين أنت من الحقد والكبر؟ أين أنت من السخرية والهمز واللمز؟

ذنوبنا كثيرة وخطايانا كثيرة، بل ربما أن ينظر أحدنا إلى الكبيرة فيجدها صغيرة، على العكس مما كان عليه سلفنا الصالح رضي الله عنه، كان يقول: لقد كنا نعمل أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعرة، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات.

تصدقوا وعلموا أولادكم الصدقة لإطفاء خطايانا التي لا تعد ولا تحصى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ثالثاً: الصدقة تظلل العبد في أرض المحشر:

عن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: (كلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ) رواه أحمد. كلنا يعلم أهوال يوم القيامة وشدة الموقف في أرض المحشر، حيث تدنو الشمس من الرؤوس بمقدار ميل، ويخوض الناس في عرقهم كلٌّ على حسب عمله، وفي أرض المحشر هناك من يُظلِّه الله تعالى في ظل صدقته.

هلَّا فكرت في أن تجعل لنفسك ظلاً في ذاك اليوم؟ فوسِّع ظلَّك إن شئت أو ضيِّقه من خلال صدقتك. تعلَّم هذا وعلِّمه لأولادك.

رابعاً: الصدقة دواء لقسوة القلب:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ) رواه أحمد.

قسوة القلب من الشقاء، يقول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ الله أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين}. وعلامة قسوة القلب جمود العينين، تفقَّد عيناك هل هما جامدتان؟ فإن كانتا جامدتين فهذا دليل على قسوة القلب، والذي يلين القلب هو الصدقة. تعلَّم هذا وعلِّمه لأولادك.

خامساً: الصدقة سبب لدعاء الملك لك:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللهمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) رواه مسلم. والمَلَك لا يفعل إلا ما يؤمر، فإذا أُمر الملك من الله تعالى بالدعاء لمن أنفق أن يخلفه الله، فهل تتوقع أن لا يستجيب الله تعالى لدعائه؟ تعلَّم هذا وعلِّمه لأولادك.

سادساً: الصدقة لا تنقص المال:

عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (ثَلاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ، قَالَ: فَأَمَّا الثَّلاثُ الَّذِي أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ فَإِنَّهُ مَا نَقَّصَ مَالَ عَبْدٍ صَدَقَةٌ، وَلا ظُلِمَ عَبْدٌ بِمَظْلَمَةٍ فَيَصْبِرُ عَلَيْهَا إِلا زَادَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عِزًّا، وَلا يَفْتَحُ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلا فَتَحَ الله لَهُ بَابَ فَقْرٍ. وَأَمَّا الَّذِي أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٌ رَزَقَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ حَقَّهُ، قَالَ: فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ. قَالَ: وَعَبْدٌ رَزَقَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، قَالَ: فَهُوَ يَقُولُ لَوْ كَانَ لِي مَالٌ عَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلانٍ، قَالَ: فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ. قَالَ: وَعَبْدٌ رَزَقَهُ الله مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقَّهُ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ. قَالَ: وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ الله مَالاً وَلا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلانٍ، قَالَ: هِيَ نِيَّتُهُ فَوِزْرُهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ) رواه أحمد. هل يحتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق أن يقسم؟ لقد أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنَّه ما عرف عنه إلا الصدق، أقسم بأنَّ المال لا ينقص بالصدقة لأنَّ الله عز وجل وعد بالخلف، قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين}. ويقول الله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُون}. سبحان الله ما أعظم الله، أمرنا بالإنفاق، وعالج أنفسنا الأمارة بالسوء مباشرة بقوله: {يُخْلِفُهُ}. وبقوله تعالى: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}. فالله تعالى يعلم حرص العبد على الدنيا، وربما أن تتحرَّك النفس الأمارة بالسوء عندما يريد صاحبها أن يتصدق، فأخبر الله تبارك وتعالى بأنَّه سيخلفه. تعلَّم هذا وعلِّمه لأبنائك.

سابعاً: الصدقة سبب لدخول الجنة من بابها الخاص:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ الله نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ الله هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ الله مَا عَلَى أَحَدٍ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ) رواه مسلم. معنى زوجين: أي صنفين.

فيا من هو حريص على دار البقاء أن يكون فيها منعَّماً، عليك بالصدقة والمحافظة على الصلاة والصيام والجهاد في سبيل الله عز وجل. تعلَّم هذا وعلِّمه لأبنائك.

وكذلك إذا ما اجتمعت الصدقة مع الصيام واتباع الجنائز وعيادة المريض في يوم واحد في عبد من العباد إلا وجبت له الجنة بفضل الله عز وجل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ) رواه مسلم. انظر إلى الصحابة رضي الله عنهم وحرصهم على فعل الخير اللازم والمتعدي. تعلَّم هذا وعلِّمه أولادك.

خاتمة ونسأل الله تعالى حسنها:

وأخيراً أذكر نفسي وأذكرك بالحديث الشريف، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الله يُحِبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ) رواه الترمذي.

فيا أخي الكريم: أظهر نعمة الله عليك حتى يعرفك الناس، أظهر نعمة الله عليك حتى يقصدك أصحاب الحاجة، لأنَّ الله تعالى يحب هذا، أظهر نعمة الله عليك لتكون جواداً كريماً وأنت تتمثل قول الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِين * كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم}.

كن محسناً والمحسن يرى لله عز وجل عليه حقاً سوى الزكاة، لذلك يعطي السائل والمحروم ليس من الحق المعلوم وهو الزكاة فقط، بل يعطي بمقدار حاجة السائل والمحروم، وخاصة وها نحن نستقبل أيام عشر ذي الحجة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ، يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله؟ قَالَ: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله، إِلا رَجُلًا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ) رواه أحمد.

العمل الصالح فيهنَّ ليس مقصوراً على الصيام والقيام، وخاصة هذه الأيام العشر قد جاءت في فصل الشتاء، فهي الغنيمة الباردة، عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ الْجُمَحِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ) رواه أحمد.

العمل الصالح فيهنَّ صيام وقيام وتلاوة قرآن وصدقة وصلة رحم، وأمرٌ بالمعروف ونهي عن المنكر، وإصلاح ذات البين إلى سائر الأعمال الصالحة. أرجو الله عز وجل أن يكرمنا بها. آمين .

ولعلنا نتمم هذا الموضوع في درس قادم. والحمد لله رب العالمين.

**     **     **

 

 2008-11-26
 1900
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  نحو أسرة مسلمة

28-01-2018 4117 مشاهدة
200ـ نحو أسرة مسلمة: اللَّهُمَّ فهمنيها

لِتَحْقِيقِ السَّعَادَةِ في حَيَاتِنَا الأُسَرِيَّةِ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ القُرْآنِ العَظِيمِ تَعَامُلَاً صَحِيحَاً، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتِّلَاوَةِ مَعَ التَّدَبُّرِ، قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ... المزيد

 28-01-2018
 
 4117
21-01-2018 4969 مشاهدة
199ـ نحو أسرة مسلمة :مفتاح سعادتنا بأيدينا

كُلَّمَا تَذَكَّرْنَا يَوْمَ الحِسَابِ، يَوْمَ العَرْضِ عَلَى اللهِ تعالى، يَوْمَ نَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى حُفَاةً عُرَاةً غُرْلَاً، وَكُلَّمَا تَذَكَّرْنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَنَعِيمَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ، ... المزيد

 21-01-2018
 
 4969
14-01-2018 3564 مشاهدة
198ـنحو أسرة مسلمة : بعد كل امتحان ستعلن النتائج

صَلَاحُ أُسَرِنَا لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا عَرَفَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الغَايَةَ مِنْ وُجُودِهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ الكَثِيرُ مِنَ الأَزْوَاجِ مِمَّنْ دَخَلَ الدُّنْيَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ لَا يَدْرِي وَلَا يَعْلَمُ لِمَاذَا ... المزيد

 14-01-2018
 
 3564
08-01-2018 4156 مشاهدة
197ـنحو أسرة مسلمة: وصية الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لنا

القُرْآنُ العَظِيمُ الذي أَكْرَمَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَاصْطَفَانَا لِوِرَاثَتِهِ هُوَ مَصْدَرُ سَعَادَتِنَا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَمَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ في حَيَاتِهِ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَعَلَيْهِ ... المزيد

 08-01-2018
 
 4156
31-12-2017 4186 مشاهدة
196ـ نحو أسرة مسلمة :دمار الأسر بسبب الفسق والفجور

إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ شَقَاءِ البُيُوتِ، وَكَثْرَةِ الخِلَافَاتِ بَيْنَ الأَزْوَاجِ، المَعَاصِيَ وَالمُنْكَرَاتِ، التي تُنَكِّسُ الرُّؤُوسَ في الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، وَالتي تُسْلِمُ إلى مُقَاسَاةِ العَذَابِ الأَلِيمِ في الدُّنْيَا قَبْلَ ... المزيد

 31-12-2017
 
 4186
24-12-2017 3972 مشاهدة
195ـنحو أسرة مسلمة : أين بيوتنا من تلاوة القرآن؟

سِرُّ سَعَادَتِنَا في حَيَاتِنَا الزَّوْجِيَّةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَحَوُّلِنَا مِنَ الشَّقَاءِ إلى السَّعَادَةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ هِدَايَتِنَا مِنَ الضَّلَالِ إلى الهُدَى القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَمَاسُكِ أُسَرِنَا ... المزيد

 24-12-2017
 
 3972

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3159
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412622811
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :