577ـ خطبة الجمعة: الأقصى يحتاج إلى ﴿عِبَادَاً لَنَا﴾

577ـ خطبة الجمعة: الأقصى يحتاج إلى ﴿عِبَادَاً لَنَا﴾

 

577ـ خطبة الجمعة: الأقصى يحتاج إلى ﴿عِبَادَاً لَنَا﴾

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مَسْأَلَةَ المَسْجِدِ الأَقْصَى، وَالحَدِيثَ عَنْهُ، وَعَنْ مَوْقِفِ الأُمَّةِ مِنْ أَحْدَاثِ السَّاعَةِ حَوْلَ المَسْجِدِ الأَقْصَى ، يَتَطَلَّبُ مِنَ الأُمَّةِ أَنْ تَقْرَأَ بِتَدَبُّرٍ صَدْرَ سُورَةِ الإِسْرَاءِ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلَاً مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلَاً * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدَاً شَكُورَاً﴾.

لَقَدْ بُدِئَتِ السُّورَةُ بِالعُبُودِيَّةِ التي تَحَقَّقَ بِهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَسَيِّدُنَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَنْ تَحَقَّقَ بِالعُبُودِيَّةِ حَاشَا لِمَوْلَانَا أَنْ يَتَخَلَّى عَنْهُ في الظُّرُوفِ القَاسِيَةِ، فَهَذَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي تَحَقَّقَ بِالعُبُودِيَّةِ للهِ تعالى، أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِخَارِقَةٍ مِنْ خَوَارِقِ العَادَاتِ، فَأَسْرَى بِهِ مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إلى مَكَانٍ سَمِعَ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلَامِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الضِّيقِ الذي وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَهْلِ الطَّائِفِ.

وَأَمَّا سَيِّدُنَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ الذي تَحَقَّقَ بِالعُبُودِيَّةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَدْ أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِخَارِقَةٍ مِنْ خَوَارِقِ العَادَاتِ، فَفَتَحَ أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرَ الأَرْضَ عُيُونَاً، وَحَمَلَهُ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى سَفِينَةٍ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ.

﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مُعَالَجَةَ وَاقِعِنَا المَرِيرِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ خِلَالِ القُرْآنِ العَظِيمِ، مِنْ خِلَالِ كَلَامِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَالذي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ في الأَرْضِ ولَا في السَّمَاءِ، وَالذي أَعْطَانَا صُورَتَيْنِ مِنْ صُوَرِ التَّأْيِيدِ لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَلِسَيِّدِنَا نُوحٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، اللَّذَيْنِ تَحَقَّقَا بِالعُبُودِيَّةِ للهِ تعالى.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مَسْأَلَةَ المَسْجِدِ الأَقْصَى لَنْ تَنْتَهِيَ حَتَّى نَعُودَ إلى اللهِ تعالى عِبَادَاً، فَإِذَا كُنَّا عِبَادَاً للهِ تعالى فَوَاللهِ لَنْ تَطُولَ فَتْرَةُ اليَهُودِ في فِلَسْطِينَ، فَضْلَاً عَنِ المَسْجِدِ الأَقْـصَى، لِأَنَّ رَبَّنَا جَلَّ جَلَالُهُ جَعَلَ ذَلِكَ وَعْدَاً شَرْعِيَّاً، فَقَالَ تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادَاً لَنَا﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ كَلِمَةَ عِبَادٍ في القُرْآنِ الكَرِيمِ بِشَكْلٍ عَامٍّ إِذَا جَاءَتْ مُضَافَةً بِاليَاءِ، كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. أَو جَاءَتْ مُضَافَةً بِالنُّونِ، كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ﴾. وَكَقَوْلِهِ تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾. فَهَذِهِ الإِضَافَةُ تَعْنِي إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ.

وَإِذَا عَرَفْنَا هَذَا، عَرَفْنَا أَنَّ قَضِيَّةَ المَسْجِدِ الأَقْصَى تَحْتَاجُ إلى عِبَادٍ تَحَقَّقُوا بِالعُبُودِيَّةِ للهِ تعالى، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادَاً لَنَا﴾. فَسِلَاحُ الأُمَّةِ هُوَ التَّحَقُّقُ بِالعُبُودِيَّةِ للهِ تعالى.

كُلُّنَا وَبِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ انْفَعَلَ للِقَرَارِ الذي صَدَرَ في حَقِّ المَسْجِدِ الأَقْـصَى، وَسَطَّرَ كَلِمَاتٍ عَلَى صَفَحَاتِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ، وَرُبَّمَا خَاطَبَ بَعْضُهُمُ الآخَرِينَ بِكَلِمَاتٍ جَارِحَةٍ وَغَيْرِ جَارِحَةٍ؛ وَلَكِنْ: مَنْ غَيَّرَ مَنْهَجَ حَيَاتِهِ؟ أَيْنَ مَنْ تَرَكَ هَوَاهُ لِمَا جَاءَ بِهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ أَيْنَ مَنْ غَيَّرَ مُعَامَلَاتِهِ التِّجَارِيَّةِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ إلى مُعَامَلَاتٍ شَرْعِيَّةٍ؟ أَيْنَ مَنِ الْتَفَتَ إلى بَيْتِهِ وَغَيَّرَ المُنْكَرَاتِ في بَيْتِهِ، وَخَاصَّةً مِنْ لُبْسِ المَرْأَةِ الثِّيَابَ الفَاضِحَةَ؟ أَيْنَ مَنْ أَلْغَى الدِّعَايَاتِ للأَلْبِسَةِ عَنْ طَرِيقِ صُوَرِ النِّسَاءِ العَارِيَاتِ؟ أَيْنَ مَنْ حَكَّمَ وَاحْتَكَمَ لِشَرْعِ اللهِ تعالى؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ المَسْجِدَ الأَقْصَى يَحْتَاجُ إلى أُمَّةٍ تَوَجَّهَتْ إلى اللهِ تعالى، وَتَحَقَّقَتْ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾. فَالأُمَّةُ المُمَزَّقَةُ، المُبَعْثَرَةُ، المُتَنَاحِرَةُ، المُتَخَاصِمَةُ، المُتَقَاتِلَةُ، التي يَلْعَبُ بِهَا عَدُوُّهَا كَمَا يَلْعَبُ الأَوْلَادُ بِالكُرَةِ، لَنْ تَسْتَطِيعَ أَنْ تُقَدِّمَ للأَقْصَى شَيْئَاً.

إِنَّ المَسْجِدَ الأَقْصَى يَحْتَاجُ إلى أُمَّةٍ الْتَزَمَتْ أَوَامِرَ اللهِ تعالى، وَاجْتَنَبَتْ نَهْيَهُ، فَالأُمَّةُ التي انْـتَشَرَ فِيهَا الرِّبَا، وَأَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، وَانْتَشَرَتْ فِيهَا شَهَادَاتُ الزُّورِ، وَانْتَشَرَتْ فِيهَا الفَاحِشَةُ، وَفَسَقَ الكَثِيرُ مِنْ شَبَابِهَا، وَطَغَى الكَثِيرُ مِنْ نِسَائِهَا، وَانْتَشَرَ فِيهَا العُقُوقُ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَانْتَشَرَتْ فِيهَا المُخَدِّرَاتُ، وَأَعْرَضَ فِيهَا الكَثِيرُ عَنِ الصَّلَوَاتِ، وَهَجَرُوا بُيُوتَ اللهِ تعالى، وَخَاصَّةً في صَلَاةِ الفَجْرِ، لَنْ تَسْتَطيعَ أَنْ تُقَدِّمَ للأَقصَى شَيْئَاً.

أُمَّةٌ اجْتَرَأَتْ عَلَى سَفْكِ دِمَائِهَا، وَتَهْدِيم ِبُيُوتِهَا، وَتَشْرِيدِ شَبَابِهَا، وَاجْتَرَأَتْ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ نَبِيِّهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ حَذَّرَنَا وَقَالَ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارَاً، يَـضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» رواه الشيخان عَنْ جَرِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. لَنْ تَسْتَطيعَ أَنْ تُقَدِّمَ للأَقصَى شَيْئَاً.

الأَقْصَى يَحْتَاجُ إلى رِجَالٍ، مِنْ حُكَّامٍ وَمَحْكُومِينَ، صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِأَنْ نَكُونَ عِبَادَاً لَكَ كَمَا أَمَرْتَنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 27/ ربيع الأول /1439هـ، الموافق: 15/ كانون الأول / 2017م

 2017-12-15
 2959
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

21-03-2024 600 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 600
14-03-2024 939 مشاهدة
904ـ خطبة الجمعة: حافظوا على الطاعات والعبادات

فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ عَامِلٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهُ هَدَفٌ يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا. وَقِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ تَأْتِي ... المزيد

 14-03-2024
 
 939
08-03-2024 859 مشاهدة
903ـ خطبة الجمعة: استقبل شهر رمضان بالأمور الآتية

هَا نَحْنُ نَسْتَقْبِلُ شَهْرَ الصَّوْمِ، وَأَنْعِمْ بِالصَّوْمِ عِبَادَةً، بِهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتُ، وَتَكْفِيرُ الخَطِيئَاتِ، وَكَسْرُ الشَّهَوَاتِ، وَتَكْثِيرُ الصَّدَقَاتِ، وَوَفْرَةِ الطَّاعَاتِ، وَشُكْرُ عَالِمِ الخَفِيَّاتِ، وَالانْزِجَارُ ... المزيد

 08-03-2024
 
 859
09-02-2024 2551 مشاهدة
902ـ خطبة الجمعة: حاله صلى الله عليه وسلم في شعبان

إِنَّ المُؤْمِنَ لَيَتَقَلَّبُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَمُدُّ اللهُ تعالى لَهُ في أَجَلِهِ، وَكُلَّ يَوْمٍ يَبْقَاهُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ غَنِيمَةٌ لَهُ لِيَتَزَوَّدَ مِنْهُ لِآخِرَتِهِ، وَيَحْرُثَ فِيهِ مَا اسْتَطَاعَ، ... المزيد

 09-02-2024
 
 2551
02-02-2024 2244 مشاهدة
901ـ خطبة الجمعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾

لِنَكنْ جَمِيعًا عَلَى يَقِينٍ أَنَّنَا سَنَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾. أَلَا وَإِنَّ الخَيْرَ كُلَّ الخَيْرِ في الجَنَّةِ، وَإِنَّ الشَّرَّ كُلَّ ... المزيد

 02-02-2024
 
 2244
25-01-2024 1483 مشاهدة
900ـ خطبة الجمعة: صورة من صور الحياء (2)

مَنْ فَقَدَ الحَيَاءَ فَقَدَ كُلَّ شَيْءٍ، وَصَارَ مُجَرَّدًا مِنْ كُلِّ خُلُقٍ نَبِيلٍ فَاضِلٍ، فَاقِدُ الحَيَاءِ مَمْقُوتٌ خَائِنٌ لَا رَحْمَةَ عِنْدَهُ، بَلْ في غَالِبِ الأَمْرِ الأَعَمِّ تَجِدُهُ مَلْعُونًا عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الخَلْقِ، ... المزيد

 25-01-2024
 
 1483

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3153
المكتبة الصوتية 4762
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411952850
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :