9ـ أخلاق وآداب: آداب النظر

9ـ أخلاق وآداب: آداب النظر

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن أحوج ما نحتاجه في هذه الأيام أن نتعلم آداب النظر، لأن البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبِحَسَب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذير منه، وغضُّه واجبٌ عن جميعِ المحرمات، وكلِّ ما يخشى الفتنة من أجله.

لذلك قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}. ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: حفظ البصر أشدُّ من حفظ اللسان، ويقول: الإثم حزَّاز القلوب ـ أي تحزُّ ـ في القلوب، وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع، ويقول بعض الصالحين: من حفظ بصره أورثه الله نوراً في بصيرته.

فَكلُّ ناظر يجب عليه أن يحفظ قول الله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور}. وقوله تعالى:{إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}. وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرَى}.

ورحم الله القائل:

كل الحوادث مبداها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها *** فتك السهام بلا قوس ولا وتر

والمرء ما دام ذا عين يقلبها *** في أعين الغيد موقوف على الخطر

يَسُرُّ مقلتَه ما ضرَّ مهجته *** لا مرحباً بسرور بعده بالضرر.

فمن آداب النظر التي يجب أن نتعلمها:

أولاً: أدب النظر إلى المحارم: والمقصود بالمحارم هي كل امرأة حرمت عليك حرمةً مؤبَّدة، مثل الأم والبنت والأخت والعمة والخالة، وبنت الأخ والأخت، وأم الزوجة، وزوجة الابن، وهكذا.

فيجوز أن تنظر من ذوات المحارم إلى ما يظهر منهن غالباً كالرأس والرقبة والكفين والقدمين، ويحرم النظر إلى ما بين السرة والركبة، ولا يليق بالمسلم أن ينظر إلى الصدر والبطن والظهر، لأن الحاجة لا تدعو إلى ذلك، ولا يليق بأصحاب الشهامة والرجولة وأصحاب العفة أن ينظروا إلى ذلك، درءاً للفتنة وسداً للذريعة.

كما يحرم على المرأة أن ترى ما بين السرة والركبة من أحد محارمها وإن أمنت الفتنة.

ثانياً: آداب النظر إلى المخطوبة: أجاز شرعنا الحنيف للخاطب صاحب الدين والخلق أن ينظر إلى مخطوبته، كما أجاز للمخطوبة أن تنظر إلى خاطبها، لأنه أدعى إلى دوام المحبة والألفة بينهما، وذلك للحديث الشريف عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا) رواه الترمذي.

ومن آداب النظر إلى المخطوبة:

1. أن ينظر إلى الوجه والكفين فقط بعد عزمه على الزواج.

2. أن يوجد معه أحد محارمها، لأنه لا يجوز الخلوة بها.

3. يجوز أن يكرِّر النظر إليها إلى ثلاث مرات للضرورة.

4.لا يجوز النظر إليها بعد الموافقة على الزواج منها.

5. يجوز أن تحدِّثه ويحدِّثها أثناء الجلسة والنظر بوجود أحد محارمها ولا يجوز بعد ذلك.

6. لا يجوز مصافحتها لأنها أجنبية عنه قبل إجراء العقد عليها.

ثالثاً: آداب النظر إلى الزوجة:

يجوز للرجل أن يرى من زوجته كل شيء بشهوة أو بغير شهوة، للحديث الذي يرويه بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَال َصلى الله عليه وسلم: (احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ) رواه أبو داود.

والأفضل في حق الزوجين أن لا ينظر أحدهما إلى عورة صاحبه، لقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (مَا نَظَرْتُ أَوْ مَا رَأَيْتُ فَرْجَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ) رواه ابن ماجه وأحمد وابن أبي شيبة والبيهقي في السنن الكبرى.

رابعاً: آداب النظر إلى المرأة الأجنبية:

لا يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة الأجنبية ولو كانت غير مشتهاة، من غير ضرورة، لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.

والمقصود بالمرأة الأجنبية هي كل امرأة يحلُّ للرجل أن يتزوَّج منها، كبنت العم وبنت العمة وبنت الخال وبنت الخالة، وزوجة الأخ وزوجة العم والخال، بعد وفاة هؤلاء عنهنَّ أو طلاقهنَّ، وكذلك أخت الزوجة وعمتها وخالتها، لأنه يحلُّ للرجل أن يتزوج منهنَّ بعد طلاق زوجته.

والرجل الأجنبيُّ هو كلُّ رجل يحلُّ للمرأة أن تتزوَّج منه كابن عمها وعمتها وخالها وخالتها وزوج أختها وزوج عمتها وزوج خالتها.

ويلحق بالرجل الصبي المراهق أو المميز الذي يفرِّق بين النساء.

فيحرم النظر إلى عورة المرأة الأجنبية ـ والمرأة كلها عورة ـ وكذلك يحرم على المرأة النظر إلى عورة الرجل الأجنبي وعورته من السرة إلى الركبة، ويحرم ما فوق ذلك إذا كان بشهوة وذلك لقول الله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}.

وللحديث الشريف عَنْ عَبْدِ الله بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ النَّظْرَةَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ، مَنْ تَرَكَهَا مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ) رواه الطبراني والحاكم وقال: صحيح الإسناد.

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الله كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ) رواه البخاري.

عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ مَيْمُونَةُ، فَأَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أُمِرْنَا بِالْحِجَابِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (احْتَجِبَا مِنْهُ) فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله أَلَيْسَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا وَلَا يَعْرِفُنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا! أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ؟) رواه أبو داود.

والغاية من غضِّ البصر هي إقامة مجتمع طاهر نظيف، لا تهاج في الشهوات ولا تستثار فيه الغرائز، لأن هياج الشهوة واستثارة الغريزة دمارٌ للأخلاق وللقيم، وسبب كبير من أسباب انتشار الفاحشة والرذيلة، التي يُرتكب من ورائها جرائم القتل وسفك الدماء والعياذ بالله تعالى.

خامساً: آداب نظر الرجل للرجل:

لا يجوز للرجل أن ينظر إلى عورة الرجل، وعورة الرجل للرجل من السرة إلى الركبة، سواء كان الرجل المنظور إليه قريباً أم بعيداً، وذلك لقول رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ عَوْرَةٌ) رواه الطبراني.

وعن محمد بن عبد الله بن جحش رضي الله عنهما قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر على معمر وهو جالس عند داره في السوق وفخذاه مكشوفتان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غط فخذك يا معمر فإن الفخذ عورة) رواه أبو داود وابن حبان والحاكم واللفظ له.

فيحرم نظر الرجل إلى عورة الرجل بشهوة أو بغير شهوة، أما ما عدا العورة فإنه يجوز النظر إليها بغير شهوة، وإلا حرم ذلك وخاصة إذا كان أمرداً.

سادساً: آداب نظر المرأة إلى المرأة:

لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى عورة المرأة، وعورة المرأة المسلمة للمرأة المسلمة ما بين سرتها إلى ركبتها، سواء كانت قريبة أم بعيدة، فيحرم على المرأة أن تنظر إلى فخذ المرأة ولو كانت ابنتَها أو أختَها أو أمَّها... وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ) رواه مسلم.

فيحرم نظر المرأة المسلمة إلى عورة المرأة المسلمة من سرتها إلى ركبتها بشهوة أو بغير شهوة، وأما ما عدا العورة فإنه يجوز النظر إليه من غير شهوة وإلا حرم النظر كذلك.

أما بالنسبة للمرأة الكافرة فلا يجوز للمرأة المسلمة أن تكشف أمامها إلا الوجه والكفين، لأن عورة المرأة المسلمة أمام المرأة الكافرة جميع بدنها إلا الوجه والكفين، وبعض الفقهاء قال: كلها عورة أمام المرأة الكافرة، وذلك لقول الله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ}.

أسأل الله تعالى أن يكرمنا بآداب النظر، وأن نكون من الواقفين عند حدود الله عز وجل، لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}.

اللهم وفِّقنا لغضِّ البصر وحفظ الفرج واللسان، واجعلنا يا ربنا ممن قلت فيهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة}. ولا تجعلنا ممن قلت فيهم: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُون}.

اللهم آمين. آمين. آمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 2008-07-05
 24071
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 

التعليقات [ 1 ]

ابو يوسف
 2008-07-19

جزاكم الله كل خير ونفع بكم وفتح عليكم فتوح العارفين العاملين وجميع من يعمل في هذا الموقع.

 

مواضيع اخرى ضمن  أخلاق و آداب

08-10-2020 976 مشاهدة
59ـ آداب المريض (4)

لَقَدْ ذَكَرْنَا في الدُّرُوسِ المَاضِيَةِ أَنَّ مِنْ آدَابِ المَرِيضِ: 1ـ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ المَرَضَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. 2ـ أَنْ يَأْخُذَ الدَّوَاءَ. 3ـ أَنْ يَرْقِيَ نَفْسَهُ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى ... المزيد

 08-10-2020
 
 976
08-10-2020 626 مشاهدة
58ـ آداب المريض (3)

لَقَدْ ذَكَرْنَا في الدُّرُوسِ المَاضِيَةِ أَنَّ مِنْ آدَابِ المَرِيضِ: 1ـ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ المَرَضَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. 2ـ أَنْ يَأْخُذَ الدَّوَاءَ. 3ـ أَنْ يَرْقِيَ نَفْسَهُ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى ... المزيد

 08-10-2020
 
 626
11-03-2020 1062 مشاهدة
57ـ آداب المريض (2)

مِنَ الوَاجِبِ عَلَى العَبْدِ المُؤْمِنِ أَنْ يَرُدَّ المَظَالِمَ إلى أَهْلِهَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا وَذِمَّتُهُ بَرِيئَةٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُقُوقِ العِبَادِ، لِأَنَّ حُقُوقَ ... المزيد

 11-03-2020
 
 1062
05-03-2020 1104 مشاهدة
56ـ آداب المريض (1)

ا يُقَدِّرُ نِعْمَةَ اللهِ تعالى إِلَّا مَنْ فَقَدَهَا، فَالصِّحَّةُ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَيْنَا، لَا يُقَدِّرُهَا إِلَّا المَرْضَى، فَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ قَدْ غَفَلْنَا عَنْهَا؟ وَكَمْ مِنَ النِّعَمِ قَدْ قَصَّرْنَا بِوَاجِبِ شُكْرِهَا، ... المزيد

 05-03-2020
 
 1104
16-01-2020 1648 مشاهدة
55ـ أبشر أيها المريض

لَقَدْ جَعَلَنَا اللهُ تعالى عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَبَيَّنَ لَنَا الغَايَةَ مِنْ خَلْقِنَا، فَقَالَ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. وَمِنَ العِبَادَةِ الصَّبْرُ عَلَى الابْتِلَاءَاتِ ... المزيد

 16-01-2020
 
 1648
08-01-2020 1497 مشاهدة
54ـ آداب النظر (2)

إِسْلَامُنَا لَا يَرْضَى لَنَا أَنْ نَأْتِيَ الفَوَاحِشَ، بَلْ يَنْهَى عَنْ قُرْبَانِهَا فَضْلَاً عَنْ إِتْيَانِهَا، وَهُوَ يُحَرِّمُ الوَسَائِلَ، وَيَسُدُّ الأَبْوَابَ التي تُؤَدِّي إِلَيْهَا، لِهَذَا جَاءَتْ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، وَنُصُوصٌ ... المزيد

 08-01-2020
 
 1497

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3159
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412697658
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :