202ـ مع الحبيب المصطفى: حتى تدخلوا فيما تنكرون

202ـ مع الحبيب المصطفى: حتى تدخلوا فيما تنكرون

 

 مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

202ـ حتى تدخلوا فيما تنكرون

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: الصِّرَاعُ بَينَ الحَقِّ والبَاطِلِ يَبْقَى على مَمَرِّ العُصُورِ والدُّهُورِ، والسَّعِيدُ مَن كَانَ في جَانِبِ الحَقِّ ضِدَّ البَاطِلِ، وطَرِيقُ الدُّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى، والأَمْرُ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْيُ عَن المُنْكَرِ شَاقٌّ طَوِيلٌ عَسِيرٌ عَقَبَاتُهُ كَؤُودٌ، وأَلَمُهُ شَدِيدٌ.

لِيَتَذَكَّرْ كُلُّ مُسْلِمٍ وكُلُّ دَاعٍ إلى اللهِ تعالى، كَيفَ بَذَلَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ دُنْيَاهُ كُلَّهَا في سَبِيلِ دَعْوَةِ الخَلْقِ إلى الحَقِّ، وإلى سَعَادَةِ الدُّنيَا والآخِرَةِ، لِيَتَذَكَّرْ كُلُّ مُسْلِمٍ وكُلُّ دَاعٍ إلى اللهِ تعالى مَا أَصَابَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إِمَامَ الأَنبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ، إِمَامَ الأَئِمَّةِ، وقَائِدَ المِلَّةِ، وخَيْرَ البَشَرِ، وأَكْرَمَ الخَلْقِ، لقد قَالُوا عَنهُ: شَاعِرٌ وكَاهِنٌ وسَاحِرٌ ومَجْنُونٌ، وضُرِبَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ورُمِيَ بالحِجَارَةِ حَتَّى سَالَ دَمُهُ الشَّرِيفُ الطَّاهِرُ، مَعَ كُلِّ هذا صَبَرَ لِنُصْرَةِ دِينِ اللهِ تعالى، فَهَل رُمِيَ أَحَدُنَا يَومَاً بِمِثْلِ هذا في سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى؟ وهَل أَصَابَنَا شَيْءٌ من هذا؟

أيُّها الإخوة الكرام: فَعَلَ أَهْلُ الطَّائِفِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مَا فَعَلُوهُ من أَذَىً قَوْلِيٍّ وفِعْلِيٍّ، ومَعَ ذلكَ مَا كَانَ يَحْمِلُ في قَلْبِهِ من غِلٍّ عَلَيهِم، بَل كَانَ رَحِيمَاً بِهِم صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

«أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئَاً»:

أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على كُلِّ دَاعِيَةٍ ومُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ، وعلى كُلِّ مَن أَرَادَ الخَيْرَ لأَهْلِهِ ولأُمَّتِهِ ولِوَطَنِهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ من سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ كَيفَ يَكُونُ تَبْلِيغُ دِينِ اللهِ عزَّ جلَّ وشَرْعِهِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَرْضُهُ مَقْبُولاً، وفِعْلُهُ مَحْمُودَاً، يَجِبُ عَلَيهِ أَنْ يَعْرِضَ مَا عِنْدَهُ كَمَا يَعْرِضُ التَّاجِرُ اللَّبِيبُ بِضَاعَتَهُ.

يَجِبُ على كُلِّ دَاعِيَةٍ ومُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ الصَّبْرُ على المَدْعُوِّ، فَإِنْ وَجَدَ صَدَّاً وإِعْرَاضَاً وتَجْرِيمَاً وإِسَاءَةً وسَبَّاً وشَتْمَاً ولَعْنَاً فَلْيَرْفَعْ يَدَيْهِ دَاعِيَاً قَائِلاً: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرَاً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرَاً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرَاً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرَاً﴾. فَلْيَرْفَعْ يَدَيْهِ دَاعِيَاً: اللَّهُمَّ اهْدِنِي واهْدِ بِي.

أيُّها الإخوة الكرام: تَعَالَوا لِنَتَعَلَّمْ من سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ طَهَارَةَ القَلْبِ، وسَلامَةَ الصَّدْرِ نَحْوَ مَن صَدَّ وأَسَاءَ لِمُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ.

روى الإمام البخاري عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟

قَالَ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمُ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ.

فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ.

فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئَاً».

لقد كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ رَحِيمَاً بِقَوْمِهِ، الأَمَلُ في هِدَايَتِهِم يَفُوقُ في إِحْسَاسِهِ الشُّعُورَ في الرَّغْبَةِ بالانْتِقَامِ من أَعْدَائِهِ، والتَّشَفِّي من قَوْمِهِ الذينَ أَوْقَعُوا بِهِ صُنُوفَ الأَذَى، كَانَ يَرْجُو ويُؤَمِّلُ أَنْ يُخْرِجَ اللهُ من أَصْلابِ القَوْمِ مَن يَعْبُدُ اللهَ تعالى وَحْدَهُ.

لقد انْطَلَقَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من الطَّائِفِ مَهْمُومَاً مَحْزُونَاً مُسْتَغْرِقَاً مُفَكِّرَاً في أَمْرِ دَعْوَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ التي مَضَى عَلَيهَا عَشْرُ سِنِينَ، ولَمْ يَسْتَطِعْ نَشْرَ الإِسْلامِ بالحَجْمِ الذي كَانَ يَتَمَنَّاهُ.

انْطَلَقَ مَهْمُومَاً مَحْزُونَاً مُسْتَغْرِقَاً مُفَكِّرَاً كَيفَ سَيَدْخُلُ مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ؟ فَهُوَ بَيْنَ عَدُوَّيْنِ، عَدُوٍّ خَلْفَهُ أَسَاءَ إِلَيهِ ولَمْ يَقْبَلْ دَعْوَتَهُ، وعَدُوٍّ أَمَامَهُ يَنْتَظِرُهُ لِيُوقِعَ بِهِ الأَذَى.

أيُّها الإخوة الكرام: لِنَتَصَوَّرِ الهَمَّ الذي كَانَ في قَلْبِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الذي يُحَطِّمُ الفُؤَادَ، والأَلَمَ الذي يُفَتِّتُ الكَبِدَ، ولنَتَصَوَّرِ الحَالَةَ التي كَانَ يَعِيشُهَا صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في تِلكَ اللَّحَظَاتِ عِنْدَمَا قَالَ: «فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي».

لقد أَشْفَقَتِ الحِجَارَةُ لِحَالِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، بَل وَاسْتَعَدَّتْ لِتَنْتَقِمَ من المُشْرِكِينَ، ولِتَمْتَثِلَ أَمْرَ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

فماذا كَانَ جَوَابُ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ ويُنبُوعِ الحَنَانِ؟ ماذا كَانَ جَوَابُ صَاحِبِ الرَّحْمَةِ المُهْدَاةِ بِأَبِي هوَ وأُمِّي؟ ومَا زَالَتْ دِمَاؤُهُ تَنْزِفُ، هَل انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ؟

لَو كَانَ خَرَجَ لِحَظِّ نَفْسِهِ ـ وحَاشَاهُ من ذلكَ ـ لأَمَرَ مَلَكَ الجِبَالِ أَنْ يُحَطِّمَ تِلكَ الرُّؤُوسَ اليَابِسَةَ والصَّلْبَةَ والعَلِيلَةَ، وأَنْ يُسِيلَ تِلكَ الدِّمَاءَ كَالبِحَارِ من الطَّائِفِ لِيَرَاهَا أَهْلُ مَكَّةَ، ولَكِنْ بِأَبِي هوَ وأُمِّي مَا خَرَجَ إلا للهِ تعالى، لذلكَ كَانَ الجَوَابُ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئَاً».

صَلَّى اللهُ وسَلَّمَ عَلَيكَ يَا مَن قَالَ فِيكَ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

صَلَّى اللهُ وسَلَّمَ عَلَيكَ يَا مَن قَالَ فِيكَ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.

صَلَّى اللهُ وسَلَّمَ عَلَيكَ يَا مَن قَالَ فِيكَ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.

«كَانَ نَبِيَّاً وأَنَا نَبِيٌّ»:

أيُّها الإخوة الكرام: كُونُوا على يَقِينٍ بِأَنَّ قُلُوبَ العِبَادِ بَينَ أُصْبُعَيْنِ من أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كُونُوا على يَقِينٍ من قَولِهِ تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾. كُونُوا على يَقِينٍ بِأَنَّ اللهَ قَادِرٌ على أَنْ يُحَوِّلَ قُلُوبَ أَلَدِّ الأَعْدَاءِ إلى مَا يُرِيدُهُ تَبَارَكَ تعالى.

أيُّها الإخوة الكرام: مَن يَرْحَمْ يُرْحَمْ، ومَن لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ، لقد كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ رَحِيمَاً بِأَعْدَائِهِ في أَحْلَكِ الظُّرُوفِ، ولهذا حَرَّكَ اللهُ تعالى قَلْبَ رَجُلَيْنِ مُشْرِكَيْنِ نَحْوَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بالرَّحْمَةِ.

جَاءَ في كِتَابِ الرَّوْضِ الأُنُفِ: فَلَمَّا رَآهُ ابْنَا رَبِيعَةَ، عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَمَا لَقِيَ تَحَرّكَتْ لَهُ رَحِمُهُمَا، فَدَعَوْا غُلَامَاً لَهُمَا نَصْرَانِيَّاً، يُقَالُ لَهُ: عَدَّاسٌ.

فَقَالَا لَهُ: خُذْ قِطْفَاً مِنْ هَذَا الْعِنَبِ فَضَعْهُ فِي هَذَا الطَّبَقِ، ثُمَّ اذْهَبْ بِهِ إلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَقُلْ لَهُ يَأْكُلُ مِنْهُ.

فَفَعَلَ عَدَّاسٌ، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِ حَتَّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُلْ.

فَلَمَّا وَضَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فِيهِ يَدَهُ قَالَ: «بِاسْمِ اللهِ» ثُمَّ أَكَلَ.

فَنَظَرَ عَدَّاسٌ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: واللهِ إنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «وَمِنْ أَهْلِ أَيِّ الْبِلَادِ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ، وَمَا دِينُكَ؟»

قَالَ: نَصْرَانِيٌّ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «مِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى».

فَقَالَ لَهُ عَدَّاسٌ: وَمَا يُدْرِيكَ مَا يُونُسُ بْنُ مَتَّى؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «ذَاكَ أَخِي، كَانَ نَبِيَّا وَأَنَا نَبِيٌّ».

فَأَكَبَّ عَدَّاسٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يُقَبُّلُ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ.

قَالَ: يَقُولُ ابْنَا رَبِيعَةَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَمَّا غُلَامُكَ فَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْكَ.

فَلَمَّا جَاءَهُمَا عَدَّاسٌ قَالَا لَهُ: وَيْلَكَ يَا عَدَّاسُ، مَالَكَ تُقَبِّلُ رَأْسَ هَذَا الرَّجُلِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ؟

قَالَ: يَا سَيِّدِي، مَا فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ خَيْرٌ مِنْ هَذَا، لَقَدْ أَخْبَرَنِي بِأَمْرِ مَا يَعْلَمُهُ إلا نَبِيٌّ.

قَالَا لَهُ: وَيْحَكَ يَا عَدَّاسُ، لَا يَصْرِفَنَّكَ عَنْ دِينِكَ، فَإِنَّ دِينَكَ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ.

«إِنَّ اللهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجَاً»:

أيُّها الإخوة الكرام: وَقَفَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ رَاجِعَاً إلى مَكَّةَ بَعدَ أَنْ اطْمَأَنَّ للبِشَارَاتِ السَّمَاوِيَّةِ، من إِرْسَالِ جِبْرِيلَ عَلَيهِ السَّلامُ مَعَ مَلَكِ الجِبَالِ، وإِيمَانِ عَدَّاسٍ، وعِنْدَهَا قَالَ لَهُ مَولاهُ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ: كَيفَ تَدْخُلُ عَلَيهِم وقَد أَخْرَجُوكَ؟

فَقَالَ: «يَا زَيْدُ، إنَّ اللهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرْجَاً وَمَخْرَجَاً، وَإِنَّ اللهَ نَاصِرٌ دِينَهُ، وَمُظْهِرٌ نَبِيّهُ».

في جِوَارِ المُطْعِمِ بنِ عَدِيٍّ:

أيُّها الإخوة الكرام: لَمَّا دَنَا صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من مَكَّةَ مَكَثَ بِحِرَاءَ، وبَعَثَ رَجُلاً من خُزَاعَةَ إلى الأَخْنَسِ بن شَرِيقٍ لِيُجِيرَهُ، فَقَالَ: أَنَا حَلِيفٌ، والحَلِيفُ لا يُجِيرُ.

فَبَعَثَ إلى سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو، فَقَالَ سُهَيْلُ: إِنَّ بَنِي عَامِرٍ لا تُجِيرُ على بَنِي كَعْبٍ.

فَبَعَثَ إلى المُطْعِمِ بنِ عَدِيٍّ، فَقَالَ المُطْعِمُ: نَعَم، ثمَّ تَسَلَّحَ وَدَعَا بَنِيهِ وَقَوْمَهُ، فَقَالَ: اِلْبَسُوا السِّلاحَ، وَكُونُوا عِنْدَ أَرْكَانِ البَيْتِ، فَإِنِّي قَد أَجَرْتُ مُحَمَّدَاً، ثمَّ بَعَثَ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، أن ادْخُلْ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَمَعَهُ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ حَتَّى انْتَهَى إلى المَسْجِدِ الحَرَامِ.

فَقَامَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَنَادَى: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي قَد أَجَرْتُ مُحَمَّدَاً فلا يَهْجُهُ أَحَدٌ مِنكُم.

وانْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، وَطَافَ بالبَيْتِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وانْصَرَفَ إلى بَيْتِهِ، وَمُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ وَوَلَدُهُ مُحَدِّقُونَ بِهِ بالسِّلاحِ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ.

وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا جَهْلٍ سَأَلَ مُطْعِمَاً: أَمُجِيرٌ أَنْتَ أَم مُتَابِعٌ؟

قَالَ: بَل مُجِيرٌ.

قَالَ: قَد أَجَرْنَا مَن أَجَرْتَ.

وقد حَفِظَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ للمُطْعِمِ هذا الصَّنِيعَ.

فَقَالَ في أَسَارَى بَدْرٍ: «لَو كَانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيَّاً ثمَّ كَلَّمَنِي في هؤلاءِ النَّتْنَى ـ السَّبْيِ ـ لَتَرَكْتُهُم لَهُ».

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ المُطْعِمُ كَأَبِي طَالِبٍ على دِينِ أَجْدَادِهِ، وكَانَ كذلكَ مِثْلَهُ في المُروءَةِ والنَّجْدَةِ.

وقد أَرَادَ أَبُو جَهْلٍ أَنْ يَتَهَكَّمَ بِنَبِيٍّ يَحْتَاجُ إلى جِوَارٍ، وكَأَنَّهُ يَتَسَاءَلُ: لِمَ لَمْ تَنْزِلْ كَوْكَبَةٌ من المَلائِكَةِ تَحْفَظُهُ؟

دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَومَاً المَسْجِدَ الحَرَامَ، والمُشْرِكُونَ عِنْدَ الكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو جَهْلٍ قَالَ: هذا نَبِيُّكُم يَا بَنِي عَبدِ مَنَافٍ؟

فَرَدَّ عَلَيهِ عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ: وَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مِنَّا نَبِيٌّ أَو مَلَكٌ؟

فَأُخْبِرَ بذلكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَو سَمِعَهُ فَأَتَاهُم فَقَالَ: «أَمَّا أَنْتَ يَا عُتْبَةُ بنَ رَبِيعَةَ، فَوَاللهِ مَا حَمَيْتَ للهِ ولا لِرَسُولِهِ، وَلَكِنْ حَمَيْتَ لأَنْفِكَ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا جَهْلٍ، فَوَاللهِ لا يَأْتِي عَلَيكَ غَيْرُ كَبِيرٍ من الدَّهْرِ حَتَّى تَضْحَكَ قَلِيلَاً وَتَبْكِيَ كَثِيرَاً، وَأَمَّا أَنْتُم يَا مَعْشَرَ المَلَأِ من قُرَيْشٍ فَوَاللهِ لا يَأْتِي عَلَيكُم غَيْرُ كَبِيرٍ من الدَّهْرِ حَتَّى تَدْخُلُوا فِيمَا تُنْكِرُونَ وَأَنْتُم كَارِهُونَ».

أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَاثِقَاً من المُسْتَقْبَلِ، وَاثِقَاً بِأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرَاً، وَاثِقَاً بِأَنَّ الفَرَجَ بَعدَ الضِّيقِ رَجَعَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ هوَ يَتَحَمَّلُ أَعْبَاءَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ للأُمَّةِ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُشَرِّفَنَا بِحَمْلِ هذهِ الرِّسَالَةِ وتَبْلِيغِهَا على النَّحْوِ الذي يُرْضِي رَبَّنَا. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

 

الاثنين: 15/رجب /1435هـ، الموافق: 4/أيار / 2015م

الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  مع الحبيب المصطفى   

26-06-2019 2339 مشاهدة
316ـ العناية الربانية بالحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

مِنْ مَظَاهِرِ العِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ سَخَّرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ المَوْجُودَاتِ، وَمِنْ مَظَاهِرِ العِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِهِ صَلَّى ... المزيد

 26-06-2019
 
 2339
20-06-2019 1387 مشاهدة
315ـ سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ مُلْكُ كِسْرَى

الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ ... المزيد

 20-06-2019
 
 1387
28-04-2019 1170 مشاهدة
315ـ«لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ»

الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ ... المزيد

 28-04-2019
 
 1170
28-04-2019 1182 مشاهدة
314ـ في محط العناية

لَقَدِ رَحِمَ اللهُ تعالى هَذِهِ الأُمَّةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُبَشِّرَاً وَنَذِيرَاً، وَجَعَلَهُ خَاتَمَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَجَعَلَ شَرِيعَتَهُ ... المزيد

 28-04-2019
 
 1182
21-03-2019 1769 مشاهدة
313- مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم : ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾

فَعَلَى قَدْرِ التَّحَمُّلِ يَكُونُ الأَدَاءُ، وَبِحَسْبِ الشَّهَادَةِ تَكُونُ المُهِمَّةُ، لِذَلِكَ عَلَّمَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِفَضْلِهِ العَظِيمِ مَا لَمْ يَكُنْ ... المزيد

 21-03-2019
 
 1769
13-03-2019 1637 مشاهدة
312- مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:«فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ»

وَجَاءَتْ تَارَةً بِمَدْحِ أَهْلِهِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾. وَقَالَ: ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾. وَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا ... المزيد

 13-03-2019
 
 1637

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412814138
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :