84ـ مع الحبيب المصطفى: «نم على فراشي, وتسج ببردي»

84ـ مع الحبيب المصطفى: «نم على فراشي, وتسج ببردي»

 

 مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

84ـ «نم على فراشي، وتسج ببردي»

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: يَقولُ اللهُ تعالى في حَقيقَةِ الدُّنيا التي نَعيشُ فيها: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعْلَمُون﴾. حَقيقَةٌ لا مِريَةَ فيها، غَايَةُ ما في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا عِندَ أهلِ الغَفلَةِ عن الله تعالى لَهوٌ ولَعِبٌ.

هذهِ الدُّنيا الدِّنِيَّةُ حَكَمَ اللهُ تعالى بِفَنائِها وقَدَّرَ على الإنسانِ نَصيبَهُ من الكَبَدِ فيها، وليسَ أحَدٌ يَسلَمُ من هُمومِها وأكدارِها ومُنغِّصاتِ العَيشِ فيها، ومن رامَ غَيرَ ذلكَ فهوَ مُكَلِّفٌ الأيَّامَ ضِدَّ طِباعِها.

النَّهيُ عن الحُزنِ:

أيُّها الإخوة الكرام: الهَمُّ والحُزنُ قَرينانِ يَرِدانِ على القَلبِ، فإن كانَ على ما مَضَى فهوَ الحُزنُ، وإن كانَ على مُستَقبَلٍ فهوَ الهَمُّ، وما أقساهُما إذا وَرَدا على القَلبِ معاً.

الحُزنُ والهَمُّ ليسَا هُما من مَقاماتِ الدِّينِ، ولا من مَنازِلِ السَّالِكينَ السَّائِرينَ إلى الله تعالى، لذلكَ لم يأمُرْنا اللهُ تعالى في كِتابِهِ العَظيمِ بِهِما، ولا نَبِيُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في أحَاديثِهِ الشَّريفَةِ، بل على العَكسِ من ذلكَ تماماً، فقد جاءَ الأمرُ بالنَّهيِ عنهُما، قال تعالى: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين﴾. وقال تعالى: ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾. وقال تعالى: ﴿لِكَيْلا تَأْسَوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ واللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾.

وسيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ استَعاذَ بالله تعالى من الهَمِّ والحَزَنِ،فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وأهلُ الجنَّةِ يَحمَدونَ اللهَ تعالى على أنَّهُ أذهَبَ عنهُمُ الحَزَنَ، قال تعالى مُخبِراً عنهُم: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.

أينَ الإيمانُ والثِّقَةُ بالله تعالى؟

أيُّها الإخوة الكرام: العَجَبُ كُلُّ العَجَبِ بمن تَضيقُ به الدُّنيا، وتَقتُلُهُ الهُمومُ، وتُؤَرِّقُهُ الأحزانُ، كُلُّ ذلكَ أسَفاً وحُزناً على فائِتٍ حَقيرٍ، أو خَوفاً من مُستَقبَلٍ هوَ لا يَدري ما اللهُ صانِعٌ به.

أينَ الإيمانُ بالله تعالى والثِّقَةُ به، وهوَ القائِلُ: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾؟

أينَ الإيمانُ بالله تعالى والثِّقَةُ به، وهوَ القائِلُ: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِير﴾؟

أينَ الإيمانُ بالله تعالى والثِّقَةُ به في الشَّدائِدِ والمِحَنِ والأزَماتِ؟

أينَ الإيمانُ بِقَولِهِ تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَاد﴾؟

أينَ الإيمانُ بِقَولِهِ تعالى: ﴿وَكَانَ حَقَّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين﴾؟

أينَ الإيمانُ بِقَولِهِ تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِين * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُون﴾؟

قُوَّةُ الإيمانِ تَفعَلُ الأعاجِيبَ:

أيُّها الإخوة الكرام: نَحنُ اليَومَ في أوَّلِ يَومٍ من أيَّامِ السَّنَةِ الهِجرِيَّةِ حيثُ مَطلِعُ العامِ يُذَكِّرُنا بِهِجرَةِ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ التي تَجَلَّتْ فيها قُوَّةُ الإيمانِ في سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِيَكونَ قُدوَةً للأُمَّةِ أيَّامَ الأزَماتِ والشَّدائِدِ والمِحَنِ.

تَعالَوا أيُّها الإخوةُ لِنَقِفَ معَ هِجرَةِ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حتَّى نَتَعَلَّمَ أنَّ قُوَّةَ الإيمانِ تَفعَلُ الأعاجِيبَ.

قَرارٌ غاشِمٌ بِقَتلِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أيُّها الإخوة الكرام: جاءَتْ قُرَيشٌ إلى دارِ النَّدوَةِ على مَوعِدٍ مُسبَقٍ لِتَدارُسِ خُطَّةٍ حاسِمَةٍ تَكفَلُ القَضاءَ سَريعاً على سيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وقَطْعِ النُّورِ عن الوُجودِ نِهائِيَّاً.

واعتَرَضَهُم إبليسُ في هَيئَةِ شَيخٍ جَليلٍ نَجدِيٍّ، وَوَقَفَ على البابِ، فقَالُوا: مَن الشَّيْخُ؟

قَالَ: شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، سَمِعَ بِاَلّذِي اتَّعَدْتُمْ لَهُ، فَحَضَرَ مَعَكُمْ لِيَسْمَعَ مَا تَقُولُونَ، وَعَسَى أَنْ لَا يُعْدِمَكُمْ مِنْهُ رَأْياً وَنُصْحاً.

قَالُوا: أَجَلْ، فَادْخُلْ؛ فَدَخَلَ مَعَهُمْ.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، فَإِنَّا واللهِ مَا نَأْمَنُهُ عَلَى الْوُثُوبِ عَلَيْنَا فِيمَنْ قَد اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِنَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْياً.

فَتَشَاوَرُوا؛ ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: اِحْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ، وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَاباً، ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ أَشْبَاهَهُ مِن الشُّعَرَاءِ الذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ زُهَيْراً وَالنّابِغَةَ وَمَنْ مَضَى مِنْهُمْ مِنْ هَذَا الْمَوْتِ حَتَّى يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ.

فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لَا واللهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، واللهِ لَئِنْ حَبَسْتُمُوهُ كَمَا تَقُولُونَ لَيَخْرُجَنَّ أَمْرُهُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ الذِي أَغْلَقْتُمْ يُكَاثِرُوكُمْ بِهِ حَتَّى يَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ؛ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ فَانْظُرُوا فِي غَيْرِهِ.

فَتَشَاوَرُوا؛ ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، فَنَنْفِيهِ مِنْ بِلَادِنَا، فَإِذَا أُخْرِجَ عَنَّا فواللهِ مَا نُبَالِي أَيْنَ ذَهَبَ وَلَا حَيْثُ وَقَعَ إذَا غَابَ عَنَّا وَفَرَغْنَا مِنْهُ فَأَصْلَحْنَا أَمْرَنَا وَأَلْفَتْنَا كَمَا كَانَتْ.

فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لَا واللهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، أَلَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ وَحَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ وَغَلَبَتِهِ عَلَى قُلُوبِ الرِّجَالِ بِمَا يَأْتِي بِهِ؟ واللهِ لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ مَا أَمِنْتُمْ أَنْ يَحُلَّ عَلَى حَيٍّ مِن الْعَرَبِ، فَيَغْلِبَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَحَدِيثِهِ حَتَّى يُتَابِعُوهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسِيرُ بِهِمْ إلَيْكُمْ حَتَّى يَطَأَكُمْ بِهِمْ فِي بِلَادِكُمْ فَيَأْخُذَ أَمْرَكُمْ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ يَفْعَلَ بِكَمْ مَا أَرَادَ؛ دَبِّرُوا فِيهِ رَأْياً غَيْرَ هَذَا.

فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ: والله إنَّ لِي فِيهِ لَرَأْياً مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ.

قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا الْحَكَمِ؟

قَالَ: أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَتىً شَابَّاً جَلِيداً نَسِيباً وَسِيطاً فِينَا، ثُمَّ نُعْطِي كُلَّ فَتىً مِنْهُمْ سَيْفاً صَارِماً، ثُمَّ يَعْمِدُوا إلَيْهِ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَقْتُلُوهُ فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ جَمِيعاً، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعاً، فَرَضُوا مِنَّا بِالْعَقْلِ فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ.

فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: الْقَوْلُ مَا قَالَ الرّجُلُ، هَذَا الرّأْيُ الذِي لَا رَأْيَ غَيْرُهُ، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ. (سيرة ابن هشام).

على بابِ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أيُّها الإخوة الكرام: عِندَما اتَّخَذَتْ قُرَيشٌ هذا القَرارَ الغاشِمَ بِقَتْلِ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، نَزَلَ سيِّدُنا جِبريلُ عَلَيهِ السَّلامُ بأمرٍ من الله تعالى وبِوَحْيٍ منهُ، فَأخبَرَهُ بِمُؤامَرَةِ قُرَيشٍ، وأنَّ اللهَ تعالى أَذِنَ له بالخُروجِ، وحَدَّدَ لهُ وَقْتَ الهِجرَةِ قائِلاً: لَا تَبِتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى فِرَاشِك الذِي كُنْت تَبِيتُ عَلَيْهِ.

واجتَمَعَ أكابِرُ مُجرِمي قُرَيشٍ على بابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في عَتَمَةٍ مِن اللَّيْلِ يَرْصُدُونَهُ مَتَى يَنَامُ، فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ واحِدٍ، وكانَ أكابِرُ مُجرِمي قُرَيشٍ على ثِقَةٍ ويَقينٍ بأنَّ هذهِ المُؤامَرَةَ الدَّنِيَّةَ ناجِحَةٌ، فَوَقَفَ أبو جَهلٍ ـ لَعَنَهُ اللهُ ـ لِيُخاطِبَ المُحاصِرينَ بِقَولِهِ:

إنَّ مُحَمَّداً يَزْعُمُ أَنَّكُمْ إنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ كُنْتُمْ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فَجُعِلَتْ لَكُمْ جِنَانٌ كَجِنَانِ الْأُرْدُنِّ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ لَهُ فِيكُمْ ذَبْحٌ ثُمَّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ثُمَّ جُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ تُحْرَقُونَ فِيهَا.

وكانَ المُحاصِرونَ من أكابِرِ مُجرِمي قُرَيشٍ، وهُم: أبو جَهلِ بنُ هِشامٍ، والحَكَمُ ابنُ أبي العاصِ، وعُتْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، والنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَزَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ، وأبو لَهَبٍ، وأُبَيُّ بنُ خَلَفٍ، وَنُبَيْهُ وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ.

أيُّها الإخوة الكرام: باتَ هؤلاءِ على بابِ سيِّدِنا رَسولِ مُتَيَقِّظينَ يَنتَظِرونَ ساعَةِ الصِّفرِ، ولكنَّ اللهَ غالِبٌ على أمرِهِ، بِيَدِهِ مَلَكوتُ السَّماواتِ والأرضِ، يَفعَلُ ما يَشاءُ، وهوَ يُجيرُ ولا يُجارُ عَلَيهِ، فأبطَلَ خُطَّتَهُم، وجَعَلَ كَيدَهُم في نَحرِهِم.

«نَمْ عَلَى فِرَاشِي، وَتَسَجَّ بِبُرْدِي»:

أيُّها الإخوة الكرام: حَقَّاً قُوَّةُ الإيمانِ بالله تعالى والثِّقَةُ به تَفعَلُ الأعاجِيبَ، وما أحوَجَنا إلى هذا الإيمانِ والثِّقَةِ بالله تعالى، اُنظُروا أيُّها الإخوة ماذا فَعَلَ سيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ المُحاصَرُ في بَيتِهِ؟

قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: «نَمْ عَلَى فِرَاشِي، وَتَسَجَّ بِبُرْدِي هَذَا الْأَخْضَرِ، فَنَمْ فِيهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إلَيْك شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ».

لماذا تَرَكَهُ في مَكَّةَ؟ لِيُعَلِّمَ الأُمَّةَ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَن ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» رواه الترمذي وأبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ. تَرَكَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيَرُدَّ الأماناتِ إلى أهلِها.

ورَحِمَ اللهُ تعالى من قال: لا تَعصِ اللهَ تعالى فيمن عَصى اللهَ تعالى فيكَ.

ثمَّ خَرَجَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، واختَرَقَ صُفوفَهُم، وأخَذَ حَفنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ، فَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَلِكَ التُّرَابَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، وَقد أَخَذَ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ فَلَا يَرَوْنَهُ، وَهُوَ يَتْلُو قَولَ الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدَّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدَّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُون﴾. فلم يَبقَ منهُم رَجُلٌ إلا وقد وَضَعَ على رَأسِهِ تُراباً.

والمُحاصِرونَ يَنتَظِرونَ خُروجَ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُمْ آتٍ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فَقَالَ: مَا تَنْتَظِرُونَ هَاهُنَا؟

قَالُوا: مُحَمَّداً.

قَالَ: خَيّبَكُمُ اللهُ، قَدْ واللهِ خَرَجَ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ ثُمَّ مَا تَرَكَ مِنْكُمْ رَجُلاً إلا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَاباً، وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، أَفَمَا تَرَوْنَ مَا بِكُمْ؟

قالوا: واللهِ ما أبصَرناهُ.

وقاموا يَنفُضونَ التُّرابَ عن رُؤوسِهِم، وتَطَلَّعوا من صَيْرِ البابِ، فَرَأوا عَلِيَّاً، فقالوا: واللهِ إنَّ هَذَا لَمُحَمّدٌ نَائِماً، عَلَيْهِ بُرْدُهُ. فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا.

فقامَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُ عن الفِراشِ، فَسُقِطَ في أيديهِم، وسَألوهُ عن رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ فقال: لا عِلمَ لي بِهِ.

نَعَم، إيمانٌ يَصنَعُ الأعاجِيبَ، لقد خَرَجَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من بَينِ أظهُرِهِم بِقُوَّةِ إيمانِهِ بالله تعالى، وباتَ سَيِّدُنا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُ في فِراشِ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقُوَّةِ إيمانِهِ بالله تعالى وبِرَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: الأزمَةُ تَحتاجُ إلى قُوَّةِ إيمانٍ وثِقَةٍ بالله تعالى بأنَّ اللهَ تعالى لن يَتَخَلَّى عن عَبدِهِ المُؤمِنِ، وأنَّ اللهَ تعالى مُدافِعٌ عنهُ، ومُؤَيِّدٌ وناصِرٌ لهُ، وحافِظٌ وناصِرٌ ومُعينٌ لهُ ما دامَ إيمانُهُ في قَلبِهِ أثبَتَ من الرَّاسِياتِ، وما دامَ حافِظاً حُدودَ الله تعالى في الشَّدائِدِ كما كانَ حافِظاً لها في الرَّخاءِ.

نَحنُ بِحاجَةٍ إلى إيمانٍ وتَصديقٍ لِكَلامِ ربِّنا عزَّ وجلَّ القائِلِ: ﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَة﴾. والقائِلِ: ﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا﴾. فهل نَرجِعُ لِنُقَوِّيَ إيمانَنا بِفِعلِ الطَّاعاتِ وتَرْكِ المَعاصي والمُوبِقاتِ؟

أسألُ اللهَ تعالى إيماناً لا يَرتَدُّ، ونَعيماً لا يَنفَدُ، وقُرَّةَ عَينٍ لا تَنقَطِعُ، ومُرافَقَةَ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في أعلى جِنانِ الخُلدِ، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 1/محرم /1435هـ، الموافق: 4/تشرين الثاني/ 2013م

الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  مع الحبيب المصطفى   

26-06-2019 2340 مشاهدة
316ـ العناية الربانية بالحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

مِنْ مَظَاهِرِ العِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ سَخَّرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ المَوْجُودَاتِ، وَمِنْ مَظَاهِرِ العِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِهِ صَلَّى ... المزيد

 26-06-2019
 
 2340
20-06-2019 1387 مشاهدة
315ـ سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ مُلْكُ كِسْرَى

الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ ... المزيد

 20-06-2019
 
 1387
28-04-2019 1170 مشاهدة
315ـ«لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ»

الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ ... المزيد

 28-04-2019
 
 1170
28-04-2019 1182 مشاهدة
314ـ في محط العناية

لَقَدِ رَحِمَ اللهُ تعالى هَذِهِ الأُمَّةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُبَشِّرَاً وَنَذِيرَاً، وَجَعَلَهُ خَاتَمَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَجَعَلَ شَرِيعَتَهُ ... المزيد

 28-04-2019
 
 1182
21-03-2019 1776 مشاهدة
313- مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم : ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾

فَعَلَى قَدْرِ التَّحَمُّلِ يَكُونُ الأَدَاءُ، وَبِحَسْبِ الشَّهَادَةِ تَكُونُ المُهِمَّةُ، لِذَلِكَ عَلَّمَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِفَضْلِهِ العَظِيمِ مَا لَمْ يَكُنْ ... المزيد

 21-03-2019
 
 1776
13-03-2019 1643 مشاهدة
312- مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:«فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ»

وَجَاءَتْ تَارَةً بِمَدْحِ أَهْلِهِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾. وَقَالَ: ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾. وَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا ... المزيد

 13-03-2019
 
 1643

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412982416
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :