412ـ خطبة الجمعة: الموعودون بالنار (1)
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيَا عِبَادَ اللهِ، إنَّ الأَمَانِي أَهلَكَتْ كَثِيرَاً من النَّاسِ، فَتَرَى مِنهُم إِيمَانَاً بلا أَثَرٍ، وتَسمَعُ قَولاً ولا تَرَى عَمَلاً، تَرَى رِجَالاً مِنهُم ولا تَرَى فِيهِم عَقْلاً، عَرَفُوا ثمَّ انحَرَفُوا، حَرَّمُوا واستَحَلُّوا، يَقُولُ فِيهِم سَيِّدُنا الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لَو أَنَّ بَعْضَ مَن مَضَى انتَشَرَ حَتَّى يُعَايِنَ خِيَارَكُمُ اليَومَ لَقَالَ: مَا لهؤلاءِ في الآخِرَةِ مَن حَاجَةٍ، وَلَو رَأَى شِرَارَكُم لَقَالَ: مَا يُؤمِنُ هَؤلاءِ بِيَومِ الحِسَابِ.
يَا عِبَادَ اللهِ، لا يَدخُلُ الجَنَّةَ إلا من يَرجُوهَا، لا من يَتَمَنَّاهَا، قَالَ تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾. وقَالَ تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾.
ولا يَسْلَمُ من النَّارِ إلا من يَخَافُهَا، فَجَعَلَ بَينَهُ وبَينَهَا وِقَايَةً من تَقوَى اللهِ عزَّ وجلَّ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.
يَا عِبَادَ اللهِ، وُرُودُنَا على النَّارِ يَقِينٌ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيَّاً﴾. ولكنَّ الخُرُوجَ مِنهَا لَيسَ بِيَقِينٍ.
من صَدَّقَ بالنَّارِ ضَاقَتْ عَلَيهِ الدُّنيَا:
يَا عِبَادَ اللهِ، يَقُولُ سَيِّدُنَا الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: واللهِ مَا صَدَّقَ عَبْدٌ بالنَّارِ إلا ضَاقَتْ عَلَيهِ الأَرضُ بِمَا رَحُبَتْ، وإنَّ الُمنَافِقَ لَو كَانَتِ النَّارُ خَلْفَ ظَهْرِهِ مَا صَدَّقَ بِهَا حَتَّى يَتَجَهَّمَ ـ أي: يَقَعَ ـ في دَرَكِهَا.
واللهِ ما أُنذِرَ العِبَادُ بِشَيءٍ أَدْهَى مِنهَا، قَالَ تعالى: ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ الاْشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾. إنَّهَا نَارُ السَّعِيرِ، لا يَنَامُ هَارِبُهَا، وجَنَّةُ الفِردَوسِ لا يَنَامُ طَالِبُهَا.
الخَوفُ من النَّارِ فَلَقَ أَكبَادَ الصَّالِحِينَ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً لّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾.
يَا عِبَادَ اللهِ، إنَّ التَّخوِيفَ من النَّارِ نَالَ المَلائِكَةَ المُقَرَّبِينَ، والأَنبِيَاءَ والمُرسَلِينَ عَلَيهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، قَالَ تعالى في شَأنِ المَلائِكَةِ: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾. وقَالَ تعالى في حَقِّ الأَنبِيَاءِ: ﴿وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً﴾.
المَوعُودُونَ بالنَّارِ:
يَا عِبَادَ اللهِ، هُنَاكَ شَرَائِحُ من النَّاسِ وَعَدَهُمُ اللهُ تعالى بِنَارِ جَهَنَّمَ ـ والعِيَاذُ باللهِ تعالى ـ فالسَّعِيدُ من تَعَرَّفَ على صِفَاتِهِم ثمَّ اجتَنَبَهَا، والشَّقِيُّ من انطَبَقَتْ عَلَيهِ صِفَاتُ هؤلاءِ النَّاسِ، من الأَصنَافِ الذينَ وُعِدُوا بالنَّارِ:
أولاً: قَتَلَةُ الأَبرِيَاءِ بَغَيرِ حَقٍّ:
يَا عِبَادَ اللهِ، من النَّاسِ الذينَ وُعِدُوا بالنَّارِ قَتَلَةُ الأَبرِيَاءِ، ومن أَعَانَ على قَتْلِهِم، ولو بِشَطْرِ كَلِمَةٍ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾. ويَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ» رواه ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. ومن كَانَ آيِسَاً من رَحمَةِ اللهِ تعالى فإنَّ مَصِيرَهُ إلى نَارِ جَهَنَّمَ ـ والعِيَاذُ باللهِ تعالى ـ.
ثانياً: أَكَلَةُ أَموَالِ النَّاسِ بالبَاطِلِ:
يَا عِبَادَ اللهِ، من النَّاسِ الذينَ وُعِدُوا بالنَّارِ أَكَلَةُ أَموَالِ النَّاسِ بالبَاطِلِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾. وقَالَ تعالى: ﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَن اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «وَإِنْ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ».
وروى الإمام أحمد والترمذي عن كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ».
وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ شِبْراً مِن الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا طَوَّقَهُ اللهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وفي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ لَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَن اقْتَطَعَ شِبْراً مِن الْأَرْضِ ظُلْماً طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ».
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ، اِستَحْضِرُوا الآخِرَةَ بِقُلُوبِكُم، وتَصَوَّرُوا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾.
واستَحْضِرُوا مُنصَرَفَ العِبَادِ يَومَ القِيَامَةِ، فَرِيقٌ في الجَنَّةِ، وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ، واستَحْضِرُوا تَقَلُّبَ الظَّالِمِينَ بَينَ أَطبَاقِ النِّيرَانِ، قَالَ تعالى: ﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾. وقَالَ تعالى: ﴿مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً﴾. وقَالَ تعالى: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ﴾. وقَالَ تعالى: ﴿فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ﴾.
هل استَحْضَرَ القَتَلَةُ هذهِ المَشَاهِدَ؟ وهل استَحْضَرَ أَكَلَةُ أَموَالِ النَّاسِ بالبَاطِلِ هذهِ المَشَاهِدَ؟
اللَّهُمَّ ارحَمْنَا بِتَرْكِ المَعَاصِي مَا أَحْيَيْتَنَا. آمين.
أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 6/صفر /1435هـ، الموافق: 28/تشرين الثاني/ 2014م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد
هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد
هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد
شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد
لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد