32ـبر الوالدين :إنفاذ عهدهما ووصيتهما

32ـبر الوالدين :إنفاذ عهدهما ووصيتهما

 

بر الوالدين

32ـ إنفاذ عهدهما ووصيتهما

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ بِرَّ الوَالِدَيْنِ وَالإِحْسَانَ إِلَيْهِمَا، لَا يَنْحَصِرُ عَلَى حَيَاتِهِمَا، بَلْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ إلى مَا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا أَيْضَاً، وَهَذَا مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ الحَكِيمُ عَلَى الوَلَدِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَاتَهُ القِيَامُ بِذَلِكَ في حَالَ حَيَاتِهِمَا، فَلْيُبَادِرْ إلى بِرِّهِمَا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا.

وَأَنْوَاعُ البِرِّ وَالإِحْسَانِ إلى الوَالِدَيْنِ بَعْدَ وَفَاتِهِمَا مُتَنَوِّعَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَلَيْسَتْ مُـنْحَصِرَةً في شَكْلٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْوَاعِ البِرِّ.

وَمِمَّا يَتَوَجَّبُ عَلَى الوَلَدِ القِيَامُ بِهِ بِرَّاً بِوَالِدَيْهِ، وَتَكْرِيمَاً لَهُمَا، وَجَزَاءً لِمَا قَدَّمَاهُ وَفَعَلَاهُ وَأَكْرَمَاهُ، في حَالِ حَيَاتِهِمَا، وَخَاصَّةً عِنْدَمَا كَانَ الوَلَدُ صَغِيرَاً، فَمَا يَقُومُ بِهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ رَدِّ الجَمِيلِ، لَكِنَّهُ مُطَالَبٌ بِهِ، وَوَاجِبٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا فَعَلَ مِنْ خَيْرٍ لَهُمَا فَهُمَا قَدَّمَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَالبَادِئُ أَفْضَلُ وَأَخْيَرُ.

وَكُلُّ وَاجِبٍ عَلَى الوَلَدِ هُوَ حَقٌّ للوَالِدَيْنِ أَوْجَبَهُ اللهُ تعالى عَلَى الوَلَدِ.

عِلْمَاً بِأَنَّ نَفْعَ بِرِّ الوَلَدِ بِوَالِدَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِهِمَا يُرَدُّ عَلَى الوَلَدِ أَيْضَاً، وَهُوَ الذي يُكْرَمُ وَيُثَابُ، وَإِنْ كَانَ وَالِدَاهُ يَنْتَفِعَانِ بِمَا يَفْعَلُهُ وَيَقُومُ بِهِ.

كَمَا أَنَّ ذَلِكَ دِلَالَةٌ عَلَى انْتِفَاعِ المَيْتِ بِفِعْلِ الحَيِّ إِذَا خَصَّهُ بِذَلِكَ، وَانِتْفَاعِ الوَالِدِ بِوَلَدِهِ بَعْدَ وَفَاةِ الوَالِدِ ـ وَلَو لَمْ يَخُصَّهُ بِهِ أَيْضَاً ـ في بَعْضِ الجَوَانِبِ.

بَعْضُ مَظَاهِرِ بِرِّهُمَا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ تَنَوَّعَتْ مَظَاهِرُ بِرِّ الوَلَدِ بِوَالِدَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِهِمَا، ابْتِدَاءً مِنْ تَغْسِيلِهِمَا، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا، وَدَفْنِهِمَا، وَكَثْرَةِ الدُّعَاءِ وَالاسْتِغْفَارِ لَهُمَا، وَتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِمَا، وَإِنْفَاذِ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَقَضَاءِ الدُّيُونِ عَنْهُمَا، وَأَدَاءِ الحُقُوقِ وَالعِبَادَاتِ التي تَصِحُّ الإِنَابَةُ فِيهَا عَنْهُمَا، وَصِلَةِ الرَّحِمِ التي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامِ صَدِيقِهِمَا، وَبَرِّ قَسَمِهِما، وَصِلَةِ أَهْلِ وُدِّهِمَا، وَالتَّصَدُّقِ عَنْهُمَا، وَزِيَارَةِ قُبْرَيْهِمَا، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ البِرِّ في حَقِّهِمَا.

روى أبو داود عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟

قَالَ: «نَعَمْ: الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا ـ وفي رِوَايَةٍ: الدُّعَاءُ لَهُمَا ـ وَالاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا».

وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».

وَمِنْ خِلَالِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ وَغَيْرِهِمَا يَتَّضِحُ أَنَّ عَلَى الوَلَدِ القِيَامُ بِأُمُورٍ عِدَّةٍ بِرَّاً بِوَالِدَيْهِ، وَوَفَاءً بِحَقِّهِمَا، وَقِيَامَاً بِبِرِّهِمَا، وَمِنْ هَذِهِ الأُمُورِ التي يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ القِيَامُ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا:

أولاً: إِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا، وَوَصِيَّتِهِمَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ حَقِّ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا، روى الإمام أحمد عَنِ الشَّرِيدِ، أَنَّ أُمَّهُ أَوْصَتْ أَنْ يُعْتِقَ عَنْهَا رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، فَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: عِنْدِي جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ أَوْ نُوبِيَّةٌ (مِنْ بَلَادِ السُّودَانِ بِجَنُوبِ الصَّعِيدِ) فَأَعْتِقُهَا؟

فَقَالَ: «ائْتِ بِهَا».

فَدَعَوْتُهَا، فَجَاءَتْ، فَقَالَ لَهَا: «مَنْ رَبُّكِ؟».

قَالَتْ: اللهُ.

قَالَ: «مَنْ أَنَا؟».

فَقَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ.

قَالَ: «أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَدْ يَجِدُ الابْنُ صُعُوبَاتٍ في تَنْفِيذِ الوَصِيَّةِ، وَلَكِنْ صِدْقُ البِرِّ، وَاليَقِينُ بِاللهِ تعالى وَالتَّحَقُّقُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ﴾. هَذَا مِمَّا يُسَاعِدُهُ للمُسَارَعَةِ إلى تَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِمَا.

وَلَقَدْ جَسَّدَ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هَذَا البِرَّ تَجْسِيدَاً عَمَلِيَّاً، في حَالِ حَيَاةِ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، وَبَعْدَ مَوْتِهِمَا، هَذَا سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَضْرِبُ لَنَا أَرْوَعَ مَثَلٍ في بِرِّ الوَالِدَيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا، وَخَاصَّةً في إِنْفَاذِ عَهْدِهِمَا، وَتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِمَا.

روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الجَمَلِ دَعَانِي، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ: «يَا بُنَيِّ، إِنَّهُ لَا يُقْتَلُ اليَوْمَ إِلَّا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإِنِّي لَا أُرَانِي إِلَّا سَأُقْتَلُ اليَوْمَ مَظْلُومَاً، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي، أَفَتُرَى يُبْقِي دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئَاً؟ فَقَالَ: يَا بُنَيِّ، بِعْ مَالَنَا، فَاقْضِ دَيْنِي، وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ، وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ ـ يَعْنِي بَنِي عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ـ يَقُولُ: ثُلُثُ الثُّلُثِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ، فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ.

قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللهِ، قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ، خُبَيْبٌ، وَعَبَّادٌ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ، وَتِسْعُ بَنَاتٍ.

قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ، وَيَقُولُ: «يَا بُنَيِّ، إِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ، فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلَايَ».

قَالَ: فَوَاللهِ مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ: يَا أَبَةِ، مَنْ مَوْلَاكَ؟

قَالَ: «اللهُ».

قَالَ: فَوَاللهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ، إِلَّا قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ، فَيَقْضِيهِ، فَقُتِلَ الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَدَعْ دِينَارَاً وَلَا دِرْهَمًا إِلَّا أَرَضِينَ، مِنْهَا الغَابَةُ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ دَارَاً بِالمَدِينَةِ، وَدَارَيْنِ بِـالْبَصْرَةِ، وَدَارَاً بِالكُوفَةِ، وَدَارَاً بِمِصْرَ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ دَيْنُهُ الَّذِي عَلَيْهِ، أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِيهِ بِالمَالِ، فَيَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهُ، فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لَا وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ؛ وَمَا وَلِيَ إِمَارَةً قَطُّ وَلَا جِبَايَةَ خَرَاجٍ، وَلَا شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَوَجَدْتُهُ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ.

قَالَ: فَلَقِيَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، كَمْ عَلَى أَخِي مِنَ الدَّيْنِ فَكَتَمَهُ؟

فَقَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ.

فَقَالَ حَكِيمٌ: وَاللهِ مَا أُرَى أَمْوَالَكُمْ تَسَعُ لِهَذِهِ.

فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: أَفَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَتْ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ؟

قَالَ: مَا أُرَاكُمْ تُطِيقُونَ هَذَا، فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَاسْتَعِينُوا بِي.

قَالَ: وَكَانَ الزُّبَيْرُ اشْتَرَى الغَابَةَ بِسَبْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، فَبَاعَهَا عَبْدُ اللهِ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ حَقٌّ، فَلْيُوَافِنَا بِالْغَابَةِ، فَأَتَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَرْبَعُ مِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ لِعَبْدِ اللهِ: إِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكُمْ.

قَالَ عَبْدُ اللهِ: لَا.

قَالَ: فَإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُمُوهَا فِيمَا تُؤَخِّرُونَ إِنْ أَخَّرْتُمْ؟

فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَا.

قَالَ: قَالَ: فَاقْطَعُوا لِي قِطْعَةً.

فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَكَ مِنْ هَاهُنَا إِلَى هَاهُنَا.

قَالَ: فَبَاعَ مِنْهَا فَقَضَى دَيْنَهُ فَأَوْفَاهُ، وَبَقِيَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، وَالمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: كَمْ قُوِّمَتِ الغَابَةُ؟

قَالَ: كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ.

قَالَ: كَمْ بَقِيَ؟

قَالَ: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ.

قَالَ المُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمَاً بِمِائَةِ أَلْفٍ.

قَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمَاً بِمِائَةِ أَلْفٍ.

وَقَالَ ابْنُ زَمْعَةَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمَاً بِمِائَةِ أَلْفٍ.

فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَمْ بَقِيَ؟

فَقَالَ: سَهْمٌ وَنِصْفٌ.

قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِخَمْسِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ.

قَالَ: وَبَاعَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ، فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ: اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا.

قَالَ: لَا، وَاللهِ لَا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِيَ بِالمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ: أَلَا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَلْنَقْضِهِ.

قَالَ: فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ يُنَادِي بِالمَوْسِمِ، فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ.

قَالَ: فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَرَفَعَ الثُّلُثَ، فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ، فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَمِائَتَا أَلْفٍ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا مِنْ عَظِيمِ البِرِّ الذي يُقَدِّمُهُ الابْنُ لِوَالِدَيْهِ، مَعَ اليَقِينِ وَالثِّقَةِ بِاللهِ تعالى في تَيْسِيرِ أَمْرِ البِرِّ، وَتَنْفِيذِ عَهْدِهِمَا؛ جَعَلَنَا اللهُ تعالى جَمِيعَاً مِنَ البَرَرَةِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ مَاتَ وَالِدُهُ أَو أَحَدُهُمَا وَقَدْ قَصَّرَ بِبِرِّهِمَا في حَيَاتِهِمَا وَنَدِمَ عَلَى مَا فَرَّطَ، وَخَافَ مِنْ عَاقِبَةِ العُقُوقِ، لِيَعْلَمْ بِأَنَّ بَابَ الإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا مَفْتُوحٌ، وَبِإِمْكَانِهِ أَنْ يُدْرِكَ وَلَو شَيْئَاً قَلِيلَاً مِنَ البِرِّ بَعْدَ مَوْتِهِمَا، لَعَلَّ اللهَ تعالى أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَيرَضِّي عَنْهُ وَالِدَيْهِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَفِّذُوا وَصِيَّةَ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، وَأَسْرِعُوا لِتَنْفِيذِهَا، لِأَنَّ هَذَا مِنَ البِرِّ، وَتَذَكَّرُوا حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، إِلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ» رواه الدارقطني عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُكْرِمَنَا بِبِرِّ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا أَحْيَاءً وَمَيْتِينَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 14/ جمادى الأولى /1440هـ،الموافق: 6/ كانون الثاني / 2019م

 2019-01-20
 4065
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  بر الوالدين

25-10-2020 2214 مشاهدة
71ـ لين الجانب لهما والقول الكريم لهما

مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، أَنْ يُخَاطِبَهُمَا بِالقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَالكَلَامِ اللَّطِيفِ، وَلَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُخَاطِبَهُمَا بِالعِبَارَاتِ الحَادَّةِ، وَالكَلِمَاتِ النَّابِيَةِ، وَالغِلْظَةِ ... المزيد

 25-10-2020
 
 2214
18-10-2020 1623 مشاهدة
70ـ الإنفاق على الوالدين الفقيرين

وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، الإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا إِذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ، وَلْيَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ لَهُمَا مِنْ زَكَاةِ أَمْوَالِهِ، لِأَنَّهَا أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى ... المزيد

 18-10-2020
 
 1623
04-10-2020 988 مشاهدة
69ـ الحرص على هدايتهما (2)

حُقُوقُ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ كَبِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنْ هَذِهِ الحُقُوقِ أَنْ يَكُونَ الوَلَدُ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدَيْهِ إلى جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَأَنْ يَكُونَ نَاصِحًا أَمِينًا لَهُمَا بِأُسْلُوبٍ حَكِيمٍ، وَخَاصَّةً ... المزيد

 04-10-2020
 
 988
21-09-2020 784 مشاهدة
68ـ الحرص على هدايتهما (1)

هَذَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدِهِ كُلَّ الحِرْصِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالى لَنَا قِصَّتَهُ في القُرْآنِ العَظِيمِ لِيَكُونَ أُسْوَةً لَنَا في تَقْدِيمِ النُّصْحِ وَالحِرْصِ ... المزيد

 21-09-2020
 
 784
08-03-2020 1731 مشاهدة
67ـ وجوب توقيرهما وتكريمهما

مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ أَنْ يُوَقِّرَهُمَا وَيُكْرِمَهُمَا، فَلَا يَصِفَهُمَا بِوَصْفٍ لَا يَلِيقُ بِهِمَا، وَلَا يُنَادِيهِمَا بِأَسْمَائِهِمَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِمَهُمَا في مَجْلِسِهِمَا. كَيْفَ لَا يَكُونُ ... المزيد

 08-03-2020
 
 1731
06-03-2020 1167 مشاهدة
66ـ شكر الله تعالى على ما أنعم (2)

مِنْ فَوَائِدِ بِرِّ الوَالِدَيْنِ كَمَالُ الإِيمَانِ، وَحُسْنُ الإِسْلَامِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ العِبَادَاتِ، وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ المُوصِلُ إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَهُوَ سَبَبٌ في بَرَكَةِ العُمُرِ، ... المزيد

 06-03-2020
 
 1167

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3153
المكتبة الصوتية 4762
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411928763
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :