574ـ خطبة الجمعة: انتقم إن شئت أو اعفُ

574ـ خطبة الجمعة: انتقم إن شئت أو اعفُ

 

574ـ خطبة الجمعة: انتقم إن شئت أو اعفُ

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: هَا نَحْنُ في شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، شَهْرِ مَوْلِدِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، هَا نَحْنُ في شَهْرِ المَحْبُوبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي أَنْقَذَنَا اللهُ تعالى بِهِ مِنَ الهَوَى إلى الهُدَى، وَنَوَّرَنَا بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَنَا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا، حَتَّى تَرَكَنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى المَحَجَّةِ البَيْضَاءِ.

مَا أَحْوَجَنَا إلى تَعْمِيرِ قُلُوبِنَا وَقُلُوبِ الأُمَّةِ بِأَجْمَعِهَا، بِقَضِّهَا وَقَضِيضِهَا، بِمَحَبَّةِ الرَّحْمَةِ المُهْدَاةِ، الذي أَرْسَلَهُ اللهُ تعالى رَحْمَةً للعَالَمِينَ؟

وَمَا أَحْوَجَ الأُمَّةَ للحَدِيثِ عَمَّن تُحِبُّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَمْتَعُ مِنَ التَّحَدُّثِ عَمَّنْ تُحِبُّ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الحَدِيثُ عَنِ المَحْبُوبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَبِيبِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَسَيِّدِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَسَيِّدِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَسَيِّدِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَجْمَعِينَ؟

«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»:

يَا عِبَادَ اللهِ: نِعَمٌ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْـصَى، وَإِحْسَانُ اللهِ تعالى للعَبْدِ لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْـصَى، وَمِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الإِحْسَانِ وَالبِرِّ أَنْ يُحْسِنَ اللهُ تعالى إلى مَنْ أَسَاءَ، وَيَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَ، وَيَغْفِرَ لِمَنْ أَذْنَبَ، وَيَتُوبَ عَلَى مَنْ تَابَ، وَيَقْبَلَ عُذْرَ مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ.

فَيَا مَنْ يَرْغَبُ وَيَطْمَعُ في أَنْ يُحْسِنَ اللهُ تعالى إِلَيْهِ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَن ظُلْمِهِ، وَأَنْ يَغْفِرَ ذَنْبَهُ، وَأَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَقْبَلَ عُذْرَهُ؛ اعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مِنْكَ أَنْ تَتَعَامَلَ مَعَ خَلْقِهِ، كَمَا تُحِبُّ أَنْ  يُعَامِلَكَ هُوَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا لَهُ ذُنُوبٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، يَخَافُ أَنْ يَنْتَقِمَ اللهُ تعالى مِنْهُ، وَيَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللهُ تعالى لَهُ وَيَعْفُوَ عَنْهُ، يَا مَنْ يَرْجُو ذَلِكَ مِنْ رَبِّهِ، مَا أَجْدَرَكَ أَنْ تَتَعَامَلَ بِهَذَا الخُلُقِ مَعَ خَلْقِ اللهِ تعالى، لَعَلَّ اللهَ تعالى أَنْ يُعَامِلَكَ هَذِهِ المُعَامَلَةَ؟!

فَالجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، فَكَمَا تَتَعَامَلُ مَعَ النَّاسِ في إِسَاءَاتِهِمْ في حَقِّكَ، فَاللهُ تعالى يَتَعَامَلُ مَعَكَ في ذُنُوبِكَ وَإِسَاءَاتِكَ، جَزَاءً وِفَاقَاً؛ فَانْتَقِمْ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شِئْتَ أَو اعْفُ، وَأَحْسِنْ إلى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ أَو لَا، فَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: الإِحْسَانُ يُطْفِئُ نَارَ العَدَاوَةِ وَالحَسَدِ وَالبُغْضِ وَالبَغيِ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الآخَرِينَ، فَإِذَا زَادَكَ النَّاسُ أَذَىً وَشَرَّاً وَحَسَدَاً وَحِقْدَاً وَبَغْيَاً، زِدْ أَنْتَ إِلَيْهِمْ إِحْسَانَاً، وَنَصِيحَةً وَشَفَقَةً وَدُعَاءً، وَأَنْتَ تَـسْتَحْضِرُ حَبِيبَكَ المَحْبُوبَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي تَفْرَحُ بِهِ في شَهْرِ مَوْلِدِهِ.

لَمَّا أَسَاءَ إِلَيْهِ المُشْرِكُونَ وَضَرَبُوهُ حَتَّى أَدْمَوْهُ، فَجَعَلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» رواه الشيخان.

لَقَدْ قَابَلَ إِسَاءَتَهُمْ العَظِيمَةَ البَلِيغَةَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ العَظِيمَةِ، التي حَمَلَتْ في طَيِّهَا أَسْمَى مَقَامٍ في الإِحْسَانِ، لَقَدْ عَفَا عَنْهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَغْفَرَ اللهَ تعالى لَهُمْ، وَاعْتَذَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَاسْتَعْطَفَ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الأَزْمَةَ التي مَرَّتْ عَلَى بَلَدِنَا هَذَا، وَالتي مَا زَالَ أَثَرُهَا وَاضِحَاً، يَجِبُ أَنْ تَدْفَعَنَا إلى فِقْهِ الإِحْسَانِ، وَخَاصَّةً بَعْدَ أَنْ عَرَفْنَا مَنْ كَانَ وَرَاءَ هَذِهِ الفِتْنَةِ، التي سُفِكَتْ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَهُدِّمَتِ البُيُوتُ، وَرُمِّلَتِ النِّسَاءُ، وَيُتِّمَ الأَطْفَالُ.

تَذَكَّرُوا يَا عِبَادَ اللهِ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينَاً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾. وَقَوْلَ اللهِِ تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. وَقَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾؟

فَيَا مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعَامِلَهُ اللهُ تعالى بِالإِحْسَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ، أَحْسِنْ لِمَن أَسَاءَ إِلَيْكَ مِنْ خَلْقِ اللهِ تعالى، فكَمَا تَدِينُ تُدَانُ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِذَلِكَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 6/ ربيع الأول /1439هـ، الموافق: 24/ تشرين الثاني / 2017م

 2017-11-24
 2825
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

21-03-2024 585 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 585
14-03-2024 929 مشاهدة
904ـ خطبة الجمعة: حافظوا على الطاعات والعبادات

فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ عَامِلٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهُ هَدَفٌ يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا. وَقِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ تَأْتِي ... المزيد

 14-03-2024
 
 929
08-03-2024 855 مشاهدة
903ـ خطبة الجمعة: استقبل شهر رمضان بالأمور الآتية

هَا نَحْنُ نَسْتَقْبِلُ شَهْرَ الصَّوْمِ، وَأَنْعِمْ بِالصَّوْمِ عِبَادَةً، بِهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتُ، وَتَكْفِيرُ الخَطِيئَاتِ، وَكَسْرُ الشَّهَوَاتِ، وَتَكْثِيرُ الصَّدَقَاتِ، وَوَفْرَةِ الطَّاعَاتِ، وَشُكْرُ عَالِمِ الخَفِيَّاتِ، وَالانْزِجَارُ ... المزيد

 08-03-2024
 
 855
09-02-2024 2550 مشاهدة
902ـ خطبة الجمعة: حاله صلى الله عليه وسلم في شعبان

إِنَّ المُؤْمِنَ لَيَتَقَلَّبُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَمُدُّ اللهُ تعالى لَهُ في أَجَلِهِ، وَكُلَّ يَوْمٍ يَبْقَاهُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ غَنِيمَةٌ لَهُ لِيَتَزَوَّدَ مِنْهُ لِآخِرَتِهِ، وَيَحْرُثَ فِيهِ مَا اسْتَطَاعَ، ... المزيد

 09-02-2024
 
 2550
02-02-2024 2241 مشاهدة
901ـ خطبة الجمعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾

لِنَكنْ جَمِيعًا عَلَى يَقِينٍ أَنَّنَا سَنَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾. أَلَا وَإِنَّ الخَيْرَ كُلَّ الخَيْرِ في الجَنَّةِ، وَإِنَّ الشَّرَّ كُلَّ ... المزيد

 02-02-2024
 
 2241
25-01-2024 1483 مشاهدة
900ـ خطبة الجمعة: صورة من صور الحياء (2)

مَنْ فَقَدَ الحَيَاءَ فَقَدَ كُلَّ شَيْءٍ، وَصَارَ مُجَرَّدًا مِنْ كُلِّ خُلُقٍ نَبِيلٍ فَاضِلٍ، فَاقِدُ الحَيَاءِ مَمْقُوتٌ خَائِنٌ لَا رَحْمَةَ عِنْدَهُ، بَلْ في غَالِبِ الأَمْرِ الأَعَمِّ تَجِدُهُ مَلْعُونًا عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الخَلْقِ، ... المزيد

 25-01-2024
 
 1483

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3153
المكتبة الصوتية 4762
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411933556
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :