6ـ أخلاق وآداب: هذا هو الأصل في المؤمن

6ـ أخلاق وآداب: هذا هو الأصل في المؤمن

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فَالأَصْلُ الأَصِيلُ في الإِنْسَانِ السَّوِيِّ خُلُقُ المَحَبَّةِ لَا خُلُقُ الكَرَاهِيَةِ، فَالمُؤْمِنُ صَاحِبُ قَلْبٍ مُشْرِقٍ دَائِمَاً، مُنْفَتِحٍ لِكُلِّ عِبَادِ اللهِ تعالى، يُرِيدُ الخَيْرَ لِجَمِيعِ خَلْقِ اللهِ تعالى، وَإِذَا أَبْغَضَ أَو كَرِهَ فَإِنَّمَا يُبْغِضُ وَيَكْرَهُ الصِّفَةَ، يَكْرَهُ الرَّذِيلَةَ وَالشَّرَّ وَالفَسَادَ وَالبَاطِلَ، لِأَنَّ حُبَّهُ للحَقِّ وَالصَّلَاحِ وَالخَيْرِ وَالفَضِيلَةِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكْرَهَ وَيُبْغِضَ أَضْدَادَهَا.

وَإِذَا وَجَدَ المُؤْمِنُ أَحَدَاً مِنْ خَلْقِ اللهِ تعالى قَدِ الْتَزَمَ الصِّفَاتِ النَّاقِصَةَ، فَإِنَّ حُبَّهُ لِذَاتِ أَخِيهِ يَدْفَعُهُ إلى هِدَايَتِهِ حَتَّى يُنْقِذَهُ مِنْ ذُلِّ هَذِهِ الصِّفَاتِ في الدُّنْيَا، وَيُخَلِّصُهُ مِنْ مَآلِهَا في الآخِرَةِ، لِأَنَّ مُتَّبِعَ الرَّذِيلَةِ وَالشَّرِّ وَالفَسَادِ وَالبَاطِلِ ذَلِيلٌ في الدُّنْيَا، مُعَذَّبٌ في الآخِرَةِ.

فَالمُؤْمِنُ يُحِبُّ ذَوَاتَ الآخَرِينَ، وَيَكْرَهُ الصِّفَاتِ النَّاقِصَةَ مِنْهُمْ، فَإِذَا رَآهُمْ مُلْتَزِمِينَ تِلْكَ الصِّفَاتِ أَسْرَعَ إِلَيْهِمْ لِإِنْقَاذِهِمْ، وَقَالَ مُخَاطِبَاً لَهُمْ كَمَا خَاطَبَ الرَّجُلُ المُؤْمِنُ إِخْوَانَهُ مِنْ أَصْحَابِ قَرْيَتِهِ، كَمَا حَدَّثَنَا مَوْلَانَا عَنْهُ في سُورَةِ يس: ﴿وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِين * اتَّبِعُوا مَن لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرَاً وَهُم مُّهْتَدُون * وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئَاً وَلَا يُنقِذُون * إِنِّي إِذَاً لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِين * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُون﴾.

جَاءَ بِقَلْبٍ مُنْفَتِحٍ بِقَلْبِ مُحِبٍّ بِعَقَلِ عَاقِلٍ، لَا يَعْرِفُ حِقْدَاً وَلَا غِلَّاً عَلَى الذَّاتِ، بَلْ عَلَى الصِّفَاتِ، وَهَذَا مَا أَكَّدَ عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِشْهَادِهِ عِنْدَمَا قَتَلَهُ أَصْحَابُ الصِّفَاتِ النَّاقِصَةِ، الذينَ الْتَزَمُوا تِلْكَ الصِّفَاتِ وَدَافَعُوا عَنْهَا مِنْ خِلَالِ حُبٍّ أَرْعَنٍ لَا يَسْتَنِدُ إلى مَبْدَأِ الحَقِّ وَالفَضِيلَةِ وَالأَخْلَاقِ، فَقَالَ هَذَا المُؤْمِنُ بَعْدَ اسْتِشْهَادِهِ:  ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُون *  بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِين﴾. قَبْلَ قَتْلِهِ قَالَ: ﴿يَا قَوْمِ﴾ وَبَعْدَ اسْتِشْهَادِهِ قَالَ: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي﴾. مَا أَلْطَفَهَا مِنْ عِبَارَةٍ؟

وَمِنْ مُسْتَلْزَمَاتِ الحُبِّ العَاقِلِ المُسْتَنَدِ إلى مَبْدَأِ القِيَمِ وَالأَخْلَاقِ أَنَّهُ يَدْفَعُ صَاحِبَهُ للغِلْظَةِ وَالقَسْوَةِ أَحْيَانَاً عَلَى أَهْلِ البَاطِلِ وَالشَّرِّ وَالفَسَادِ وَمُرْتَكِبِي الكَبَائِرِ مِنْ أَهْلِ الإِثْمِ، وَمُعَادِي الحَقِّ وَالخَيْرِ وَالفَضِيلَةِ لِتَخْلِيصِهِمْ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ النَّاقِصَةِ التي يَكْرَهُهَا المُؤْمِنُ لَهُمْ، لِأَنَّهُ يَسْعَى إلى إِصْلَاحِهِمْ، وَيُشْفِقُ عَلَيْهِمْ للمَصِيرِ الوَخِيمِ الذي يَدْفَعُونَ أَنْفُسَهُمْ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ : «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» رواه الإمام البخاري. لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ سَيَأْتِيهِمْ وَقْتٌ يَقُولُونَ فِيهِ: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير﴾. لَكِنَّهُمْ لَمَّا حَمَلُوا الأَمْرَاضَ الوَبَائِيَّةَ التي حَمَلُوهَا، وَتَعَذَّرَ عِلَاجُهُمْ، لِأَنَّهُمْ رَفَضُوا بِإِرَادَاتِهِمْ كُلَّ وَسَائِلِ العِلَاجِ، كَانَ لَا بُدَّ مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ بِالبُغْضِ وَالكَرَاهِيَةِ لِذَلِكَ، وَمَتَى صَحَّ أَيُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ مَرَضِهِ الوَبَائِيِّ الخَطِيرِ عَادَ إلى مَنْزِلَتِهِ الأَصْلِيَّةِ، وَهِيَ مَنْزِلَةُ الأُخُوَّةِ، وَتَوَجَّهَ قَلْبُ المُؤْمِنِ لَهُ بِالمَحَبَّةِ.

وَتَعَالَوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ لِنَرَى تَجْسِيدَ هَذَا الكَلَامِ في قِصَّةِ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ الجُمَحِيِّ وَصَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ.

جَلَسَ عُمَيْرُ بن وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ مَعَ صَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ بَعْدَ مُصَابِ أَهْلِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْحِجْرِ بِيَسِيرٍ، وَكَانَ مِمَّنْ يُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَيَلْقَوْنَ مِنْهُمْ عَنَتَاً إِذْ هُمْ بِمَكَّةَ، وَكَانَ ابْنُهُ وَهْبُ بن عُمَيْرٍ فِي أُسَارَى أَصْحَابِ بَدْرٍ، قَالَ: فَذَكَرُوا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ بِمَصَائِبِهِمْ، فَقَالَ صَفْوَانُ: قَبَّحَ اللهُ الْعَيْشَ بَعْدَ قَتْلَى بَدْرٍ، قَالَ عمير: أَجَلْ، وَالله مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ بَعْدَهُمْ، لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيَّ لَيْسَ عِنْدِي قَضَاؤُهُ، وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ بَعْدِي، لَرَكِبْتُ إِلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَإِنَّ لِي فِيهِمْ عِلَّةً، ابْنِي عِنْدَهُمْ أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ، فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ، فَقَالَ: عَلَيَّ دَيْنُكَ أَنَا أَقْضِيهِ عَنْكَ، وَعِيَالُكَ مَعَ عِيَالِي أُسْوَتُهُمْ مَا بَقُوا لَا يَسَعُهُمْ شَيْءٌ نَعْجَزُ عَنْهُمْ، قَالَ عُمَيْرٌ: اكْتُمْ عَلَيَّ شَأْنِي وَشَأْنَكَ، قَالَ: أَفْعَلُ، قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ عُمَيْرُ بِسَيْفِهِ، فَشُحِذَ وَسُمَّ، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى الْمَدِينَةِ.

فَبَيْنَا عُمَرُ بن الْخَطَّابِ بِالْمَدِينَةِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَذَاكَرُونَ يَوْمَ بَدْرٍ وَمَا أَكْرَمَهُمُ اللهُ بِهِ، وَمَا أَرَاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ إِذْ نَظَرَ إِلَى عُمَيْرِ بن وَهْبٍ قَدْ أَنَاخَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ مُتَوَشِّحَ السَّيْفِ، فَقَالَ: هَذَا الْكَلْبُ عَدُوُّ الله عُمَيْرُ بن وَهْبٍ مَا جَاءَ إِلَّا لِشَرٍّ، هَذَا الَّذِي حَرَّشَ بَيْنَنَا، وَحَزَرَنَا لِلْقَوْمِ يَوْمَ بَدْرٍ.

ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، هَذَا عَدُوُّ الله عُمَيْرُ بن وَهْبٍ، قَدْ جَاءَ مُتَوَشِّحَاً السَّيْفَ.

قَالَ: «فَأَدْخِلْهُ».

فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى أَخَذَ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ، فَلَبَّبَهُ بِهَا، وَقَالَ عُمَرُ لِرِجَالٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الأَنْصَارِ: ادْخُلُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَاجْلِسُوا عِنْدَهُ، وَاحْذَرُوا هَذَا الْكَلْبَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ.

ثُمَّ دَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَعُمَرُ آخِذٌ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ، فَقَالَ: «أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، ادْنُ يَا عُمَيْرُ».

فَدَنَا، فَقَالَ: أَنْعِمُوا صَبَاحَاً، وَكَانَتْ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَهُمْ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَكْرَمَنَا اللهُ بِتَحِيَّةٍ خَيْرٍ مِنْ تَحِيَّتِكَ يَا عُمَيْرُ، السَّلامُ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ».

فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ كُنْتَ لَحَدِيثَ الْعَهْدِ بِهَا.

قَالَ: «فَمَا جَاءَ بِكَ؟».

قَالَ: جِئْتُ لِهَذَا الأَسِيرِ الَّذِي فِي أَيْدِيكُمْ، فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِ.

قَالَ: «فَمَا بَالُ السَّيْفِ فِي عُنُقِكَ؟».

قَالَ: قَبَّحَهَا اللهُ مِنْ سُيُوفٍ، فَهَلْ أَغْنَتْ شَيْئَاً؟

قَالَ: «اصْدُقْنِي مَا الَّذِي جِئْتَ لَهُ؟».

قَالَ: مَا جِئْتُ إِلا لِهَذَا.

قَالَ: «بَلْ قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بن أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ فَتَذَاكَرْتُمَا أَصْحَابِ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقُلْتَ: لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيَّ وَعِيَالِي، لَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْتُلَ مُحَمَّدَاً، فَتَحَمَّلَ صَفْوَانُ لَكَ بِدَيْنِكَ، وَعِيَالِكَ عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي، وَاللهُ حَائِلٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ».

قَالَ عُمَيْرٌ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، قَدْ كُنَّا يَا رَسُولَ اللهِ نُكَذِّبُكَ بِمَا كُنْتَ تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَمَا يَنْزِلُ عَلَيْكَ مِنَ الْوَحْيِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يَحْضُرْهُ إِلَّا أَنَا وَصَفْوَانُ، فَوَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ مَا أَنْبَأَكَ بِهِ إِلَّا اللهُ، فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانِي لِلإِسْلامِ، وَسَاقَنِي هَذَا الْمَسَاقَ، ثُمَّ شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، فَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ حِينَ هَدَاهُ الله.

وَقَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَخِنْزِيرٌ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ حِينَ طَلَعَ، وَلَهُوَ الْيَوْمَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ بَعْضِ بَنِيَّ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اجْلِسْ يَا عُمَيْرُ نُوَاسِكَ».

فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: «عَلِّمُوا أَخَاكُمُ الْقُرْآنَ، وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ» رواه الطبراني في الكَبِيرِ.

فَالخُلُقُ الأَصْلِيُّ الذي يُعَامِلُ بِهِ المُؤْمِنُ جَمِيعَ عِبَادِ اللهِ هُوَ خُلُقُ المَحَبَّةِ، لَا خُلُقُ الكَرَاهِيَةِ، وَبِخُلُقِ المَحَبَّةِ يُرِيدُ المُؤْمِنُ للنَّاسِ جَمِيعَاً أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَأَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ سَبِيلُ السَّعَادَةِ الخَالِدَةِ، وَهُوَ يُحِبُّ لِكُلِّ عِبَادِ اللهِ أَنْ يَكُونُوا سُعَدَاءَ، وَأَنْ يُشَارِكُوهُ في النَّعِيمِ المُقِيمِ الذي أَعَدَّهُ اللهُ للمُؤْمِنِينَ.

وَحِينَمَا يَنْظُرُ المُسْلِمُ إلى أَعْدَاءِ الحَقِّ وَالخَيْرِ وَالفَضِيلَةِ، فَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ كَمَا يَنْظُرُ الطَّبِيبُ النَّاصِحُ إلى المَرْضَى بِالأَمْرَاضِ الوَبَائِيَّةِ الخَطِيرَةِ، فَهُوَ لَا يَدَعُ وَسِيلَةً مِنَ الوَسَائِلِ التي تُيَسِّرُ سُبُلَ شِفَائِهِمْ إِلَّا وَيَسْتَخْدِمُهَا، وَحِينَمَا يَسْتَخْدِمُ بَعْضَ الوَسَائِلِ المُؤْلِمَةِ لَهُمْ، فَلَيْسَ نَاشِئَاً عَنْ بُغْضِهِ لَهُمْ، وَإِنَّمَا دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إلى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدِ الوَسِيلَةَ المُجْدِيَةَ التي لَا أَلَمَ فِيهَا.

وَلَا يَكُونُ المُسْلِمُ المُؤْمِنُ بِاللهِ أَنَانِيَّاً في الدِّينِ، فَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَحْتَكِرَ الجَنَّةَ لِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ كَمَا قَالُوا: ﴿لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودَاً أَوْ نَصَارَى﴾. وَلَا يَقُولُ: أَنَا عَبْدُ اللهِ المُخْتَارُ مِنْ دُونِ سَائِرِ النَّاسِ، وَلَا يَقُولُ كَمَا قَالُوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾. وَإِنَّمَا يَقُولُ كَمَا قَالَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾.

فَالمُؤْمِنُ شَدِيدُ الحِرْصِ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يُشَارِكَهُ في الجَنَّةِ.

وَأَمَّا مَنِ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ سُلُوكَ سُبُلِ الشَّرِّ، فَمِنْ شَأْنِ المُسْلِمِ المُؤْمِنِ الصَّادِقِ أَنْ يَكْرَهَ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ جَعَلَ أَخُوهُ في الإِنْسَانِيَّةِ نَفْسَهُ بِإِرَادَتِهِ شَيْطَانَاً آثِمَاً ظَالِمَاً، وَحَامِلَاً لِوَاءَ الدَّعْوَةِ إلى الشَّرِّ وَالضَّلَالِ، فَقَدْ قَطَعَ بِنَفْسِهِ أُخُوَّتَهُ الإِنْسَانِيَّةَ، وَعِنْدَئِذٍ يَجِدُ المُسْلِمُ نَفْسَهُ مُضْطَرَّاً بِدَافِعِ المَحَبَّةِ لَهُ إلى مُقَاتَلَتِهِ، لِمَنْعِ شَرِّهِ وَضَرَرِهِ، وَمُضْطَرَّاً بِدَافِعِ المَحَبَّةِ إلى إِعْلَانِ مُعَادَاتِهِ لِذَلِكَ، وَبُغْضِ مَا فِيهِ مِنَ الشَّرِّ.

إِنَّ مَنْ يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ سُبُلَ الضَّلَالِ وَيَنْحَازُ إلى الذينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرُسُلَهُ، يَقْطَعُ بِإِرَادَتِهِ أَوَاصِرَ أُخُوَّتِهِ للمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَكُونُ لَهُ مِنْهُمْ حُبٌّ وَلَا وُدٌّ، وَلَا يَجِدُ مِنْ أَحَدِهِمْ لَهُ حُبَّاً وَلَا وُدَّاً، وَلَو كَانَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ نَسَبِيَّةٌ قَرِيبَةٌ، لِأَنَّ حُبَّ اللهِ وَالخَيْرِ وَالفَضِيلَةِ فَوْقَ حُبِّ الأَشْخَاصِ، وَمَتَى تَعَارَضَا سَقَطَ حُبُّ الأَشْخَاصِ وَثَبَتَ حُبُّ اللهِ وَالحَقِّ وَالخَيْرِ وَالفَضِيلَةِ، فَهُوَ الأَحَقُّ بِالثَّبَاتِ وَالبَقَاءِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَا في قَلْبٍ وَاحِدٍ، مَا دَامَ هَذَا القَلْبُ مَنْطِقِيَّاً مَعَ نَفْسِهِ، لَا انْفِصَامَ وَلَا ازْدِوَاجَ في ذَاتِيَّتِهِ، وَمِصْدَاقُ هَذَا وَاضِحٌ في قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمَاً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾.

وَتَجِدُ هَذَا مُجَسَّدَاً في حَيَاةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، خُذْ عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ سَيِّدَنَا مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَانَ أَبُو عَزِيزٍ أَخُو مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ في الأَسَارَى، فقال أبو عزيز: مرَّ بِي أَخِي مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَأْسِرُنِي، فَقَالَ: اشْدُدْ بِهِ يَدَكَ، فَإِنَّ أُمَّهُ ذَاتُ مَتَاعٍ، لَعَلَّهَا تَفْتَدِيهِ مِنْكَ. رواه أبو نعيم في معرفة الصحابة.

فَهَلْ مِنْ مُنْتَصِرٍ لِصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في مُقَاطَعَةٍ للدَّنِمَاركِ وَمَنْ وَالَاهَا في مَوْقِفِهَا الحَقِيرِ؟!

 2008-03-12
 21568
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  أخلاق و آداب

08-10-2020 976 مشاهدة
59ـ آداب المريض (4)

لَقَدْ ذَكَرْنَا في الدُّرُوسِ المَاضِيَةِ أَنَّ مِنْ آدَابِ المَرِيضِ: 1ـ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ المَرَضَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. 2ـ أَنْ يَأْخُذَ الدَّوَاءَ. 3ـ أَنْ يَرْقِيَ نَفْسَهُ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى ... المزيد

 08-10-2020
 
 976
08-10-2020 626 مشاهدة
58ـ آداب المريض (3)

لَقَدْ ذَكَرْنَا في الدُّرُوسِ المَاضِيَةِ أَنَّ مِنْ آدَابِ المَرِيضِ: 1ـ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ المَرَضَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. 2ـ أَنْ يَأْخُذَ الدَّوَاءَ. 3ـ أَنْ يَرْقِيَ نَفْسَهُ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى ... المزيد

 08-10-2020
 
 626
11-03-2020 1062 مشاهدة
57ـ آداب المريض (2)

مِنَ الوَاجِبِ عَلَى العَبْدِ المُؤْمِنِ أَنْ يَرُدَّ المَظَالِمَ إلى أَهْلِهَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا وَذِمَّتُهُ بَرِيئَةٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُقُوقِ العِبَادِ، لِأَنَّ حُقُوقَ ... المزيد

 11-03-2020
 
 1062
05-03-2020 1104 مشاهدة
56ـ آداب المريض (1)

ا يُقَدِّرُ نِعْمَةَ اللهِ تعالى إِلَّا مَنْ فَقَدَهَا، فَالصِّحَّةُ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَيْنَا، لَا يُقَدِّرُهَا إِلَّا المَرْضَى، فَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ قَدْ غَفَلْنَا عَنْهَا؟ وَكَمْ مِنَ النِّعَمِ قَدْ قَصَّرْنَا بِوَاجِبِ شُكْرِهَا، ... المزيد

 05-03-2020
 
 1104
16-01-2020 1648 مشاهدة
55ـ أبشر أيها المريض

لَقَدْ جَعَلَنَا اللهُ تعالى عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَبَيَّنَ لَنَا الغَايَةَ مِنْ خَلْقِنَا، فَقَالَ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. وَمِنَ العِبَادَةِ الصَّبْرُ عَلَى الابْتِلَاءَاتِ ... المزيد

 16-01-2020
 
 1648
08-01-2020 1497 مشاهدة
54ـ آداب النظر (2)

إِسْلَامُنَا لَا يَرْضَى لَنَا أَنْ نَأْتِيَ الفَوَاحِشَ، بَلْ يَنْهَى عَنْ قُرْبَانِهَا فَضْلَاً عَنْ إِتْيَانِهَا، وَهُوَ يُحَرِّمُ الوَسَائِلَ، وَيَسُدُّ الأَبْوَابَ التي تُؤَدِّي إِلَيْهَا، لِهَذَا جَاءَتْ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، وَنُصُوصٌ ... المزيد

 08-01-2020
 
 1497

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3159
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412641727
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :