.
493ـ خطبة الجمعة: حقيقة مرة قاسية
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا عِبَادَ اللهِ: مُنْذُ خَلَقَنَا اللهُ تعالى نَحْنُ مُسَافِرُونَ، وَلَيْسَ لَنَا حَطٌّ عَنْ رِحَالِنَا إلا في الجَنَّةِ أَو في النَّارِ، وَكُلُّ مُسَافِرٍ ظَاعِنٌ إلى مَقْصِدِهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ كَانَ ظَاعِنَاً إلى اللهِ تعالى في حَالِ سَفَرِهِ، وَنَازِلٌ عَلَيْهِ عِنْدَ قُدُومِهِ ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْـمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾.
يَا عِبَادَ اللهِ: الرَّحِيلُ حَقِيقَةٌ مُرَّةٌ قَاسِيَةٌ رَهِيبَةٌ، تُوَاجِهُ كُلَّ إِنْسَانٍ وَلَا يَسْتَطِيعُ رَدَّهَا وَلَا دَفْعَهَا، الرَّحِيلُ يُوَاجِهُهُ الصِّغَارُ وَالكِبَارُ، الأَغْنِيَاءُ وَالفُقَرَاءُ، الأَقْوِيَاءُ وَالضُّعَفَاءُ، الأُمَرَاءُ وَالعَبِيدُ، يَقِفُ الجَمِيعُ مِنْهُ مَوْقِفَاً وَاحِدَاً، لَا حِيلَةَ لِأَحَدٍ وَلَا وَسِيلَةَ، وَلَا قُوَّةَ وَلَا شَفَاعَةَ، وَالكُلُّ مَرْجِعُهُم إلى اللهِ تعالى، فَبِأَيِّ وَجْهٍ كُلٌّ مِنَّا سَيَلْقَى اللهَ تعالى؟
مَا هُوَ شُغْلُنَا الشَّاغِلُ، وَهَمُّنَا الأَكْبَرَ؟
يَا عِبَادَ اللهِ: سَلَفُ هَذِهِ الأُمَّةِ شَغَلَتْهُمُ الآخِرَةُ عَنْ دُنْيَاهُمْ، فَعَمِلُوا مِنْ أَجْلِهَا، وَجَعَلُوهَا هَمَّهُمُ الأَوْحَدَ، وَشُغْلَهُمُ الشَّاغِلَ.
يُذْكَرُ بِأَنَّ رَجُلَاً جَاءَ إلى إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، مَسْأَلَةٌ شَغَلَتْنِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: اتْرُكْنِي لَا تَشْغَلْنِي، فَإِنَّ عِنْدِي مِنَ المَسَائِلِ مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ.
قَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، مَا الذي شَغَلَكَ؟
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: ثَلَاثُ مَسَائِلَ شَغَلَتْنِي؛ الأُولَى: اللهُ يَقُولُ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾. فَأَنَا لَا أَدْرِي إلى أَيِّ الفَرِيقَيْنِ أَكُونُ، مِمَّنْ تَبْيَضُّ وُجُوهُهُمْ أَو مِمَّنْ تَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ.
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾. وَأَنَا لَا أَدْرِي مِنَ الأَشْقِيَاءِ أَكُونُ أَمْ مِنَ السُّعَدَاءِ.
الثَّالِثَةُ: اللهُ يَقُولُ: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾.
يَا عِبَادَ اللهِ: هَلْ نُفَكِّرُ نَحْنُ في العَاقِبَةِ وَالمَآلِ وَالمَصِيرِ؟ مَا هُوَ شُغْلُنَا الشَّاغِلُ، وَهَمُّنَا الأَكْبَرَ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا؟
حَسَرَاتُ البَعْضِ عِنْدَ الرَّحِيلِ:
يَا عِبَادَ اللهِ: الرَّحِيلُ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا لَا بُدَّ مِنْهُ، طَالَ الزَّمَنُ أَمْ قَصُرَ، وَكُلُّنَا إلى زَوَالٍ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُفِّقَ للطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ، وَسَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ.
الرَّحِيلُ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَا يُفَارِقُ ذَا عزَّةٍ لِعِزَّتِهِ، وَذَا كَرَامَةٍ لِكَرَامَتِهِ، وَذَا سُلْطَانٍ لِسُلْطَانِهِ، وَذَا قُوَّةٍ لِقُوَّتِهِ، فَأَيْنَ الطَّوَاغِيتُ؟ وَأَيْنَ الظَّالِمُونَ؟ وَأَيْنَ قَارُونُ وَفِرْعَوْنُ؟ وَأَيْنَ نُمْرُوذُ؟ وَأَيْنَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ؟
هَؤُلَاءِ قَدْ أَصَابَتْهُمْ حَـسَرَاتٌ وَحَـسَرَاتٌ لَـمَّا ضَيَّعُوا وَفَرَّطُوا وَأَسْرَفُوا، فَكُلُّ مُفَرِّطٍ سَيَنْدَمُ عِنْدَ الاحْتِضَارِ، وَيَسْأَلُ طُولَ المُدَّةِ وَلَو شَيْئَاً يَسِيرَاً لِيَسْتَعْتِبَ وَيَسْتَدْرِكَ مَا فَاتَهُ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، كَانَ مَا كَانَ، وَأَتَى مَا هُوَ آتٍ، وَكُلٌّ بِحَسَبِ تَفْرِيطِهِ.
الرَّحِيلُ مِنْ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا إلى يَوْمٍ تَبْيَضُّ فِيهِ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، إلى يَوْمٍ يُقْسَمُ فِيهِ النَّاسُ إلى قِسْمَيْنِ ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾. إلى يَوْمٍ يَكُونُ النَّاسُ فِيهِ فَرِيقَيْنِ ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾. هَذَا الرَّحِيلُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ آتٍ لَا مَحَالَةَ.
يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَسْمَعْ جَمِيعَاً قَوْلَ الصَّادِقِ المَصْدُوقِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ لَصُعِقَ». وَلْيُصَنِّفْ كُلٌّ مِنَّا نَفْسَهُ، هَلْ هُوَ صَالِحٌ وَسَيَقُولُ: قَدِّمُونِي، قَدِّمُونِي؛ أَمْ يَقُولُ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟
الأَوَّلُ يَقُولُ: قَدِّمُونِي، قَدِّمُونِي، لِأَنَّهُ رَأَى وَسَمِعَ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ عِوَضَاً عَنْهُ مَقْعَدَاً في الجَنَّةِ؛ وَالثَّانِي يَقُولُ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟ لِأَنَّهُ رَأَى وَسَمِعَ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنَ الجَنَّةِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ عِوَضَاً عَنْهُ مَقْعَدَاً في النَّارِ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: لَا بُدَّ مِنَ الرَّحِيلِ، لَقَدِ ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، فَهَلْ رَحِيلُنَا مِنَ الدُّنْيَا مُشَرِّفٌ أَمْ مُخْزٍ؟ هَلْ سَنَسْتَبْشِرُ بِرِضْوَانِ اللهِ وَكَرَامَتِهِ، أَمْ بِعَذَابِ اللهِ وَعُقُوبَتِهِ؟ أَجَارَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ سُوءِ الخَاتِمَةِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ صَبَاحٍ إلى النَّارِ؛ لَقَدْ كَانَ الصَّالِحُونَ يَخَافُونَ مِنْ سُوءِ الرَّحِيلِ حَتَّى أَقَضَّ ذَلِكَ مَضَاجِعَهُمْ، وَجَعَلَهُمْ يَزْهَدُونَ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ هَذَا سَيِّدُنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَبْكِي في مَرَضِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟
فَقَالَ: أَمَا إِنِّي لَا أَبْكِي عَلَى دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنِّي أَبْكِي عَلَى بُعْدِ سَفَرِي وَقِلَّةِ زَادِي، وَأَنِّي أَصْبَحْتُ فِي صُعُودٍ مُهْبِطٍ عَلَى جَنَّةٍ وَنَارٍ، لَا أَدْرِي إلى أَيِّهِمَا يُؤْخَذُ بِي؟
لَقَدْ خَافَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم مِنْ سَاعَةِ الرَّحِيلِ، أَفَلَا نَخَافُ نَحْنُ مِنْ سَاعَةِ الرَّحِيلِ؟ لَقَدْ مُلِئَتْ صَحَائِفُ أَعْمَالِنَا بِالغَفْلَةِ وَاللَّهْوِ عَنْ طَاعَةِ اللهِ تعالى، إلا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى، وَلَقَدْ أَسْرَفَ البَعْضُ في سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَسَلْبِ الأَمْوَالِ، وَتَرْوِيعِ الآمِنِينَ؛ يَا هَؤُلَاءِ، وَاللهِ أَنْتُم رَاحِلُونَ عَنْ هَذِهِ الدُّنْيَا، فَهَلْ بِأَعْمَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ هَذِهِ سَتَبْيَضُّ وُجُوهُكُمْ أَمْ سَتَسْوَدُّ؟ وَهَلْ سَتَكُونُونَ مِنَ السُّعَدَاءِ أَمْ مِنَ الأَشْقِيَاءِ؟ وَمِنْ أَيِّ الفَرِيقَيْنِ سَتَكُونُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، في فَرِيقِ أَهْلِ الجَنَّةِ، أَمْ في فَرِيقِ أَهْلِ السَّعِيرِ؟
تُوبُوا إلى اللهِ تعالى قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا، وَأَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُكْرِمَنَا جَمِيعَاً بِذَلِكَ، يَا وَلِيَّ الإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، ثَبِّتْنَا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفي الآخِرَةِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ كَانَ ظَاعِنَاً إِلَيْكَ لِنَسْمَعَ: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْـمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 27/ شعبان /1437هـ، الموافق: 3/حزيران / 2016م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد
هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد
هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد
شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد
لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد